26-ديسمبر-2023
الانتخابات المحلية في تونس

هناك حالة من اللامبالاة مع غياب أي بديل يحظى بدعم شعبي أو يطرح مشروعًا مغايرًا (صورة ياسين القايدي/الأناضول)

 

تتتالى الاستحقاقات الانتخابية في تونس خلال السنتين الأخيرتين في محاولة لتكريس دعائم وهيكلة المشروع السياسي للرئيس قيس سعيّد، كذلك يتمدد العزوف الشعبي عن المشاركة والاقتراع منذ سنة 2022 وعلى امتداد هذه السنة، وهي الاستحقاقات المتواصلة أيضًا خلال السنة المقبلة.

حمل يوم الاقتراع في الانتخابات المحلية صورًا مغايرة لتلك الطوابير الطويلة أمام المخابز والمحلات التجارية للحصول على الخبز وعدد من المواد الأساسية. غابت الطوابير عن مراكز الاقتراع وطغت موجة عامة من اللامبالاة.

 

تؤكد الأرقام الرسمية إعراض التونسيين عن التصويت في مختلف الاستحقاقات التي تلت 25 جويلية/يوليو 2021 في تونس. كانت نسبة المشاركة في الاستشارة الإلكترونية في حدود 6 % وفي الاستفتاء على الدستور في حدود 27,5 % ثم كانت نسب الاقتراع في الانتخابات التشريعية بدورتيها الأولى والثانية في حدود 11 % وآخرها الدورة الأولى من الانتخابات المحلية والتي أجريت يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 2023 وكانت نسبة المشاركة الأولية المعلنة رسميًا في حدود 11,66 %، في انتظار دورة ثانية متوقعة في فيفري/شباط 2024. 

حمل يوم الاقتراع في الانتخابات المحلية صورًا مغايرة لتلك الطوابير الطويلة أمام المخابز والمحلات التجارية، غابت الطوابير عن مراكز الاقتراع وطغت موجة عامة من اللامبالاة في تونس

تعتبر انتخابات المجالس المحلية في تونس بمثابة تتويج لمسار اتخذه الرئيس قيس سعيّد انطلاقًا من 25 جويلية 2021، عبر حل الحكومة والبرلمان وتعليق العمل بدستور 2014 والتوجه نحو حكم بالمراسيم الرئاسية تُوج بدستور جديد ينص على غرفتين. وقع انتخاب الغرفة الأولى (مجلس نواب الشعب) وتعتبر انتخابات المجالس المحلية آخر المسار الانتخابي في طريق تكوين الغرفة الثانية (مجلس الجهات والأقاليم) والذي يمر بانتخابات محلية وقرعة ثم تصعيد حتى بلوغ اكتماله المنتظر في أفريل/نيسان القادم.

تشير نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية إلى أن 9 من كل 10 تونسيين تقريبًا لم يصوتوا رغم مساعي هيئة الانتخابات في تونس وتجند الإعلام العمومي للتعريف والتوضيح وما قيل عن كونها "انتخابات القرب" وهي نسبة مشابهة لنتائج التصويت في الانتخابات التشريعية السابقة. 

ولا يحظى تأويل نسبة الاقتراع الضعيفة بإجماع، إذ يسعى البعض إلى تفسيرها بتغيير النظام الانتخابي وعدم مشاركة الأحزاب السياسية أو بالوضعية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، بينما يذهب آخرون حتى إلى ربطها بالحرب على غزة وتركيز التونسيين عليها وهو ما تعرضت له عضوة في هيئة الانتخابات (رسمية) في تبرير نسبة المشاركة. 

تشير نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية إلى أن 9 من كل 10 تونسيين تقريبًا لم يصوتوا رغم مساعي هيئة الانتخابات في تونس وهي نسبة مشابهة لنتائج التصويت في الانتخابات التشريعية السنة الماضية

 

أما المعارضة في تونس، التي تشكك في النسبة المعلنة وترى أنها مضخمة كما ذهب إلى ذلك زعيم جبهة الخلاص الوطني أحمد نجيب الشابي، فترى أن ضعف نسبة الاقتراع تعكس رفضًا وتجاهلًا للمشروع السياسي للرئيس قيس سعيّد مشككة بذلك في مشروعية وشرعية هذه المؤسسات التي يقع تكوينها وتثبيتها خلال السنتين الأخيرتين. 

تقول المعارضة التونسية إن ما يحصل هو فرض لمسار لا يحظى إلا بدعم أقلية، وقد يبدو هذا منطقيًا وفق أرقام السلطة نفسها في تونس، لكن هذا المسار لا يلاقي معارضة واسعة أيضًا تتجند في الساحات وفي التظاهر وعبر النشاط الحزبي والجمعياتي. باختصار، هناك حالة من اللامبالاة مع غياب أي بديل يحظى بدعم شعبي أو يطرح مشروعًا مغايرًا. 

تقول المعارضة إن ما يحصل هو فرض لمسار لا يحظى إلا بدعم أقلية لكن ذات المسار لا يلاقي معارضة واسعة وفاعلة.. باختصار هناك حالة من اللامبالاة مع غياب أي بديل يحظى بدعم شعبي أو يطرح مشروعًا مغايرًا

ولا تقتصر حالة اللامبالاة على الشعب، إذ لا يبدي حاكم البلاد أي اهتمام بنسب المشاركة في الانتخابات المحلية ولم يصدر من قبله أي تعليق عليها، علنيًا على الأقل وإلى حد تاريخ كتابة هذه الأسطر، كما أن القانون الذي وقع سنه لا يحدد عتبة ضرورية أو نسبة دنيا للمشاركة للقبول لاحقًا بالنتائج. وحتى في الاستحقاقات الانتخابية السابقة، لم يبد الرئيس انزعاجًا من هذه النسب بل قدم مبررات لها وربطها غالبًا بالطبقة السياسية الحاكمة خلال العشرية التي تلت الثورة. 

في الأثناء، يواصل سعيّد بثبات ترسيخ ما تبقى من محطات مشروعه السياسي وهو يركز في الأشهر الأخيرة على ما يسميه "تطهير الإدارة" عبر تغييرات في أهم المناصب الإدارية وتعيينات وإقالات وتدقيق في التعيينات خلال السنوات السابقة، بالتوازي مع تركيز المؤسسات الجديدة وفق رؤيته وما شاع تسميته بـ"البناء القاعدي" (أنظر مقالي بعنوان مجلس الجهات والأقاليم.. الوجه المكشوف لـ"البناء القاعدي" في تونس نشر بتاريخ 10 مارس/آذار 2023). 

لا تقتصر حالة اللامبالاة على الشعب، إذ لا يبدي حاكم البلاد أي اهتمام بنسب المشاركة وحتى في الاستحقاقات السابقة، لم يبد الرئيس انزعاجًا من هذه النسب وربطها غالبًا بالطبقة السياسية الحاكمة قبله

ويهتم سعيّد بشكل خاص، في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي في البلد، بموضوع الصلح الجزائي الذي لم يثمر بعد مرور أكثر من سنة على تفعيله عن العائدات المالية التي كان سبق تحديدها كهدف أو حتى عن جزء مهم منها. وهو يستعد الآن لإعادة تفعيل الصلح الجزائي عبر قانون جديد وبعد حملة إيقافات لافتة في صفوف العديد من رجال الأعمال، هذا إضافة إلى محاولات متواصلة وحثيثة خاصة دبلوماسياً لاستعادة "الأموال المنهوبة في الخارج" (أموال تعود أساسًا لمقربين من الرئيس التونسي الأسبق بن علي وقيل إنها هربت خارج البلاد ولم يسترجع منها إلا القليل). 

حالة اللامبالاة والخمول سياسيًا ومجتمعيًا تتمدد في تونس فقد قُوبلت نسب المشاركة الضعيفة في الانتخابات التشريعية الأخيرة مثلًا بردود فعل واسعة داخلياً وخارجيًا وتم التشكيك في مشروعية مجلس النواب ومدى تمثيله لإرادة أغلبية الشعب التونسي وفُتح نقاش واسع. لكن التفاعل مع نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة كان منعدمًا خارجيًا وضعيفًا جدًا داخلياً (اكتفت جبهة الخلاص الوطني، الائتلاف المعارض في تونس، بعقد ندوة صحفية مع بيانات قليلة لبعض الأحزاب من أبرزها النهضة وشق من حزب الوطد).

ويعتبر وجود معظم قيادات المعارضة البارزة في السجن في قضايا مختلفة، لكن أبرزها بعنوان التآمر على أمن الدولة، أحد أسباب هذا الجمود السياسي في البلد، إضافة إلى تعدد محاكمات النقابيين والنشطاء المدنيين والإعلاميين وهو ما يضاعف من حالة العزوف على الشأن العام ومن ذلك الاستحقاقات الانتخابية. 

يعتبر وجود معظم قيادات المعارضة البارزة في السجن أحد أسباب هذا الجمود السياسي في البلد، إضافة إلى تعدد محاكمات النقابيين والنشطاء المدنيين والإعلاميين

ومن الجلي أن المجالس المنتخبة على اختلافها لم تعد تمثل منطلقًا للتغيير بالنسبة للمواطن التونسي. يعرف التونسي أن دستور 2022 ركز الصلاحيات عند رئيس الجمهورية ولم يعد يحمل تصورًا أن تغيير أحواله يمر عبر محاسبة الحكومة أو قوانين يسنها مجلس النواب أو أي مجلس آخر، قد يكون غير ملم حتى بوظائفه وسلطاته.  

لذلك يُنتظر أن تُحدث الانتخابات الرئاسية، دون غيرها، إن ثبت موعدها فعلًا مع الثلاثي الأخير من سنة 2024، حلحلة في حالة اللامبالاة والخمول العامة باعتبار رهانها حول المنصب صاحب الصلاحيات والقادر على حمل تغيير أو مزيد تركيز دعائم الحكم الحالي في تونس.