21-فبراير-2020

لم يكن الوصول إلى تشكيلة تحمل الحد الأدنى من التوافق الذي يسمح بإجازتها سهلًا (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

أفلح أخيرًا إلياس الفخفاخ، المكلّف بتشكيل الحكومة في تونس، في تقديم فريقه المقترح إلى مجلس نواب الشعب طلبًا للحصول على التزكية بعد ثلاثة أشهر كاملة انقضت إثر انتهاء الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

لم يكن الوصول إلى تشكيلة تحمل الحد الأدنى من التوافق الذي يسمح بإجازتها سهلًا باعتبار ما خلفته المرحلة السابقة من جراحات في طبيعة العلاقات الحزبية

ورغم أن الفخفاخ لم يتحمل مسؤولية التكليف سوى لشهر واحد، بعد أن أضاع سلفه الحبيب الجملي شهرين كاملين في الحوار السياسي دون فائدة تذكر، سوى تأزيم العلاقات بين الأحزاب، فإن عموم التونسيين لا يهتمون كثيرًا بهذه التفاصيل ولا بمن تعلق المسؤولية على عاتقه أكثر من غيره بقدر ما يلقون اللوم على المنظومة السياسية بأكملها في ما آلت إليه الأوضاع.

اقرأ/ي أيضًا: دكتاتوريات داخل الأحزاب واستقالات بلا حساب

الثقة المعدومة

لم يكن الوصول إلى تشكيلة تحمل الحد الأدنى من التوافق الذي يسمح بإجازتها سهلًا باعتبار ما خلفته المرحلة السابقة من جراحات في طبيعة العلاقات الحزبية، إذ شهدت هذه المرحلة انخراطًا غير مسؤول من أغلب الأطراف الحزبية في حرب كلامية قوامها التشويه والاتهامات الخاوية من أية أدلة أو إثباتات وتحميل للمسؤولية عن الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية خلال حقبة زمنية صعبة يعرف الجميع أن رواسبها تعود الى عقود من الفساد راكمتها حكومات الاستبداد.

المشاكل داخل الفريق الحكومي على خطورتها قد لا تمثل شيئًا أمام ما يشهده البرلمان من فوضى

وزاد الطين بلة سوء تقدير المكلف الحبيب الجملي الذي حاول في لحظة متعجلة حسم الموقف باعتماد خيار غريب قوامه إقصاء كل الأحزاب خارج حساباته والتعويل على الكفاءات المستقلة، ونسي أنه مدعو إلى المرور عبر سراط المجلس النيابي حيث ينتظره من يملكون القبول والردّ، فكان مصيره مؤسفًا وسقط سقوطًا مدويًا لم تشهده أي حكومة أخرى خلال فترة الانتقال الديمقراطي رغم ما فيها من تجاذب.

وكان لهذه الواقعة كلفة باهظة عمقت الضغينة بين السياسيين وانعدمت الثقة وانتفت إمكانية الالتقاء ثانية. وتحددت أول المطبات التي ستعترض الحكومة القادمة في حال المصادقة عليها خلال الموعد الذي حدد ليوم الأربعاء القادم، وهو إشكال عويص بات يطرحه الملاحظون بارتياب، فكيف يجلس من لا يمتلكون أدنى ذرة من الثقة في بعضهم بعضًا على طاولة واحدة ويعملون معًا على تحقيق هدف مشترك.

حزام ضعيف

وعلاوة على وجود العائق النفسي للأطراف المشكلة للحكومة، فإن الائتلاف في حد ذاته لا يرقى إلى إرساء طمأنينة معقولة تبشر بمستقبل واعد للحكومة وتنبئ ببلوغها الأهداف المرجوة. إذ يتكون الحزام الداعم لها من أربعة أحزاب سياسية فقط وهي حركة النهضة (54 نائبًا) والتيار الديمقراطي (22 نائبًا) وحركة الشعب (16 نائبًا) وتحيا تونس (14 نائبًا)، إضافة إلى حزبين دون تمثيلية تذكر وهما البديل الديمقراطي (3 نواب) ونداء تونس (3 نواب). هذا الحزام يمكّن بالكاد من المصادقة على الحكومة ولكنه يجعل جميع الأطراف تحت رحمة بعضهم بعضًا إذ يكفي انسحاب أي طرف حتى تسقط الحكومة برمتها.

ينتظر اتحاد الشغل الانطلاق في جولة جديدة من المفاوضات الاجتماعية خلال شهر مارس القادم في ظل ميزانية شبه خاوية

والمشاكل داخل الفريق الحكومي على خطورتها قد لا تمثل شيئًا أمام ما يشهده البرلمان من فوضى أنتجتها حالة التفتت التي سببها القانون الانتخابي الموضوع خصيصًا إبان الثورة لتحجيم دور أي حزب يحاول السيطرة على المشهد السياسي بمفرده. ولئن كان ذلك مفهومًا ومقبولًا في المرحلة الانتقالية فإنه بات اليوم عائقًا حقيقيًا أمام الاستقرار في كل مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد انتبه المشرعون إلى هذه المعضلة وانطلقوا في تلمس طريق الإصلاح بطرح تنقيح على هذا القانون يقلص من حالة التشظي ولو نسبيًا، وسيعرض أمام الجلسة العامة للتصويت عليه خلال شهر مارس/آذار القادم ولكن حظوظ إقراره بالشكل المطروح أمامه اعتراضات وانتقادات واسعة.

والحديث عن المجلس النيابي يحيلنا إلى وجود قوى ممثلة داخله لم يتم إدراجها ضمن الفريق الحكومي، مما يزيد الصعوبات عسرًا باعتبار أن ثلاثة كتل نيابية ممثلة في البرلمان هي قلب تونس (38 نائبًا) وائتلاف الكرامة (19 نائبًا) والحزب الدستوري الحر (17 نائبًا) يمكنها أن تشكل معارضة قوية قادرة على تعطيل مشاريع القوانين، وهذا عامل آخر خارجي ضاغط ينضاف إلى العوامل الداخلية.

اقرأ/ي أيضًا: أي أسباب لعزوف النهضة عن وزارة التربية وإقبالها على بقية الحقائب؟

منظمات اجتماعية متربصة

كل ذلك على خطورته وعظم تأثيره قد لا يساوي كثيرًا أمام ما قد تلاقيه الحكومة المقترحة خلال تعاملها مع المنظمات الوطنية، ممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يطالب منذ مدة طويلة بضرورة إرساء أي حكومة حتى ينطلق في التفاوض معها حول الكثير من القضايا النقابية المعطلة، بعد أن أجّل المطالبة بها حتى تتضح الصورة ويتبين المخاطب المسؤول. ولعل على رأس الملفات الحارقة التي من المرجح أن تكون المحدد الأساسي في طبيعة العلاقة بين الطرفين ما اصطلح على تسميته بإصلاح المؤسسات العمومية خصوصًا مع وجود توجه ليبرالي داخل الحكومة يسعى للتفريط في بعض من هذه المؤسسات بتعلة انعدام الفائدة وارتفاع الكلفة. كما ينتظر أيضًا الانطلاق في جولة جديدة من المفاوضات الاجتماعية خلال شهر مارس/آذار القادم في ظل ميزانية شبه خاوية.

وينضاف إلى المنظمة الشغلية الرئيسية، اتحاد الصناعة والتجارة بما يمثله من ضغط رجال الأعمال والصناعيين الذين أنهكتهم سنوات الانكماش الاقتصادي الناتجة عن ارتفاع كتلة الأجور وضعف الإنتاجية في ظل منافسة غير متكافئة من القطاعات الموازية الناتجة عن معضلة التهريب. كما لا يخفى ما يعانيه القطاع الفلاحي من أزمة تتضاعف كل يوم بسبب مديونية الفلاحين وانحباس الأمطار وسوء تثمين الإنتاج عند الوفرة وخير مثال على ذلك قطاع زيت الزيتون الذي ينذر بإفلاس أغلب الفلاحين في هذا الميدان رغم بلوغ انتاج قياسي بلغ 350 ألف طن.

تحديات كثيرة ومتشعبة تتقاطع في أكثر من ملف وهي وضعية لا تحسد عليها حكومة إلياس الفخفاخ وتنبئ بفشل شبه مؤكد

كل ذلك يزيد حدة الضغط على فريق الحكومة القادمة ويجعل الخروج من تحديات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية مسألة متعسرة بعد أن بلغت المديونية 72 في المائة من الناتج الوطني الإجمالي وتراجع النمو إلى حدود 1 في المائة سنة 2019. ويزيد في حدة المخاطر العلاقة غير الواضحة مع الأطراف الدولية المانحة والمؤسسات المالية المقرضة التي باتت تنظر بانشغال إلى تعطل المسار السياسي، وتتشكك في قدرة البلاد على الإيفاء بالتزاماتها خصوصًا بعد الإخفاق في تحقيق الاتفاقات والتعهدات بإدخال الاصلاحات المطلوبة في قطاع الوظيفة العمومية من حيث ارتفاع كلفة التأجير وكذلك في تقليص تدخلات صندوق الدعم ومراجعات أسعار المحروقات.

تحديات كثيرة ومتشعبة تتقاطع في أكثر من ملف، وإرضاء جهة معينة لا بد أن يمر عبر إغضاب أطراف أخرى والتوفيق بينها مفروض إذ لا إمكانية لتجاهل أي طرف مهما كان حجمه، وهي وضعية لا تحسد عليها حكومة إلياس الفخفاخ تنبئ بفشل شبه مؤكد، ولكنه قد يكون نقطة بداية صحيحة لحكومة أخرى تنطلق من القفز على الأخطاء الهائلة التي تم ارتكابها يوم حدد رئيس الحكومة المكلف رؤيته القائمة على تقسيم السياسيين إلى أخيار وأشرار وأقر إقصاء جزء كبير من الأحزاب من المعادلة السياسية، بتعلات غير سليمة متجاهلًا أن الثورة التونسية قامت أساسًا ضد الإقصاء والتهميش.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حكومة الفخفاخ.. أزمة الربع ساعة الأخير والسيناريوهات الممكنة

بداية الاختلاف حول قيس سعيّد