عندما تصل مدن وقرى الجنوب التونسي قادمًا من مدن الشمال والساحل وخاصة الخطوط الرابطة بين ولايات صفاقس وقابس ومدنين وتطاوين وقبلي، تبدأ الفوانيس الحمراء في الظهور بإلحاح على حافتي الطرق والمسالك كعلامات دالة على نقاط بيع البنزين المهرّب. "العلامة الحمراء" هي نصف برميل بلاستيكي مستطيل الشكل أحمر أو يطلى باللون الأحمر الفاقع ويوضع داخله فانوس متصل بالكهرباء وبربط في عمود متوسط الطول ويرشق في مكان بارز فيبدو مضاء على مدار الساعة. إنه نداء سيميولوجي عن السلعة المعروضة من المحروقات المهربة من الحدود سواء الليبية التي يصل طولها 461 كلم أو الحدود الجزائرية التي يصل طولها 1034 كلم.
هذه الظاهرة البارزة بالجنوب التونسي تعتبر قديمة وسابقة لسنوات الثورة التونسية، إذ كان نظام بن علي يسمح بتهريب البنزين ويراقبه في نفس الوقت بقبضة حديدية في ظل توافق سياسي ليبي تونسي ترجمته الحركة الاقتصادية النشيطة بين البلدين في تلك الفترة والتي كانت تتيح بعض الهامش الذي يبدد التقصير التنموي الواضح للدولة التونسية تجاه المنطقة الحدودية الجنوبية شرقية.
استفحلت ظاهرة تهريب البنزين في السنوات الأخيرة مستغلة عدم الاستقرار السياسي سواء في ليبيا أو تونس والانشغال أكثر فأكثر بمكافحة الإرهاب فتغوّل ما يعرف بـ"اقتصاد الظل"
لكن الملاحَظ أن هذه الظاهرة قد استفحلت في السنوات الأخيرة مستغلة عدم الاستقرار السياسي سواء في ليبيا أو تونس والانشغال أكثر فأكثر بمكافحة الإرهاب فتغوّل ما يعرف بـ"اقتصاد الظل" والذي تشير بخصوصه تقارير البنك الدولي إلى أن أكثر من نصف المعاملات التجارية في تونس تتم داخل أروقة التهريب أو التجارة غير الرسمية، الأمر الذي حوّل هذه الظاهرة من هامش مخفف للتهميش إلى لوبيات متنفذة ومتشعبة تتحكم في جغرافيا استهلاك البنزين في تونس.
أما اللافت للإنتباه أن هذه النقاط المخصصة لبيع المحروقات المهربة والمشار إليها بالفوانيس الحمراء فإنه يقف على إدارة شؤونها شباب لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين سنة. شباب حالم بتغيير واقعه عن طريق المغامرة على الحدود.
"الترا تونس" التقى بالجنوب التونسي ببعض الشباب المشتغل في بيع البنزين المهرب عن طريق بعض الوسطاء والأصدقاء من أهالي تلك الجهات فكانت هذه آراؤهم:
"أحمد" (اسم مستعار) شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، من ولاية مدنين، كان يحلم بالحصول على شهادة البكالوريا لكنه لم ينلها لأسباب اجتماعية متشعبة، وقد ذكر أنه يشتغل في هذا المجال منذ خمس سنوات بعد أن ضاقت به سبل الشغل اللاّئق.
محمد علي (شاب يشتغل في بيع البنزين المهرب) يقول إن أحد أقاربه يعمل في التهريب منذ أكثر من 10 سنوات دون أن يعترضهم أو يعطلهم أحد من السلطات الأمنية أو الديوانية سواء عند جلب السلعة أو عند بيعها
"أحمد" يقضي أكثر من 10 ساعات في محل أشبه بالكوخ في ظروف شبه إنسانية خارج المدينة يبيع نوعين من المحروقات وهما "المازوط" و"الإيسونس" لعابري الطريق في اتجاه جربة وجرجيس وبني خداش، بأسعار معقولة مقارنة بالأسعار الرسمية وهو ما يجعل الإقبال عليه كثيفًا من قبل المواطنين وخصوصًا من قبل المشتغلين بالنقل المحلي أو الفلاحي أو التجاري.
"أحمد" يتحصل يوميًا على أجرة لا تتجاور الخمسين دينارًا وهو يعتبرها متدنية بالنظر للارتفاع الصاروخي الأسعار وصعوبة المعيش في الأشهر الأخيرة.
ليس بعيدًا عن محل "أحمد" نجد محلًا آخر يشتغل به "محمد علي" (اسم مستعار) وهو يبلغ من العمر 26 سنة متحصل على ديبلوم تكوين مهني في اختصاص تركيب وإصلاح المكيفات الهوائية، يفترش سريرًا خشبيًا بين البراميل التي تفوح منها رائحة قوية للمحروقات المخزنة بالدكان أين يقضي أغلب أوقات يومه يبيع البنزين المهرب من ليبيا.
وقد أفادنا محمد علي أن هذا المحل هو لأحد أقاربه الذي يعمل في التهريب منذ أكثر من 10 سنوات والذي يتولى التنقل بمفرده بواسطة شاحنته رباعية الدفع مرة أو مرتين في الشهر إلى مدينة بنقردان الحدودية مع ليبيا للحصول على حصة من البنزين من أحد المزودين الكبار هناك. وحسب رواية محدثنا فإنه لا أحد يعترضهم أو يعطلهم من السلطات الأمنية أو الديوانية سواء عند جلب السلعة أو عند بيعها. وأشار أحمد إلى أنه ورغم المنافسة الشرسة بين المشتغلين في هذا القطاع إلا أن لكلٍّ منهم رزقه.
تحدث محمد علي بحرقة عن صعوبة الحياة بالجهات الجنوبية وخاصة ما يواجهه الشباب من انسداد للأفق وغياب فرص العمل والاستثمار، مما يدفعهم للعمل بالممنوع أو المغامرة بقطع البحر الأبيض المتوسط خلسة نحو الضفة الأوروبية.
هذا الشاب الجنوبي الأسمر النحيف لم يفقد الأمل بعد فهو يخطط لتغيير حياته نحو الأحسن وذلك ببعث مشروعه الخاص في تركيب وصيانة المكيفات الهوائية.
سليم (بائع بنزين مهرب): هناك تجار كبار في تواصل مع وسطاء من عدة مدن بالجنوب التونسي يتولون نقل البنزين المهرب من ليبيا عبر السيارات والدواب في أوقات وأمكنة معينة وبأساليب خاصة رغم الحراسة المشددة على مستوى الحدود
تحدثنا أيضًا إلى "سليم" (اسم مستعار) وهو يعمل بمحل لبيع المحروقات في وسط مدينة جرجيس من ولاية مدنين وهو يبلغ من العمر 31 سنة ولم يتم دراسته الثانوية لأسباب عديدة منها وفاة والده وهو في سن الـ14 ومرض والدته.
دخل "سليم" غمار بيع البنزين المهرّب عن طريق بعض الأصدقاء من أبناء حيه، وقد أشار منذ البداية إلى أن مهنتهم مربحة لكنها قد تضررت خلال السنوات الأخيرة بسبب جائحة كورونا، وهم الآن بصدد بيع المخزونات القديمة، وفقه.
وأضاف أن انتعاشة ما قد حصلت خلال هذه الأسابيع الأخيرة وذلك تزامنًا مع قدوم ما سمّاهم سليم بــ "جماعة الخارج" (المغتربون من أهل الجهة) واللذين يقبلون على استهلاك بنزينهم بكثافة لرفعته وأثمانه البخسة، وفق تصريحه.
أما عن مأتى تلك السلع، فأكد "سليم" أنها من "الحدّ" (الحدود الليبية) موضحًا أن تجارًا كبارًا لا يعرفهم لكنهم في تواصل مع "قشارة" (وسطاء) من عدة مدن بجرجيس ومدنين وقابس وبن قردان ورأس جدير، هم من يتولون نقله من ليبيا عبر السيارات والدواب في أوقات بعينها وأمكنة بعينها وبأساليب خاصة وذلك رغم الحراسة الشديدة التي تقوم بها القوات العسكرية التونسية وفرق الحرس الوطني.
"سليم" يدرك تمام الإدراك أنه في خانة الممنوع والمخالف للقوانين التونسية، لكنه يقول إنه مذ وعي وجد نفسه في محيط يتعاطى التهريب علانية فانخرط فيه طواعية من أجل تأمين لقمة العيش له ولعائلته.
مختار العجيلي (بائع بنزين): الدولة التونسية هي المستفيد الأول والأخير من وراء تهريب البنزين خاصة مع غلاء أسعاره في العالم جراء الحروب وعدم الاستقرار الاقتصادي
اتصل الترا تونس بـ"مختار العجيلي" الذي قدم نفسه بأنه تونسي من أصول ليبية موضحًا أن أهله الأصليين هم من منطقة العجيلات الليبية وأن عائلته في تونس هي على اتصال دائم بهم.
وبين أنه يشتغل بـ"البنزينة" (وهي كلمة البنزين كما تنطق على الحدود الليبية) منذ 20 سنة ويتنقل بمفرده ويجلب المحروقات من ليبيا ليبيعها في تونس بالجملة في أكثر من مدينة، كما فتح منذ أشهر قليلة نقطتي بيع بالتفصيل تعملا على مدار الساعة وبها "صنّاع" (مساعدون) من خيرة الشباب.
وأضاف العجيلي أن المحلين الجديدين يقدمان خدمات إضافية مثل بيع زيوت محركات وأغلفة مقاعد السيارات وبعض الأكسسوارات الأخرى وكلها مستجلبة من السوق الليبية، وفق قوله.
العجيلي، الذي لم يتجاوز العقد الرابع من عمره، أكد أن البنزين الليبي عالي الجودة وبخس الثمن ومطلوب بالجهة وأن له زبائن يهاتفونه طلبًا للمحروقات.
ويرى العجيلي أن الدولة التونسية هي المستفيد الأول والأخير من وراء تهريب البنزين خاصة مع غلاء أسعاره في العالم جراء الحروب وعدم الاستقرار الاقتصادي هنا وهناك. ويختم العجيلي حديثه بالقول "يلزمنا نهربوا القاز باش نعيشو".
تحوّل تهريب المحروقات من هامش ترضية لجهات الحدود سمح به نظام بن علي قبل الثورة إلى مرض عضال ينخر جسد الاقتصاد التونسي ويتمدد فيه بأساليب مافيوزية
يبدو أن تهريب المحروقات على الحدود التونسية قدر محتوم، إذ تحوّل من هامش ترضية لجهات الحدود سمح به نظام بن علي قبل الثورة إلى مرض عضال ينخر جسد الاقتصاد التونسي ويتمدد فيه بأساليب مافيوزية مما حدا بالغرفة النقابية لوكلاء وأصحاب محطات بيع المحروقات إلى دق نواقيس الخطر مشيرة إلى أن المحطات تخسر الكثير من الأموال سنويًا جراء عمليات الإغراق التي يقوم بها مهربو المحروقات.
أما اجتماعيًا فإن هذه الظاهرة قد أرست ثقافة التهريب أو "الريسك" في أوساط الشباب والتماهي معها وجعلت الآفاق محدودة الأحلام مبتورة. كل هذا في ظل صمت مريع للدولة وغيابها عن المشهد وعدم رسم تصورات واستراتيجيات وخطط إنقاذ للبلاد مما يحدث على الحدود.