26-فبراير-2020

قدرة لافتة للغنوشي على التحكم في ردود أفعاله (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

يتميز راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس النواب بقدرة فائقة على ضبط النفس، عبثًا يحاول الجاحدون أو المتعسفون في الأحكام إنكار هذه السمة التي تعلن عن نفسها بنفسها إعلان المؤذن خاصّة من خلال مداولات البرلمان التي يجري نقلها علنيًا، فتعرض للمتفرجين صورة رجل بلغ من الكبر عتياً "أشبه بتمثال الشمع" قد أحاط به نواب من أنصاره وخصومه أدركوا في تدافعهم أعلى درجات الهرج والمرج.

هذا السلوك "الغنوشي" السلبي، يَراه غُلاة الإسلاميين ومتشددو النهضة آية ذل وهوان، ويظنه أعداء "الشيخ" أمارة ضعف وخسران،  ويعتبره العارفون بأصول التواصل السياسي وإكراهاته علامة نضج واقتدار.

لا تكمن عظمة هذا الثبات الانفعالي في هدوء الرجل ورصانته ملمحًا وقولًا وحركة وإيماءة، إنما تكمن خاصّة في ما يحمله من طاقة فريدة على تحمّل الطعان والاتهامات من كل صوب

لا تكمن عظمة هذا الثبات الانفعالي في هدوء الرجل ورصانته ملمحًا وقولًا وحركة وإيماءة، إنما تكمن خاصّة في ما يحمله من طاقة فريدة على تحمّل الطعان والاتهامات من كل صوب وبأساليب متنوعة، فهي في الغالب قائمة على الخطاب المباشر وأحيانًا تنحو منحى التهكم والسخرية والاستخفاف.

 وقد تحولت في بعض المناسبات إلى ما يشبه الهبة الشعبية ذات الحرارة الثورية، ومن المشاهد التي ظلّت عالقة في الأذهان تلك الشعارات التي تم رفعها في جنازة الشهيد شكري بلعيد في 8 فيفري/ شباط 2013، منها "يا غنوشي يا سفاح يا قتال الأرواح" وقد تكررت هذه الهتافات في مقامات أخرى كلما احتدّ الصراع بين النهضة ومناوئيها، فكان يتلقى الغنوشي الجرعة الأكثر والصدمة الأشدّ نيابة عن بقية قادة الحركة وأنصارها والمتعاطفين معها.

اقرأ/ي أيضًا: حكومة الفخفاخ.. التركيبة والمستقبل

حتّى في البرلمان لا نجاة ولا أمان

ظلّ الذمّ والتشنيع طاردان الغنوشي حيثما حلّ، ولم يستطع الإفلات من القدح والإهانة حتى وهو في حصنه البرلماني بباردو، فهاهي عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر تقضّ مضجعه وتمعن في إذلاله وتدفع بالاتهام إلى "الخيانة العظمى والتخابر مع دولة أجنبية".

ولم تنفع الغنوشي صلة الرحم الثورية التي تجمعه مع التيار الديمقراطي فقد قصفته سامية عبو بنيران نقدية ملتهبة بسبب بعض التعيينات قائلة في إحدى تدخلاتها: "إنّ ما اقترفته يدخل في باب الجريمة فمرحبًا بك في عالم الجريمة".

ورغم أنّ الجبهة الشعبية تسير إلى الزوال والتلاشي، فقد تمكنت بجناح واحد من إحداث رفرفة موجعة تحركت فوق جروح نهضوية لم تندمل بعدُ، إذ أمعن منجي الرحوي النائب اليساري اليتيم داخل البرلمان في التذكير بمسائل ما إن يتم طيّها حتى تعود من جديد في ما يشبه حرب الاستنزاف لم يكن الرحوي معنيًا بالسياق أو المقام إنما كان همه وما يزال إحياء السرديات التي تزج بالنهضة في خانة العنف بداية من أحداث باب سويقة إلى قضية الجهاز السريّ مرورًا بمَرْوِيّة العلاقة مع تنظيم الإخوان وقصة تسفير الشباب إلى بؤر التوتر والإرهاب.

مدارج الكلمات وكيس اللكمات

لا أشك في نزاهة عدد هام من خصوم راشد الغنوشي فقد دأبوا على إبداء الرأي بشجاعة منذ عقود، لكن هذه الصفات لا يستحقها النقاد الجدد الذين تحرروا من خوفهم في زمن "النضال الناعم"، فلا تضييق ولا مطاردة ولا سجن ولا تعذيب ولا تقتيل، هؤلاء المبتدئون أرادوا الصعود في مدارج الكلمات والحريات، فاحتاجوا إلى "كيس اللكمات" (Sac de box) ينهالون عليه ضربًا، فلا يُبدي ألمًا ولا يتظلم ولا يتوعد ولا يرد الفعل.

الكثير من عامة التونسيين وخاصتهم يتدربون على حرية التعبير وتعاطي رياضة الشجاعة بالطعن في راشد الغنوشي وسبّه

هذا شأن الكثير من عامة التونسيين وخاصتهم يتدربون على حرية التعبير وتعاطي رياضة الشجاعة بالطعن في راشد الغنوشي وسبّه، بعضهم عاجز عن رفع رأسه أو البوح بمجرد رأي في مقام أسري أو مهني أو اجتماعي، ترى هذا السبّاب اللعان منبوذًا مهانًا كل ما فيه وما لديه مستباح، ماله وعرضه وممتلكاته، لكنه لا يقدر إلا على شتم الغنوشي واتهامه، إنها منطقة المغامرة النقدية الآمنة.

اقرأ/ي أيضًا: عفوًا انتهى رصيدكم النضاليّ

لا نُنزه الغنوشي عن الخطأ، وقد خضنا مرارًا في تجاوزاته السياسية وشرحناها وفصلنا القول فيها، بل اعتبرناه أحد مهندسي عودة المنظومة القديمة، ولكننا أردنا أن نقدم شهادة وصفية علمية موضوعية تنصف هذا الرجل في جانب من جوانب سلوكه التواصلي. ومن عجائب الأمر أن هذا الموقف رغم بساطته قد يبدو بالنسبة إلى العديد من المتعصبين ضربًا من ضروب التمجيد، ألم أقل يومًا إن البوح برأيِ منصف في زمن "العنف السيّال" يحتاج إلى شجاعة لا يحتاجها المتكلم إن اختار مسلك القذف والتشهير وإلقاء التهم على عواهنها؟ ولا صلة لهذا الشهادة باختيارات هذا الرجل السياسية وعلاقاته الخفية في تونس أو خارجها فهذا شأن لا علم لنا به إلا ما طال أعيننا وبلغ مسامعنا.

اعتمادًا على منهج المقارنة يمكن الاهتداء إلى أن الغنوشي هو الأكثر صبرًا على الانتقاد بين سائر الشخصيات السياسية، لا سيما رؤساء الجمهورية الذين حلوا بقصر قرطاج منذ الثورة، فقد كان المنصف المروزقي ميالًا إلى اتهام منتقديه بالاصطفاف وراء حلف عربي وإقليمي معاد للحرية ومتربص بالديمقرطية.

 وقد دأب الباجي قائد السبسي الرئيس الراحل على إظهار التوتر في مناسبات عديدة، فنعت عددًا من الامنيين بالقردة، كان ذلك سنة 2011 حينما كان يشغل خطّة الوزير الأول المؤقت، وتكررت هذه الردود المتوترة في سياق آخر حينما شتم إحدى الصحفيات بعبارة غير أخلاقية، ورمى في حيّز لاحق رزمة أوراق على الإعلامي محمد بوغلاب، وتحدث عن محرزية العبيدي النائب بالبرلمان مستخفا قائلاً "مالْها إلا مرا "، وأتى أكثر من مرة حركات فيها ما فيها من غضب وتشنج.

أما قيس سعيّد رئيس الجمهورية الحالي، فرغم الشعبية التي يحظى بها والمنزلة الاعتبارية التي نالها خاصة في صف "الخط الثوري" إلا أنه لم يصبر على الانتقاد فقد وجه الاتهام في أكثر من مناسبة إلى أطراف مجهولة وإلى الفاسدين و"الغرف السوداء التي تحاك فيها المؤامرات في الظلام"، قد تكون لهذه الاتهامات دعائمها التي لا نعرفها. لكن القراءة الوصفية تؤكد لنا فعلًا أن الغنوشي هو أبعد القادة والشخصيات السياسية عن لغة التظلم والشكوى والتوعد، هذا الحكم ليس معياريًا مطلقا فقد يتفوق البقية عليه في نواح سياسية وتواصلية أخرى.

أيّ سرّ فيك؟

قدرة الغنوشي على التحكم في ردود أفعاله على ذاك النحو اللافت، تدفعنا إلى التساؤل، أي سرّ في هذا الرجل؟ هذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه بيسر، لأنّ الشخصية التي نحن إزاءها شديدة التعقيد فتجربته أستاذًا وشيخًا ورجل دولة كثيرة التقلب والتبدل، لكن يحق لنا الاستئناس ببعض الفرضيات.

 يبدو أنّ "الشيخ" قد كان الأكثر معاناة ومكابدة نفسيًا وجسديًا وذهنيًا منذ تسعينيات القرن السابق، فكأنه قد تمرس بالآفات والهموم والمحن

الفرضية الأولى مفادها أنّ ضبط النفس مرجعه العمر، ففي 22 جوان/ حزيران2020 يبلغ الغنوشي ثمانين حولًا، ففي هذه المرحلة من الحياة يصبح المرء أقل توترًا وأكثر هدوء ورصانة وحكمة وصبرًا، غير أن هذه الفرضية قد لا تستقيم، فلو كان الأمر كذلك لتماثلت ردود فعل الغنوشي والباجي قائد السبسي الرئيس الراحل.

الفرضية الثانية تتصل بالمنزلة، فعُلُو المقام السياسي أو الاجتماعي أو العلمي غالبًا ما يدفع صاحبه إلى الترفع عن الخصام وردود الأفعال، لكن هذه الأطروحة مدحوضة بلا شك، فالمقام المُشار إليه يشترك فيه كل الرؤساء الذين بلغوا قرطاج منذ 2011.

الفرضية الثالثة ترتبط بحجم المعاناة وتنوع المغامرات، يبدو أنّ "الشيخ" قد كان الأكثر معاناة ومكابدة نفسيًا وجسديًا وذهنيًا منذ تسعينيات القرن السابق، فكأنه قد تمرس بالآفات والهموم والمحن، فما عادت تؤلمه صراخات الشتم ونبال التحقير ومدافع الاتهام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الغنوشي والأحزاب.. تركته يقبّلها فقام ليوصد الباب

عبير موسي.. أذلها نظام بن علي وأكرمتها الثورة