24-فبراير-2019

تقريب الخدمات الصحية من المواطن هو هدف غير محقق بعد في سليانة (صورة توضيحية أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

"كدت أفقد ابني خلال نزيف حاد باغتني لدى زيارتي لمنزل أسرتي بأحد أرياف سليانة، اتجهت على وجه السرعة الى المستشفى المحلي حيث لا يوجد مختصون في حالتي ونصحوني بالتوجه إلى المستشفى الجهوي بسليانة"، تروي حياة قصتها لـ"الترا تونس"، مضيفة "كنت حاملاً في الشهر الثاني ليلتها، قطعت طريقًا وعرة وملتوية لحوالي 50 كلم، خيّلت لي أنها آلاف الكيلومترات من فرط الألم والخوف من فقدان الجنين".

لم تكن تلك المسافة كافية لوضع حد لحالة الألم والنزيف والخوف التي سيطرت على الأم ذلك أنها اضطرت إلى العودة على أعقابها بسبب عدم توفر طبيب مختص في أمراض النساء والتوليد وتعذّر محاولات إسعافها.

ليست قصة حياة هي الوحيدة ولن تكون هي الأخيرة التي تمر بهذه التجربة في المستشفى الجهوي الوحيد في سليانة.

حياة (مريضة): كدت أفقد ابني خلال نزيف حاد وقد قطعت طريقًا وعرة لحوالي 50 كلم بسبب عدم توفر طبيب مختص في أمراض النساء والتوليد

تبعد ولاية سليانة التابعة لإقليم الشمال الغربي، 108 كم عن تونس العاصمة، وتعتبر منطقة عبور حيث تحدها ستّ ولايات هي زغوان، والقيروان، والقصرين، وسيدي بوزيد والكاف وباجة. تعدّ الولاية 223087 ساكن حسب التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2014.

ورغم توفر البنية التحتية الصحية ممثلة في مستشفى جهوي واحد ومستشفيات محلية في كل معتمديات الولايات وعددًا من مراكز الصحة في عدد كبير من عماداتها، إلا أن تقريب الخدمات الصحية من المواطن يبقى إلى حدّ اللّحظة هدفًا لم يكتمل تحقيقه بعد في سليانة رغم أن الدستور التونسي أقر في الفصل 38 أحقية كل إنسان في الصحة وبالخصوص "توفر الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية".

اقرأ/ي أيضًا: تونس.. المنظومة الصحية تنهار والإصلاح الجذري مفقود

طوابير في كل قسم

في الواجهة الأمامية للمستشفى الجهوي بسليانة أشغال أتت على كل بلاط البهو، فيما توجد في أقصى اليسار بناية شبه مكتملة.

تشير الساعة إلى الثامنة صباحًا إلا ربع في قسم العيادات الخارجية، لفظت شبابيك التسجيل عشرات المرضى صفوفًا خارج القسم ينتظرون دورهم، لا تطبق شفاههم لحظة، يتذمرون من طول الانتظار دون سقف يسع جمعهم ويقيهم من لفحات الطقس البارد.

تتحرك الصفوف ببطء، وتزداد الكوكبة بالخارج أعدادًا جديدة من المرضى المنتظرين. "لم يبق أحد بالخارج" تمتم أحد المرضى، "كل النساء أتت للعلاج" يضيف متهكمًا. وفي القاعة التي تعجّ بالمرضى، توجد بضع كراسي يتداول عليها المرضى وأكثرهم من الشيوخ.

اكتظاظ وطوابير انتظار في المستشفى الجهوي في سليانة (رجاء غرسة/الترا تونس)

من قسم العيادات الخارجية إلى قسم الاستعجالي، لا يبدو الطريق سالكًا في الممر، عشرات المرضى يصطفون يمنة ويسرة أمام عيادات طب العيون، والتصوير الطبي، والاستخلاص، وفي النهاية يزدحم الممرّ بصف اكتظّ واستدار من الوافدين على التحليل الطبي.

بلغ عدد الوافدين على المستشفى الجهوي بسليانة 198 ألف مريض سنة 2017 بزيادة تقدر بـ 16 في المائة مقارنة بسنة 2016، في حين أمّن قسم الاستعجالي 123 ألف عيادة بارتفاع قدّر بـ 29 في المائة عن سنة 2016، وفق ما صرّح به مدير المستشفى الجهوي كمال العجيمي لـ "الترا تونس".

بلغ عدد الوافدين على المستشفى الجهوي بسليانة 198 ألف مريض سنة 2017 بزيادة تقدر بـ 16 في المائة مقارنة بسنة 2016

"مكّنت خطة الوزارة لدعم طب الاختصاص في الجهات ذات الأولوية، المستشفى من زيادة 3 أطباء اختصاص منذ انطلاقه في 2016، حتى أن تقييم المردودية أثبت أن البرنامج غطّى أكثر من 50 في المائة من الاحتياجات"، بكثير من التفاؤل أضاف العجيمي.وعن "مختبر طبي حديث ومجهز، وعن أقسام عدة ستكون جاهزة قريبًا في استقبال المرضى" حدثنا، أيضًا، مدير المستشفى.

ووفق ما جاء في ميزانية وزارة الصحة لسنة 2019، تبلغ نفقات التصرف في هذا المستشفى الجهوي 7 مليون وخمسمائة ألف دينار، لتهيئة الأقسام الاستشفائية وبناء جناح إقامة لأمراض المعدة، وبناء قسم لجراحة العظام، وبناء قسم للتخدير والإنعاش وتهذيب وتوسيع قسم العمليات وقسم ما بعد العمليات وتجهيز أقسام أمراض العيون والحلق والأنف وتجهيز وحدة طب الولدان.

وقبل ذلك، زفّت وزارة الصحة برنامج المخطط المديري لتطوير المستشفى الجهوي بسليانة باعتمادات تبلغ 30 مليون دينار.

كمال العجيمي (مدير المستشفى الجهوي بسليانة): غياب عدد من الاختصاصات الطبية هو مشكل وطني ولا يقتصر على ولاية سليانة

لم يخف مدير المستشفى الافتقار لعدد من الاختصاصات الطبية كالبيولوجيا الطبية وأمراض المفاصل، قبل أن يستدرك أنه مشكل وطني ولا يقتصر على ولاية سليانة.

أفاد الناظر العام الجهوي للصحة فتحي الجودي، من جهته في حديثه مع "ألترا تونس"، أن جهة سليانة تسجّل أمراض البرد والأمراض الصدرية وأمراض الشيخوخة، مؤكدًا أن مختلف المؤسسات الصحية العمومية في الولاية تسجّل 292 ألف حالة استعجالية وحوالي 342 ألف عيادة خارجية وأكثر من 70 ألف عيادة لأمراض الدم والسكر في مراكز الصحة الأساسية. كما أحصت الإدارة الجهوية للصحة بسليانة 606 عملية إسعاف طبي إلى مستشفيات العاصمة سنة 2018.

طب الاختصاص.. عملة نادرة في سليانة

قد يبدو توفر البنية التحتية من عدمه، مقياسًا لتوفر الخدمات الصحية في مؤسسة ما، إلا أنه لا الأشغال ولا الأرقام المعلنة أو المضمنة في التقارير قادرة على كشف مدى تمكين المواطن في جهة سليانة من حقه في الصحة العمومية والتداوي.

استوجب تشخيص طبي خاطئ نقل إيناس صولي، الحامل في الشهر الثامن، من المستشفى الجهوي بسليانة إلى مستشفى باب سعدون، "قيل لي أن حالة الجنين خطرة وحولت على جناح السرعة، إلا أن طبيبة في العاصمة باشرتني حينها وأخبرتني أن التشخيص خاطئ".

حليمة (62 سنة) أسندت ظهرها إلى حائط قسم أمراض المفاصل في مستشفى الرابطة وقالت: "أتردد على هذا القسم للعلاج منذ 3 سنوات، كنت أشكو من آلام شديدة في المفاصل، تمّ توجيهي هنا، عندما ذهبت للعلاج في المستشفى الجهوي بسليانة"، تضيف المريضة التي بالكاد تقدر على الوقوف على قدميها، "أغادر منزلي قبل الثالثة فجرًا لأصل في الموعد".

فيصل (مريض في مستشفى سليانة):  لسنا مواطنين في هذه الدولة، نجد أنفسنا دائمًا مضطرين للعيش في أسوأ الظروف ولا يتذكروننا إلا في الحملات الانتخابية

فيما اضطرّت تعقيدات صحية قبل شهرين من الولادة تحويل فاطمة من المستشفى الجهوي إلى مستشفى طب الولدان بتونس العاصمة، على أن تستأجر سيارة بمائة دينار مرتين للتنقل إلى العاصمة لعيادة الرضيع الذي يخضع لعناية مشددة في المستشفى.

"نحن لسنا مواطنون في هذه الدولة، نجد أنفسنا دائما مضطرين للعيش في أسوأ الظروف، حيث لا خدمات ولا حقوق، لا يتذكروننا إلا في الحملات الانتخابية، يطرقون أبوابنا بيتًا بيتًا " يقول ساخطًا فيصل، مريض التقيناه ينتظر دوره كما الآخرين.

اقرأ/ي أيضًا: نقص توفر الأدوية.. سياسة الموت البطيء في تونس؟

وعلى باب مدير المستشفى، رابطت سبعينية تذمّرت من تأجيل موعد عيادتها التي كانت مقررة اليوم إلى موعد آخر بعد ستة أشهر أخرى، والسبب غياب طبيب الأشعة الذي يجب التوجه إليه قبل عيادة طبيب القلب. تقول العجوز لـ"الترا تونس": "لا أستطيع تحمل ستة أشهر أخرى، أتناول هذه الأدوية منذ سنة دون تحسّن يذكر".

في السياق ذاته، قال مدير المستشفى لدى استجوابه إن برنامج ربط قاعة الأشعة بطبيب الاختصاص عن بُعد لم يُوفق لعدم توفر التجهيزات بسبب تعطّل إمضاء الاتفاقية مع مستشفى جامعي لم يذكره.

وفي تصريح لـ"الترا تونس"، نفى الدكتور حراث، أخصائي في أمراض القلب والشرايين بالمستشفى، أن تكون أشغال الصيانة والتوسيع والتجهيز هي الحل لتقريب الخدمات الصحية من المواطن.

الدكتور حراث ( أخصائي في أمراض القلب والشرايين في مستشفى سليانة): الحلّ في تحسين ظروف الطبيب الذي يتلقى عروضًا بمرتب أضعاف مرتبه في المستشفى العمومي

وعن خطة دعم أطباء الاختصاص في الجهات، قال حراث إنهم في تناقص، مؤكّدًا أن وجود طبيبين من نفس الاختصاص مثل طب أمراض القلب وغيرها في المستشفى لا تحقّق الاكتفاء الذاتي، الذي يتطلب أربعة أطباء على الأقل بحسب تقديره.

ويضيف الأخصائي أن الحلّ في تحسين ظروف الطبيب الذي يتلقّى عروضًا بمرتبات تتراوح بين عشرة وخمسة عشرة أضعاف مرتبه في المستشفى العمومي.

خطة لدعم طب الاختصاص في الجهات الداخلية.. أما بعد؟

في سليانة، لم يخفّف اعتماد الخطة التي انطلقت في جانفي/كانون الثاني 2016 وكلفت ميزانية الدولة التونسية 26 مليون دينار، عناء التنقل إلى تونس العاصمة ولا انتظار أشهر طويلة لتلقي العلاج المناسب.

وحسب تقديرات ميزانية وزارة الصحة لسنة 2019، ينتظر أن تبلغ تغطية احتياجات الجهات ذات الأولوية من أطباء الاختصاص 90 في المائة مقابل 80 في المائة سنة 2018. وتعتزم الوزارة فتح مناظرة لانتداب 600 طبيب في ديسمبر/كانون الأول 2019 بينها عدد من الخطط لفائدة الهياكل الصحية بهذه المناطق.

لافتة حول مشروع توسعة العيادات الخارجية بالمستشفى الجهوي بسليانة (رجاء غرسة/الترا تونس)

وتهدف الخطة بحسب ما جاء في الأمر الحكومي عدد 2752 لسنة 2015 المتعلق إبرام اتفاقيات في إطار برنامج دعم طب الاختصاص بالجهات ذات الأولوية "تحقيق العدالة الصحية بين الجهات وتأمين استمرارية الخدمات الطبية للمواطن الأولوية للأطباء في الجهة. وهي تشمل ثمانية اختصاصات حيوية هي طب النساء والتوليد، وطب الأطفال، وأمراض القلب والإنعاش الطبي، والجراحة العامة وجراحة العظام والتصوير الطبي والتخدير.

وتقضي بالترخيص لأطباء الاختصاص التابعين للأسلاك الطبية سالفة الذكر في إبرام اتفاقيات لمدة سنة قابلة للتجديد الضمني، يتعهّدون بموجبها بالتواجد لمدة 24 ساعة في المستشفى لتأمين العيادات وتكوين الإطارات فيها، على ألا يتجاوز عدد الحصص الثمانية لكل طبيب.

وأعلن وزير الصحة الأسبق سعيد العايدي انخراط طب الاختصاص في البرنامج خلال الأشهر الأربعة الأولى، وقال إن دراسات تقييمه أثبتت تراجع ملحوظ لعمليات إرسال المرضى إلى خارج الولايات.

وزير الصحة الأسبق سعيد العايدي متحدثًا عن برنامج دعم طب الاختصاص بالجهات ذات الأولوية

لكن ميّز البرنامج، منذ اعتماده، بين كلفة العمل للأطباء المنخرطين فيه بين جهة وأخرى، وهو ما يفسر عزوف عديد الأطباء عن اختيار مستشفى سليانة المصنف "د"، حيث تقدّر كلفة منحة يوم العمل الصافي في هذا المستشفى 370 دينار مقارنة بـ 520 دينار في المستشفيات صنف "أ".

قد تبدو الإجراءات في ظاهرها جادة ومكلفة من حيث القيمة لتحقيق الاكتفاء الصحّي في جهة سليانة وتدعيم المستشفى الجهوي الوحيد في الولاية بالطاقة البشرية وخاصة أطباء الاختصاص، وأنها تتناسب مع طلبات المواطنين من جهة وتصدّق نوايا المسؤولين ووزارة الإشراف في تحقيق العدالة الصحية وإعادة الثقة بين المريض والمؤسسات الصحية العمومية من جهة أخرى.

ميّز برنامج طب الاختصاص في الجهات في منح العمل للطبيب حسب صنف المستشفى ولذلك يشهد مستشفى سليانة عزوفًا من أطباء الاختصاص

لكن لا يزال المريض في الجهات الداخلية، في الواقع، يجد نفسه مضطرًا للتنقل إلى العاصمة بحثًا عن طبيب مختص في مستشفى عمومي آخر ربما لا يقل اكتظاظًا عن المستشفى الجهوي، أو تراه يبحث عن طبيب في القطاع الخاص في ظل وضع اجتماعي صعب، لأن ما عداه وجب عليه الانتظار للموعد المحدد بعد 6 أشهر في أفضل الحالات، أو عليه انتظار قدوم طبيب مختص موعود دائمًا بقرب قدومه.

بذلك وفي غياب سياسة واضحة تبني على مواطن الضعف في خطة دعم طبّ الاختصاص في بعض الجهات منها ولاية سليانة، يبقى الحديث عن برامج تكلف ملايين الدينارات من ميزانية الدولة ليست ذات جدوى أو تعوزها الفاعلية المرجوّة على الأقل، خاصة إذا كانت هناك تجهيزات طبية تصدأ وتتعطل قبل أن يتم تشغيلها لغياب المختصين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تقرير دائرة المحاسبات: 10 خروقات خطيرة في مستشفى عزيزة عثمانة

تجربتي مع سرطان الثدي..