صنعت الثورة في تونس أيقوناتها مثلها مثل كلّ ثورة، ولكنّها اتّجهت إلى تتفيهها وقتلها في وقت قياسي، ومنها أيقونة الثورة الأولى محمّد البوعزيزي. فقد نال أفراد عائلته أذى كبيرًا ونُعتوا بأنّهم "طرابلسيّة جدد" قياسًا على أصهار بن علي وعبثهم بالدولة واعتداءهم على ملكيات الناس الخاصّة. وأمّا المحامي الجبهاوي صاحب صرخة "بن علي هرب" في شارع الثورة فقد تمنّى كثيرون انسحابه من المشهد قبل أن يتردّى في وحل السياسة وانحيازاتها وحساباتها المنفصلة عن كلّ قيم، وزاد ما حيك حول عدم عفويّة حركته من حكايات من ذبول اللحظة كأنّها لم تكن.
وأمّا أحمد الحفناوي صاحب الجملة الشهيرة "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخيّة"، فقد أكّد في أكثر من مناسبة بأنّ العبارة "فقدت روحها وأنّه "يعيش أتعس أيّامه"، غير أنّ الانتخابات الأخيرة وخاصّة الرئاسيّة منها أعادت أملًا في القيمة والسياسة كاد يخبو.
اقرأ/ي أيضًا: الرئيس والاتصال.. قراءة في الاتصال السياسي لقيس سعيّد
انتظار تصريف القيم ومنظومة الأخلاق إلى بدائل
مثّلت انتخابات 2019 الاستحقاق الانتخابي الرابع في الانتقال الديمقراطي، ويعتبر إنجاح أربعة استحقاقات انتخابيّة متتالية مؤشًّرا على إمكانيّة العبور إلى وضع سياسي دائم وديمقراطيّة راسخة. ومن جهة أخرى، كانت رسالة هذه الانتخابات السياسيّة في جانبها التشريعي تعبيرًا عن مزاج عام يشهد بعودة القوى المحسوبة على الثورة بعد أن شتّتتْها انتخابات 2014 بين مشاركة في الحكم مشروطة وموقف ضعيف في معارضة برلمانيّة ليس بإمكانها تمرير ما تراه صالحًا من مشاريع القوانين ولا التصدّي لأُخرى فيها عدولٌ واضح عن أهداف الثورة وخدمة أوسع الفئات الاجتماعيّة.
يَسَّر توسُّطُ الانتخابات التشريعيّة دورتيْ الانتخابات الرئاسيّة اجتماعَ الصف الثوري على دعم سعيّد، وزاد من التقابل الحادّ بين ما يمثّله المترشّحان في الدور الثاني من اتساع الفارق وبلوغ التفويض السبعين في المائة
ويَسَّر توسُّطُ الانتخابات التشريعيّة دورتيْ الانتخابات الرئاسيّة اجتماعَ الصف الثوري على دعم قيس سعيّد، وزاد من التقابل الحادّ بين ما يمثّله المترشّحان في الدور الثاني من اتساع الفارق وبلوغ التفويض السبعين في المائة.
فالانتخابات الرئاسيّة في دورها الثاني لم تكن على برامج، ويتأكّد هذا الأمر مع إصرار قيس سعيّد على أنّه ليس له برنامج وإنّما برنامجه هو أنّ الشعب يعرف بمفرده ما يريد. ويقدّم نقدًا جذريًا للنظام السياسي نظام الديمقراطيّة التمثيليّة الفوقي ويَعِدُ بنظام للديمقراطيّة المباشرة يبدأ بناؤها قاعديًا.
هذا التوجّه إلى انتظام سياسي بديل يجد مصداقيّته في المشهد السياسي الحالي المتعثّر في تشكيل الحكومة بعد انتخابات 6 أكتوبر/تشرين الثاني التشريعيّة. والثورة التي بالغت في طمس أيقوناتها تسعى من خلال الانتخابات الرئاسيّة إلى استدعاء معنى جديد. فلم يكن تصويتًا على برنامج وإنّما على الخلق الرفيع ونظافة اليد. وكان "غموض" قيس سعيّد الذي لم يُعرف له ماض سياسيّ مطلوبًا أمام انكشاف كلّ الرموز والقيادات السياسية وسقوط كثير منهم في اختبار الأخلاق. وزادت حدّة المعارك والإمعان في التنابز بالارتهان للسيستام والعلاقة بالفساد والتنكّر للأهداف من تدنّي صورة رجل السياسي وذبول قيمة المشاركة السياسية.
في هذا السياق، استجابت صورةُ قيس سعيّد لصورة السياسي المطلوبة، رغم أنّ النظام السياسي الذي اقترحه المسار التأسيسي نظام شبه برلماني بصلوحيات محدودة لرئيس الجمهوريّة تقتصر على الأمن القومي والشؤون الخارجيّة والديبلوماسية بوجهيها السياسي والاقتصادي. لكنّ رسوخ النظام الرئاسي على مدى أكثر من ستّة عقود لم يغيّر جذريًا من صورة الرئيس في الأذهان ولا من انتظارات الناس تجاه مؤسسة الرئاسة ودورها في تخطّي الأزمة الهيكليّة التي تضرب البلاد. فانفتح الانتظار على أمل تصريف الرئيس سعيّد على القيمة الأخلاقيّة التي مثّلها إلى مساهمة في حلّ مشكلات البلاد. وبذلك لم يعد المتلقّي مرتاحًا كثيرًا إلى تذكير رئيس الجمهوريّة في كلّ مرّة بجملة المثل و"ما يجب أن يكون" ومطالبًا بجملة الحلول و"ما يمكن أن يكون"، وكان هذا أوّل ملامح النقد الموجّه إلى رئاسة الجمهوريّة.
مائة يوم على انتخاب الرئيس
بدأ هذا التقليد المجلوب يجد مكانًا له، فقد كان مع الرئيس الباجي واستُئنف مع الرئيس قيس سعيّد، وعمدت التلفزة الوطنيّة الأولى إلى تنظيم لقاء صحفي معه لتقييم مائة يوم من حكمه. غير أنّ التعثّر في تشكيل الحكومة وسقوط حكومة الحبيب الجملي في التصويت على الثقة سيجعل تقييم أداء رئيس الجمهوريّة منقوصًا.
الانتقادات الأولى للرئيس سعيّد كانت في حقيقتها امتدادًا لملابسات الدور الثاني من الانتخابات، ورغم الغموض الذي يحيط بالمترشّح قيس سعيّد فإنّ الإطمئنان إلى نظافة الرجل وصدقه كان لها وقعها على ما يسمّى بالصف الثوري. وهو الصف الذي لا يمكنه ألاّ يقارن مؤسسة الرئاسة مع سعيّد بمؤسسة الرئاسة تحت الباجي ومستشاريه (بن تيشة نموذجًا). وكانت هناك قناعة بأنّه حتّى وإن لم يتسنّ للرئيس سعيّد المساهمة بحلول للمشاكل القائمة، فإنّ وجود شخصيّة بخُلُقه مهمّ للإطمئنان إلى مؤسسة الرئاسة على أمل أن تتدعّم علاقتها بمسار تأسيس الديمقراطيّ. ولم يكن انتقاده للنظام السياسي وللدستور مثارا للانزعاج، فضلاً عن أنّ المواطن العادي لا يرى نجاعة فعليّة للنظام السياسي البرلماني في مواجهة المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة الهيكليّة.
يركّز أحد المواقف من قيس سعيّد على ما يتّسم به مشروعه من إبهام وغموض ممثّليه وحزامه، ولقد ظهرت إلى حدّ الآن جهات تبدو مختلفة حدّ التناقض، ولكنّها تتقاطع في إسناد سعيّد
أوّل النقد الموجّه للرئيس سعيّد كان في أيّامه الأولى من مؤيّدي مرشّح قلب تونس، وقد وجد نبيل القروي مساندة من المحسوبين على "السيستام"، ومن المدافعين عن النمط المجتمعي التونسي والتيار الحداثي خاصّة بعد موقف قيس سعيّد من موضوع المساواة ورفضه أن يخالف صريح القرآن والمحكم منه. ولكن كانت حالة التناقض مع النهضة تخفّف من حدّة الموقف تجاه قيس سعيّد خوفًا من أن تتوسّع جبهة الصف الثوري ومن أن تنجح النهضة في التمترس وراء هذه اليافطة. ومن ناحية أخرى، امتدّ الخلاف بين يوسف الشاهد رئيس حكومة تصريف الأعمال ونبيل القروي الذي يتّهمه بأنّه وراء حبسه وتأثيره على القضاء ومسار التقاضي. ويمثّل الشاهد، في تقدير بعض المراقبين، رأس حربة السيستام الجديدة في مواجهة حركة النهضة ومشروعها ممّا يجعل من النهضة والشاهد طرفي الصراع الرئيسي وجولة أخرى من صراع القديم والجديد، ولا تمثّل المستويات الأخرى أكثر من فروع عنه.
اقرأ/ي أيضًا: حكومة إلياس الفخفاخ.. لا يمكن إلا أن تمر!
وهناك تصوّر مقابل يجعل من قيس سعيّد طرفًا رئيسيًا فيه وتمثّل النهضة طرفه الثاني، ويخيّم على المشهد اتجاه إلى عزل النهضة كمرحلة في مسار إخراجها من الحكم، وهذا ما يفسّر عودتها في المشهد وعكسها الهجوم لاستعادة المبادرة، بعد إسقاط حكومتها أمام البرلمان. وحمْلها الفخفاخ على التراجع النسبي، ودفعه إلى تقوية حزام حكومته السياسي وتوسيع قاعدتها البرلمانيّة بإشراك قلب تونس، فهي مازلت تحت وقع العدد 134 (النواب الذين لم يمنحوا الثقة لحكومة الجملي) وخشيتها من أن يلتقوا من ورائها وفي غفلة منها.
مثّل التفويض غير المسبوق نقطة جذب واستقطاب للفاعلين السياسيين، وقدّر أغلبهم أنّ حول الرئيس سعيّد الذي ليس له حزب ولا كتلة برلمانيّة فراغًا يمكن الاستثمار فيه، لذلك كان رئيس حكومة تصريف الأعمال يحرص على التقرّب من رئيس الجمهوريّة فضلًا عن اشتغاله على جبهة التعيينات في المواقع المفصليّة والحسّاسة، ووجدت حركة الشعب ضالّتها في صيغة "حكومة الرئيس".
النقد المطلوب والثلب المرفوض
هناك اختلاف في تقييم المائة يوم من رئاسة قيس سعيّد. ويمكن تبيّن ثلاث مواقف: موقف أوّل يدافع بالجملة عن قيس سعيّد ومشروعه، ويدعو إلى الاستعداد الشامل لتنزيل المشروع، ويكتفي بإعادة العناوين العامّة الواردة في حملة الرئيس الانتخابيّة. وموقف ثاني لا يُخفي اطمئنانه إلى أمانة قيس سعيّد ونبله وخلقه الرفيع، ولكنّه يصرّ على أنّ مشروع سعيّد لا يعدو أن يكون عناوين عامّة تحتاج إلى تفصيل وتدقيق وأمثلة عمليّة ونماذج واقعيّة. ولا يخفي هذا الموقف انزعاجه من عجز قيس يعيّد ومحيطه عن إنجاز الجمل السياسيّة المطلوبة لا سيّما في اللقادات العربيّة والدوليّة. فالتعميم لا يُتلقّى بإيجابيّة في كلّ السياقات.
إنّ الاختلاف حول الرئيس سعيّد علامة صحّة في المسار لا يمسّ من مرجعيّة الشخص المؤسساتية والأخلاقيّة، وستتوضّح الصورة أكثر مع تشكيل الحكومة واستئناف السير الطبيعي لمؤسسات الدولة
ويركّز موقف ثالث على ما يتّسم به المشروع من إبهام وغموض ممثّليه وحزامه، ولقد ظهرت إلى حدّ الآن جهات تبدو مختلفة حدّ التناقض، ولكنّها تتقاطع في إسناد قيس سعيّد والتذكير بأنّها من مشروعه.
إلى هذا الحدّ، يبدو النقد مقبولًا لا يخرج عن تقاليد الاختلاف السياسي وأخلاقياته، وهذا الضرب من النقد الذي يطول فريق الرئيس سعيّد وضعفه الاتصالي، وانحصار فعله وانعزاله بين جدران القصر، وانفتاحه المطلوب على الجهات، وغير هذا من مستويات النقد، لكنّ وجود مستوى من الخطاب لا يكاد يتّسع له النقد بسبب خروجه إلى التجريح والتشكيك في الذمّة، بل والاتهام بالولاء للخارج.
صدر هذا عن أحد نواب قلب تونس تعليقًا على مقابلة الرئيس الصحفيّة بمناسبة مرور مائة يوم على رئاسته، ولئن أمكن قبول نقد النائب لأداء الرئيس وعلاقته بثقافة الدولة وتقاليدها فإنه لا شيء يبرّر الاتهام المجاني بالتخابر مع الأجنبي.
وصدر هذا الضرب من التجنّي من البروفيسور أبي يعرب المرزوقي وقد أثار سبابُه استهجانًا واسعًا، ولم يكن هناك من مبرّر لشططه في الحكم وخروجه عن النقد السياسي وإمعانه في الترذيل، وكان هذا دأب أبي يعرب المرزوقي مع كل الرؤساء والشخصيات المحسوبة على الخط الثوري وفي مقدّمتهم الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي، في حين لم يتردّد في تزكية بعض رموز القديم ومنهم الرئيس الباجي محاولًا تأصيلًا لا نحتاجه لسياسة توافق النهضة مع النداء.
المشهد السياسي بما فيه من صراع محتدم لا يحترم أدبيات النقد وأخلاقياته، ولهذا تأثيرٌعلى المسار الذي نجح رغم تعثّره في بناء المنظومة الديمقراطيّة وفرض الصراع الديمقراطي على القديم بما في ذلك مكوّنه الفاشي.
مسار الانتقال الديمقراطي ومؤسسات النظام السياسي الجديد في حاجة إلى المرجعيّة الأخلاقيّة التي ارتبطت بصعود الرئيس قيس سعيّد، ولن يكون للنقد الموجّه إليها، ولو كان جذريّا، أثر سلبيّ، فالنقد مطلوب في كلّ الحالات، وهو غير التجريح والثلب والطعن في الشرف. وإنّ الاختلاف حول الرئيس سعيّد علامة صحّة في المسار لا يمسّ من مرجعيّة الشخص المؤسساتية والأخلاقيّة، وستتوضّح الصورة مع تشكيل الحكومة واستئناف السير الطبيعي لمؤسسات الدولة. فالثورة التي تُسرع إلى تتفيه أيقوناتها قد لا تجد نقطة ارتكاز وعلامة مرجعيّة تحدّد بها موقعها واتجاهها.
اقرأ/ي أيضًا: