01-أغسطس-2020

صورة المشهد تشبه لعبة المكعبات ذات الألوان المبعثرة تبحث عن عقلاء استراتيجيون يعيدون ترتيب الألوان (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

لم يعد محل نقاش أن التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس باتت مهددة في وجودها وديمومتها، ويعود ذلك إلى عوامل متداخلة ومعقدة ومركبة. وللذين تعودوا الاتكاء على التفسير التآمري نصيب من الوجاهة لكن تلك الزاوية ليست كافية لكشف تفاصيل الصورة.

الأكيد أن للثورة التونسية أعداء كُثر على امتداد الإقليم والأكيد كذلك أن ثمة "غرف مظلمة" حقيقية يديرها فاعلون إقليميون يتزعمهم الصهاينة العبريون وينفذها صهاينة عرب، لكن في نهاية التحليل ما يؤلم الشجرة ليس الفأس التي تهوي عليها من الخارج إنما هو الخشب الذي صنعت منه اليد التي من دونها تكون الفأس خارج الخدمة بالضرورة.

النظام السياسي البرلماني المعدل ليس سببًا في أزمة تونس إذ لم يتسن لأي أغلبية برلمانية أن تحكم حتى يسهل الحكم عليها وعلى نظام الحكم ذاته

وقد أجازف بالقول أيضًا إن الأزمة في عمقها لا تعود إلى صراع المعتقدات والرواسب الايديولوجية وإن كانت هي أيضًا مؤثرة بما أن من يتصدرون المشهد اليوم هم ذاتهم من كانوا وقودًا لصراع مرير ايديولوجي عرفته الجامعة التونسية سابقًا. ولو كان الأمر على هذا النحو، لكانت السهام متجهة أساسًا صوب السرديات الايديولوجية القصووية بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، فأنت تجد الأحزاب السلفية ومعهم حزب التحرير الذي يجاهر بمعاداة المنوال الديمقراطي برمتة تجدهم جميعًا خارج مربع الصراع تمامًا.

النظام السياسي البرلماني المعدل كذلك ليس سببًا في أزمة تونس إذ لم يتسن لأي أغلبية برلمانية أن تحكم حتى يسهل الحكم عليها وعلى نظام الحكم ذاته فعلاوة على واقع التشتت الذي ما فتئ يتفاقم فإن السلطة الحقيقية بما هي في النهاية آليات القرار والتنفيذ لم تعد منذ الثورة حكرًا على الحكام بل هي تفرقت بين فاعلين كُثر (نقابات، مجتمع مدني، منظمات، إعلام..).

اقرأ/ي أيضًا: هل تترنح الديمقراطية في تونس؟

إذًا فلب الصراع والتنافر والتدافع في المشهد التونسي هو سياسي محض وإن كان قد أُلبس لَبوسًا إيديولوجيًا، فأين المشكل؟

ما نراه في تونس منذ 2011 هو وجود حزب وحيد قوي ومهيكل تقابله إما بقايا أحزاب أو نواتات جنينية أو كذلك ظواهر سياسية هجينة تعتمد التجميع بل تكديس التوجهات غير المتجانسة

أعتقد جازمًا أن المشكل الرئيسي في المشهد السياسي التونسي، ولعلي أجازف بالقول إنه يتطابق مع كل دول "الربيع العربي"، هو عدم توفر مناخات التداول السلمي على السلطة وهي عين المنوال الديمقراطي. فكما أن الطبيعة تأبى الفراغ فإن الديمقراطية تأبى الحزب الواحد حتى بصناديق الاقتراع.

ما نراه في تونس منذ 2011 هو وجود حزب وحيد قوي ومهيكل تقابله إما بقايا أحزاب أو نواتات جنينية أو كذلك ظواهر سياسية هجينة تعتمد التجميع بل تكديس التوجهات غير المتجانسة (نداء تونس، تحيا تونس، قلب تونس..) وعادة ما تتشكّل هذه التشكيلات الهجينة قبيل محطات انتخابية وتكون موجهة أصلاً ضد حزب بعينه (النهضة) وتجمعها يافطة نفعية التصويت المفيد ـ vote utile. كل تلك المحاولات على اختلاف منطلقاتها رافقتها الخيبة تلو الأخرى وعرفت الانشقاقات والتصدع وشارف البعض منها حدود الاندثار.

واللافت أن أغلب العائلات السياسية التاريخية بقيت دون تمثيل حقيقي يوازي وجودها على الأرض وثقلها التاريخي ويتعلق الأمر بالعائلة اليسارية الاجتماعية والعائلة القومية العروبية والعائلة الدستورية وكذا العائلة الليبرالية.

يُذكر أن النخب التونسية لم يتسن لها قط ممارسة السياسة سابقًا، فقبل الثورة كانت منظومة الاستبداد تهيمن على السلطة في حين كانت المعارضة حبيسة المربع الحقوقي المقاوم الذي يكرس جهده لهدم منظومة الاستبداد والفساد دون أن تتوفر له الفرصة لمحاولة بناء المشروع البديل عدا المحاولة الجنينية الوحيدة المتمثلة في حراك 18 أكتوبر، تلك التي سرعان ما تنكر لها الجميع بعد الثورة ودون استثناء.

كل ما نرى من غبار المعارك اليوم ليس إلا انعكاسًا لتأخر ميلاد السياسة في المشهد التونسي ولن تستقر الأوضاع ما لم تتشكل نواتات سياسية وازنة

في المحصلة إذًا كل ما نرى من غبار المعارك اليوم ليس إلا انعكاسًا لتأخر ميلاد السياسة في المشهد التونسي ولن تستقر الأوضاع ما لم تتشكل نواتات سياسية وازنة تصدر عن سردية ببصمات مميزة تعبر تعبيرًا صادقًا عن اختلاف توجهات المجتمع التونسي مع القطع مع أي نفس إقصائي ومع الاعتراف المتبادل بين كل العائلات السياسية. كما أنه من المهم جدًا التفكير العاجل في مراجعة القانون الانتخابي بما يضمن تصعيد طرف سياسي قادر عن الحكم دون اللجوء إلى التحالفات والتوافقات التي أثبتت فشلها.

صورة المشهد السياسي التونسي تشابه صورة لعبة المكعبات ذات الألوان المبعثرة تبحث عن عقلاء استراتيجيون يعيدون ترتيب الألوان.

إن كل ما نشهده من معارك صغيرة وآخرها معركة محاولة سحب الثقة من رئيس البرلمان وقبلها معركة إسقاط الحكومة لا يجب أن تشغل الجميع عن المعركة الكبرى وهي برأيي تتمثل في بناء مناخات التداول السلمي الحقيقي على السلطة بحدود معقولة من التوازن السياسي. فالاستقرار السياسي مقدمة ضرورية ومصيرية لأي إنجاز تنموي ينعكس مباشرة على معاش الناس التي تراقب وتترقّب قبل أن يعيل صبرها. وإذا ما تواصل المشهد على نفس الوتيرة فإنه لا مناص من "بوعزيزي" ولو طال السفر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التوازن الجديد بين قيس سعيّد والأحزاب

بعد تكليف المشيشي: سعيّد يسود ويحكم!