مقال رأي
يضرب التونسيون عادة مثلهم الشعبي "الإبل على كباراتها" إذا أرادوا الإشارة إلى أنّ من أراد أن يتّبع قومه/أهله، عليه أن يبادر ويبدأ بنفسه فيما يبتغي. لكن المتبصّر في التاريخ، يرى أن هذا المثل هو أقرب ما يكون إلى نظرية سياسية إن صحّ التعبير بداية بالفترة التيولوجيّة وحتّى عصر الديموقراطيّة الليبرالية. عندما أعلن البابا "غريغوري الثامن" أنّ سقوط القدس بيد صلاح الدين الأيوبي هو عقاب ربّاني للمسيحيين على خطاياهم، ونادى بذلك للإعداد للحملة الصليبية الثالثة لاستعادة بيت المقدس، هبّ ملوك أوروبا كل يتبرّع من جهته لتمويل جيش الرّب، ثم حثّوا رعاياهم على المشاركة للتّكفير عن ذنوبهم، مع الوعد بقطعة من الجنّة إن أثيبوا بالنّصر. على نفس المنوال، تسابق الكثير من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) لتمويل تجهيز الجيش الإسلامي في غزوة العسرة (غزوة تبوك) لصدّ خطر الروم حينها، بعد أنّ سمعوا الحديث القائل: "مَن جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ". هكذا كان الحال في الحروب/المشاريع قديمًا إذ يبادر كبار القوم ليحثّوا من تردّدت نفسه و يطمئنوا من ساوره الشّك في النّوايا.
إلى متى تستمرّ هذه المساهمة الإجبارية؟ و هل انعدمت الحلول والآفاق حتّى يتحمّل المواطنون عبث الشّيوخ والغلمان؟
منذ فجر الثورة في تونس، لم يتوقّف الحكّام الورقيّون عن إعلان المعارك الدونكيشوتيّة والحروب الهلاميّة: الحرب على الإرهاب، والحرب على الفساد، والحرب على الفقر إلخ، كثرت حروبنا لتكثر معها، إنّ صحّ التّعبير، هزائمنا. و إن كانت هذه الحروب لا تتجاوز آثارها أفواه من صدّعوا رؤوسنا بها، إلّا أنّ فاتورتها أثقلت على جيب المواطن عبر جبايات لا تنحسر حتّى وصلنا إلى المساهمة الاجتماعيّة التضامنيّة، التي تحوّلت من استثناء مؤقت إلى قضاء دائم. فإلى متى تستمرّ هذه المساهمة الإجبارية؟ و هل انعدمت الحلول و الأفق حتّى يتحمّل المواطنون عبث الشّيوخ والغلمان؟
اقرأ/ي أيضًا: عدم دفع موظفي الصناديق الاجتماعية لمساهماتهم.. امتياز عمّق أزمة الصناديق
المساهمة الاجتماعية التضامنية... تطوّع إجباري
يعتبر كل صندوق التضامن "26-26" وعطلة 7 نوفمبر، من أبرز الذكريات التي تربط جيل التّسعينيات بالنّظام السّابق الذي كبرنا في ظلاله، ظلال عهد الأمن والأمان المزعومين. و إن كنّا نهلّل للعطلة، فإننا كنّا نمتعض رغم حداثة سنّنا من ملاحقة المدير والقيّمين لنا لدفع "مساهمتنا" السنويّة في صندوق تنمية مناطق الظل المجهولة حتى الآن. إلا أنه مع الوقت قد تقدّم بنا العمر لنكتشف أن كلّ البلاد في الظّل، مع استثناء بعض المناطق المحظية بنور شمس النظام وعنايتها. كبرنا أكثر وتوظّف فينا من توظّف لينطلق في مساهمة من نوع جديد، مساهمة بطعم الثورة، مساهمة ديناميكيّة تكبر وتصغر مع جرايتنا، وأكثر من ذلك: شهريّة (كلّ شهر) و إجباريّة (اقتطاع آلي).
هي المساهمة الاجتماعية التضامنية التي سنّت ضمن قانون المالية 2018 ، في فصله 53، والتي تقوم الحكومة بموجبها باقتطاع 1% من أجور موظفي القطاعين: العام والخاص لتمويل صناديق اجتماعيّة "أفلست" (أو وقع إفلاسها) حسب تراتيب يضبطها القانون. يستثنى من القانون أصحاب الدّخل المحدود. والغريب في الأمر أنّ المتقاعدين أيضًا يقتطع من جراياتهم لتمويل صناديق لم تشبع من أموالهم طيلة عمر مضى حتّى يواصلوا تمويلها وضخّ "دماءهم" فيها إلى أن تجمد في عروقهم. فكيف وصلنا إلى هذه الحالة؟
تحوّلت المساهمة الاجتماعيّة الظرفية إلى مساهمة دائمة للسنة الثالثة على التّوالي وكأن جيوب الموظّفين البسطاء هي الحلّ السّحري لكلّ "كفاءة" وافدة أو محلّيّة
تعود المشكلة إلى أسباب متعدّدة منها الديموغرافي، والهيكلي، والاجتماعي والاقتصادي وحتّى التخريبي. حيث يتمتّع موظّفو هذا القطاع (موظّفو الصناديق الاجتماعيّة) بإعفاء من مساهمتهم، ضف إلى ذلك عديد الامتيازات الأخرى كاعتماد أعلى مرتّب طيلة السنتين الأخيرتين، مع العلم أنّ هذا الإجراء معمول به لدى كل القطاعات العمومية الأخرى أيضًا. وهو ما يمكن ضمّه ضمن ضريبة السّلم الإجتماعي الذي اشترته الحكومات بعد الثّورة، ونتيجة تجاذبات أيديولوجيّة والمزايدات الشّعبويّة وأنانيّة الأطراف السّياسيّة، وللمواطن نصيب من التّواطئ في كلّ هذا.
وبعد أن اُستنفذت حلول/أموال صندوق النقد الدولي، تمخّضت حكومة عصفور التّوافق، عن الفصل المذكور سابقًا، والذي يقتطع بموجبه مساهمة قيل عنها "تضامنيّة اجتماعيّة". وصدّرت وقتها عبارة "ناقفوا لتونس" بعد أن عجزت البنوك، أعلى الشركات ربحيّة في البلاد، أن تقف هي الأخرى إذ أثقلتها 1000 مليون دينار ضخّت في جيوبها فعسر هضمها. وقد أُوهم الموظّفون حينها أنّ هذه المساهمة هي مساهمة مؤقّتة وظرفيّة للخروج من الأزمة الخانقة حينها التي ألمّت بالصناديق، حيث تمظهرت الأزمة في تأخّر صرف جرايات المتقاعدين. وقد مرّ القانون بهذا الفصل برضا جماعي، سلطة ومعارضة وشعب، حتّى تصرف جرايات من أفنوا أعمارهم في خدمة هذا البلد. إلا أنّه من مميّزات هذا البلد: المؤقّت الذي يتحّول إلى دائم. فكم من حل ترقيعي قيل عنه مؤقّت، ثمّ يصير أمرًا واقعًا بعد ذلك. فهذه المساهمة الاجتماعيّة الظّرفيّة صارت دائمة (السنة الثالثة على التّوالي). وكأن الحلول قد انعدمت، وصارت جيوب الموظّفين البسطاء هي الحلّ السّحري لكلّ "كفاءة" وافدة أو محلّيّة.
المؤقّت الدّائم وحلول الكفاءات العاجزة
كم من حفرة في الطّريق وقت معالجتها بـ"سطل قرافي" (الحجارة) مؤقّتًا حتّى تتدخّل إدارة التجهيز لاحقًا؟ وكم من سرير معطّب بمستشفى وقع إصلاحه بـ"كبسة تل" إلى أنّ يعوّض بغيره فيما بعد؟ وكم من سيارة حكومية تعطّبت لعدم تفطّن الموظّف/السّائق أنّها لم تزوّد بماء التّبريد منذ تمّ إستلامها؟ وكم من سيّارة مصلحة إدارية (كسيّارات الإسعاف الإستعجالي)، تركت كعقب سيجارة في منفضة إلى أن "يعمل الله دليل"؟
اقرأ/ي أيضًا: معارك صغيرة وتجربة في الإنعاش
هو هكذا الحال دومًا، حلول ترقيعيّة مبتذلة واعتباطيّة. تتّخذ على مرأى ومسمع من الجميع على أمل أنّه مؤقّتة وظرفيّة ثم تصير دائمة وأمرًا واقعًا، وقد تتحوّل إلى كارثة نعالجها بقانون ينظّمها ويصعب تغييرها وقد دخلت عرين البيروقراطيّة (أزمة عمّال الحظائر و شركات البستنة مثلاً). لكن أليست هذه الحلول تكتسب صفة من اتّخذها من وزراء ومسؤولين مؤقّتين؟ ربّما هو الأمر كذلك، فالوزرات والوظائف السّامية في الدّولة صارت كالغنيمة، على رأي البرفيسور محمد عابد الجابري، إذ هي حصيلة الابتزاز السياسي والتزلّف البورجوازي في النّوادي و"القعدات"، أين تُعقد الاتفاقات وتُهدى الامتيازات "هذا متاعنا وهذا لينا وهذا ولدنا إلخ". فماذا نتوقّع من هكذا مسؤولين؟ أبسط الحلول وأقربها: اقتطاع، وجباية، وضرائب، ورفع دعم، وترفيع أداءات وخفض مصاريف إلخ، و كلّ هذا يضمّونه تحت شعار "إكراهات المرحلة"، إلى أن يحين موعد هجرتهم إلى الشّمال بعد أن انتهت أحلامهم في تونس.
يقولون هذا بعد أن تصدّع ماكيناتهم الإعلاميّة بـ"بروفيلاتهم" الهلاميّة. فهذا كفاءة وهذا تقنوقراط، وهذا ترك جنّة الله الموعودة لأجل عيونك يا خضراء. وأوّل ما يتمخّضون يسارعون إلى جيوب المواطنين: سواء مباشرة بالاقتطاع والترفيع في الضّرائب التي لا نرى لها أثرًا، أو بالأداءات على الخدمات الإدارية العمومية والبدائيّة المفروضة على هذا الشّعب كالقدر الكريه، والجاثمة على صدر الاقتصاد تمنع عنه الهواء/الاستثمار. هل انتهت فعلًا حلول الأرض؟ هل استرجعت الأموال المنهوبة؟ هل سوّيت وضعيّة الأملاك المصادرة؟ هل صفّيت الدّولة ضرائبها مع المتهرّبين/المجرمين؟ هل طوّعت الاقتصاد الموازي؟ هل قطعت دابر التّهريب؟ أخيرًا، لماذا لا يبادرون أوّلًا إلى خفض الأجور الضّخمة والامتيازات الخياليّة للوزراء وكبار الموظفين؟ حذار، ذلك مساس من هيبة الدّولة. فما الحل إذًا؟ المساهمة الاجتماعيّة التّضامنيّة. هل لأجل مثل هذه الحلول التّقليدية تدفع الخزينة مرتّبات خياليّة؟ لو ترك الأمر لمتربّص من جامعات الاقتصاد لربّما اتّخذ نفس القرارات "الموجعة": موجعة للشّعب ومريحة للمسؤولين. ربّما الأمر كما قال لي شيخ ذات مرّة في محطّة الحافلات عند الفجر: "لا كفاءات لا والو، الكلّها تاكل في الخبز و برّا".
مئات من المستشارين والمراكز الإستراتيجيّة والمختبرات البحثيّة وملايين الدنانير ليكون حلّهم الوحيد دائمًا: اقتطاع قسري وتطوّع إجباري
في مقدّمته، كتب ابن خلدون: "إن الجباية في أول الدولة تكون قليلة الأسباب (أي المنابع)، ولكنها كثيرة الجملة أي ينتج عنها الكثير من الدخل والإنتاج. والجباية في آخر الدولة تكون كثيرة الأسباب وقليلة الإنتاج". ربّما لا يخفى على قارئ هذه الكلمات أن يحرز أين حالنا الآن. لكن التّاريخ يقول أنّنا في أول سنوات الجمهوريّة الثانية. فهل شارفت سريعًا على الانتهاء؟ ربّما هي انتكاسة الانطلاق التي تطال المحرّكات عندما يكون الطّقس باردًا. ربّما برد قلوب المسؤولين/السّياسيين هو الذي يعطّل انطلاق محرّك البلاد. ربّما يجب التّسخين قبل الإنطلاق؟ ربّما. لكن المؤكّد الآن أنّ هذه المساهمة الإجتماعيّة والضّرائب التي لا تنتهي هي من تسخّن محرّكات الاحتجاجات.
مئات من المستشارين والمراكز الإستراتيجيّة والمختبرات البحثيّة وملايين الدنانير ليكون حلّهم الوحيد دائمًا: اقتطاع قسري وتطوّع إجباري. ومن جهة أخرى، امتيازات وحوافز تصرف وأحزاب تتخاصم على تركة هي أخوى من فؤاد أمّ موسى، على حسب تعبيرهم كما قالوا بأنفسهم، لو صدقوا! صرّح وزير الشؤون الاجتماعية، في أواخر السنّة الماضية، بانتهاء شبح تهديد إفلاس الصناديق الاجتماعية. ولكن الاقتطاع لا يزال متواصلًا، وبانتهاء سببه، يفترض إلغاء هذا الإجراء من قانون المالية إلّا أنّه على ما يبدو صار قدرًا محتومًا. فإلى متى يتواصل هذا الاستنزاف الإجباري؟
اقرأ/ي أيضًا: