كان الميركاتو الصيفي في البطولة التونسة أشدّ حماسة أحيانًا من مباريات الدربي والكلاسيكو ومن بعض المقابلات المصيريّة، فالجماهير والمسيّرون والمدربون والمحللون يُجمعون كافّة على أنّ السبيل الأمثل إلى النجاح خلال الموسم الرياضي يقتضي الحكمة وحسن التدبير في فترة الانتدابات أي مرحلة تجديد الزاد البشري للنادي وغربلته ودعمه، ولا يحصُلنّ ذلك إلّا من خلال الفوز بأفضل اللاعبين وأكثرهم مهارة وخبرة.
فقد الميركاتو في البطولة التونسية منذ حوالي 3 سنوات أو أكثر شروط الإثارة والتشويق وأصبحت أخبار الانتدابات وفسخ العقود مجرّد بروتوكول بارد روتيني باهتٍ
ظلّت الذاكرة الرياضية التونسية مشدودة إلى قصص طريفة ومثيرة تؤكّد ما كانت تُوليه الأندية لمرحلة الميركاتو الصيفي، فكانت أفواه الأحباء تلهج بحكايات أقرب إلى الأفلام البوليسية من قبيل الحديث عن إخفاء لاعب عنوة في انتظار إمضائه ومحاولة تحويل وجهة أحد النجوم من هذه الحديقة إلى تلك وتعرّض آخر إلى التهديد في صورة مغادرته فريقه الذي فيه نشأ وعلا صيته وتنامت قيمته التسويقية.
فقدَ الميركاتو في البطولة التونسية منذ حوالي ثلاث سنوات أو أكثر شروط الإثارة والتشويق وأصبحت أخبار الانتدابات وفسخ العقود مجرّد بروتوكول بارد روتيني باهتٍ لا طعم فيه ولا رائحة تتناقله وسائل الإعلام كما تتناقل أنباء تغيرِ درجات الحرارة صعودًا لطيفًا وهبوطًا طفيفًا أيام التوسط والاعتدال.
لا شكّ أنّ تحويل الميركاتو إلى حلبة للصراع والمناورة والابتزاز والتهديد أمر غير مقبول أخلاقيًا وقانونيًا ورياضيًّا لكن في المقابل لا خير يُرجى من فترة انتقاليّة شحيحة هادئة خالية من الصفقات المؤثرة والانتقالات المتوهجة والانتدابات المساهمة في صناعة تاريخ الأندية والجمعيات.
للتحقق من الأسباب التي أفقدت الميركاتو الصيفي في البطولة التونسية شروط الإثارة تحدّث "ألترا تونس" إلى بعض المتمرّسين في الشأن الرياضيّ فنيًّا ونقديًّا فانتهينا إلى بعض المقاربات المختلفة حينًا والمتناغمة أحيانًا.
- تصحّر حقول المهارات الفنية
أكد اسكندر القصري مدرب الملعب التونسي لـ"ألترا تونس" أنّ فقدان الميركاتو بريقه يرجع بالدرجة الأولى إلى ما تعانيه الملاعب التونسية من تصحّر فنّي، قائلًا في إجابة قطعيّة صارمة حزينة وموجعة "بصراحة ماعادش عندنا شبّان" وهو ما يجعل النوادي مفتقرة إلى النبع الذي منه تصطفي نخبتها من لاعبي الأكابر، ولتأكيد مقاربته أشار القصري إلى اضطرار بعض الأندية إلى الاستنجاد بأرصدتها القديمة والاستفادة من خدمات لاعبين في العقد الرابع مثل الهوني والبدري في الترجي والذوادي ووسام بن يحيى في النادي الإفريقي وغيرهم في جمعيات أخرى.
اسكندر القصري (مدرب الملعب التونسي) لـ"ألترا تونس": "بصراحة ماعادش عندنا شبّان".. بعض الأندية اضطرت إلى الاستنجاد بأرصدتها القديمة والاستفادة من خدمات لاعبين في العقد الرابع مثل الهوني والذوادي وبن يحيى
هذا التصحّر الكروي يرجع في رأي اسكندر القصري إلى تراجع التكوين القاعديّ فضلاً عن عدم التزام العديد من مدربي الشبان بالمعايير العلمية والموضوعية في تخيّر المواهب.
اسكندر القصري (مدرب الملعب التونسي)
ولئن أبدى القصري ضربًا من التحفظ في إيضاح هذه النقطة، فقد كشف فرج الفجاري المتخصّص في الإعلام الرياضي لـ"ألترا تونس" بأنّ ملف مدربي الشبان يقتضي معالجة قانونية وأخلاقيّة دقيقة وصارمة ففي الأندية يتم أحيانًا تعيين مدربين "متطوعين" أو بلا رواتب مجزية فيعمد الكثير منهم إلى الاستفادة من "هدايا" يقدمها عدد من الأولياء لضمان مركز لأبنائهم دون استحقاق فني فيتسبب ذلك في حرمان الكرة التونسية من مواهب لا ذنب لها إلا انتماؤها إلى أوساط شعبية تفتقر إلى النفوذ المالي و الخدماتي، وفقه.
فرج الفجاري مختص في الإعلام الرياضي لـ"ألترا تونس": يتم أحيانًا تعيين مدربين "متطوعين" أو بلا رواتب مجزية في أصناف الشبان فيعمد الكثير منهم إلى الاستفادة من "هدايا" يقدمها عدد من الأولياء لضمان مركز لأبنائهم دون استحقاق فني
أمّا في منتخبات الشبان التي فقدت إشعاعها بعد أن كانت تمثّل المصدر الأيسر والأوثق فنيًّا للانتدابات فإنّ المنظومة القديمة مازالت، حسب رأي الفجاري، تمسك بزمام الأمور فتمارس في هذا المرفق الرياضي الوطني منهج الإقصاء في وجوه مدربين يتصفون بالكفاءات الأخلاقية والعلمية والمهنية في المقابل ظلّت هذه المنظومة السرطانية تراهن على "شيوخ" صلتهم بصناع القرار منذ عقود أوثق من معرفتهم بالجوانب الفنية والتكتيكية، وفقه.
فرج الفجاري مختص في الإعلام الرياضي
ولئن أبدى المدرب والمحلل الرياضي يوسف الزواوي تناغمًا مع اسكندر القصري في ما تعانيه الكرة التونسية من تصحّر على مستوى المواهب بسبب غياب استراتيجية واضحة في مرحلة التكوين فقد هوّن نسبيًا من هذه المعضلة وعدّها ظرفية منبهًا إلى ما خلفته الإجراءات الراجعة إلى جائحة كوفيد، فقد تسبب ذلك على حدّ تعبيره في منع مواليد 2002 و2003 و2004 من التدرب واللعب بانتظام مما أفضى إلى حرمان الكرة التونسية من جيل كامل تقريبًا.
المدرب والمحلل الرياضي يوسف الزواوي لـ"ألترا تونس": تسببت جائحة كورونا في منع مواليد 2002 و2003 و2004 من التدرب واللعب بانتظام مما أفضى إلى حرمان الكرة التونسية من جيل كامل تقريبًا
- الأزمة المالية ومواسم اللجوء الكروي إلى مصر والخليج
التصحّر الفني في الملاعب التونسية لم يحل دون بروز مواهب كروية كأن "ينبت زهر بين منابت صخر"، لكن هذه المواهب بدت في رأي اسكندر القصري مسكونة بهاجس الرحيل إلى مصر أو الخليج بل ثّمة على حدّ تعبيره من يفضّل بعض الأندية في الدرجة الثانية من الدوري السعودي على عديد الجمعيات التونسية بما فيها الكبرى، فاللاعب موظف يعنيه في الغالب الاستقرار المادي والنفسي أكثر ممّا يعنيه المستوى الفني لهذه المسابقة أو تلك، وقد ضَرب القصري لـ"ألترا تونس" مثل عمر زكري الذي لعب لفائدة عشر نواد فوجد نفسه مدفوعًا إلى التظلم منها جميعًا بسبب التراخي في الخلاص، وهو ما جعل اللاعب يفقد لذة النشاط في تونس ويختار الاحتراف.
اسكندر القصري لـ"ألترا تونس": عديد المواهب الرياضية بدت مسكونة بهاجس الرحيل إلى مصر أو الخليج بل ثّمة من يفضّل بعض الأندية في الدرجة الثانية من الدوري السعودي على عديد الجمعيات التونسية
في ظلّ الأزمة المالية التي تعاني منها الأندية، سألنا الزواوي إن كان الترجي الرياضي التونسي يمثل استثناء فذكر بأنّ الترجي محظوظ نسبيًا في هذه المرحلة لعدة أسباب أهمها تعويله فنيًا على نبيل معلول الذي يبدو من بين المدربين الحاليين الأكثر اطّلاعًا على الرصيد البشري لأبناء الأحمر والأصفر من جهة ولاعبي بقية الأندية من جهة ثانية خلافًا لعدد من الفنيين المضطرين إلى الاطلاع المتعجل على بعض المنتدبين أو المراد انتدابهم من خلال أشرطة الفيديو.
المدرب يوسف الزواوي لـ"ألترا تونس": الترجي محظوظ نسبيًا لعدة أسباب أهمها تعويله فنيًا على نبيل معلول الذي يبدو من بين الأكثر اطّلاعًا على الرصيد البشري لأبناء الأحمر والأصفر ولاعبي بقية الأندية
لكن هذه الوضعية لا تعني أن الترجي، على حدّ تعبير الزواوي، قد ضمن شروط التألق في المسابقة الإفريقية فالانتدابات التي ظفر بها تظلّ محدودة فنيّا فقد انتدب شيخ الأندية التونسية عددًا من اللاعبين منهم ظهيرين من النادي الصفاقسي بمنطق "قبول الفاضل في غياب الأفضل"، ومما ضيّق مجال الاختيار تنقيح قانون الانتداب الذي يرغم الجمعيات على الاستفادة من أربعة أجانب فقط وإلغاء الامتياز المتعلق باعتبار لاعبي المغرب العربي محليين.
المدرب والمحلل الرياضي يوسف الزواوي
- "تجمّد الميركاتو" والحمى المالية والسياسية
برود الميركاتو يرجع على حدّ تعبير فرج الفجاري إلى أنّ تفكير جلّ رؤساء الأندية والعديد من المدربين يبدو معرضًا عن مقتضيات الكرة بما هي مهارات فنية وخطط تكتيكية وكفاءة بدنية، فتركيزهم قد انصبّ منذ عقود على ما فوق المستطيل الأخضر وحوله وخارجه كالمصالح الذاتية والعلاقة مع الحكام والجامعة والساسة والإعلام .. هذا ما جعل الميركاتو هذه السنة يتخطّى، على حدّ تعبير الفجاري، درجة البرود فينزل إلى مرتبة التجمد المنذر بالموت.
فرج الفجاري لـ"ألترا تونس": "النجم والصفاقسي والإفريقي وغيرها من الأندية ممنوعة من الانتداب وهذه الأزمة المالية مؤشراتها كانت مكشوفة مفضوحة منذ سنين"
ولتفصيل أسباب هذه المعضلة، أضاف الفجاري قائلاً "النجم الرياضي الساحلي والنادي الصفاقسي والنادي الإفريقي وغيرها من الأندية ممنوعة من الانتداب، وهذه الأزمة المالية مؤشراتها كانت مكشوفة مفضوحة منذ سنين وكان ينبغي على سلطة الإشراف التدخل قبل فوات الأوان، فقد كانت الجمعيات الرياضية على امتداد أكثر من عقدين تنفق بتهور وجنون دون أن تكون لها موارد قويّة وثابتة ومتنامية، هذه الأندية وجدت نفسها في مهب الاحتراف بقرار سياسيّ مسقط لم ترافقه قوانين تضمن نجاح هذا المسار الهامّ والخطير.
كانت الفرق، حسب رأي الفجاري، تقتات من الهبات والمساعدات المسندة من قبل السلطة والبلدية والجامعة، وحينما تراجع دور السلطة التقط رجال الأعمال الفرصة وعاثوا في الأندية فسادًا يورطونها في المصاريف الخيالية ثم سرعان ما ينسحبون فتكون النتيجة الغرق في العقوبات والديون، فالنادي الصفاقسي على سبيل المثال " يُضيف الفجاري "مطالب بتوفير ثمانية ملايين دينار قبل شهر ديسمبر/كانون الأول لتجنب النزول إلى الرابطة الثانية ورئيس النجم عثمان جنيح يقول إن الفريق عليه التضحية بموسمين دون انتداب إذا كان يريد المحافظة على وجوده والتخلص من العقوبات وقس على ذلك النادي الإفريقي.
فرج الفجاري لـ"ألترا تونس": كانت الفرق تقتات من الهبات والمساعدات المسندة من قبل السلطة والبلدية والجامعة، وحينما تراجع دور السلطة التقط رجال الأعمال الفرصة وعاثوا في الأندية فسادًا
من الإجراءات القانونية التي كان ينبغي اتخاذها منذ سنوات، حسب رأي الفجاري، هو سنّ قانون يلزم الأندية بمبدأ التوازن بين المداخيل والمصاريف وهو أمر معمول به في جلّ الفرق الأوروبية، فهل يعقل، يتساءل الفجاري مستنكرًا، "في بطولة جلّ أنديتها مهددة بالإفلاس أن يبلغ أجر اللاعب حوالي 120 ألف دينار شهريًّا"، المشكلة الأخطر والأعمق في تونس على حدّ تعبيره، أنّ الجامعة تساير الأندية وتبيح لها خرق القانون لضمان ولائها وهي مسألة تقتضي مواجهة مفتوحة خالية من المجاملة والتعتيم، فالأزمات العميقة تحتاج إلى شجاعة وعمق ومصداقية حتى ندرك حلولًا مناسبة تحمل في ضوابطها وبرامجها وأدواتها شروط النجاعة والديمومة.