24-أغسطس-2015

تظاهرة في بنقردان ضد البطالة وسياسات الدولة التنموية (أ.ف.ب)

تعاني معظم حكومات العالم من مشكلة التهريب، "الكونترا" باللهجة المحلية التونسية، وتونس لم تشذ عن السياق. يُمثل التهريب إحدى أهمّ خاصيات المنطقتين الغربية والجنوبية، على مستوى الحدود الجزائرية والليبية، ويشمل كلّ أنواع السلع والمنتجات الّتي يمكن نقلها كالبنزين ومشتقّاته، السيارات وقطع غيارها، المواد الغذائيّة والغلال، منتجات النسيج، السجائر والخمور، الأغنام، الأجهزة المنزليّة وحتى المخدرات والأسلحة.

حسب تقرير للبنك الدولي، صدر بداية سنة 2014، أضحت التجارة في السلع المهربة عنصرًا مهمًا لا يمكن تجاهله ويزداد حضورها في السوق التونسية بصورة كبيرة، حتّى أنّ حوالي ربع الكميّة المستهلكة من الوقود في تونس مهرّبة من الجارتين ليبيا والجزائر.

عندما لا تمتلك الدولة برامج خلق فرص عمل لمواطنيها، فأقل المتوقع هو نشاط السوق السوداء ومن ضمنها التهريب

عند التجول خاصة في المناطق الحدودية، يسهل ملاحظة محلات بيع المواد المهرّبة والتي يعمل أصحابها علنًا دون تدخّل أمنيّ أو رقابي إلا فيما ندر. ويؤكد بعض المواطنين أن المخدّرات متاحة بشكل عاديّ في المقاهي وبعض المنازل المعروفة. ومن السهل أيضا ملاحظة أوعية البنزين معروضة على جانبي الطريق للبيع بثمن يتراوح بين 7 و15 دولارًا بفارق عن ثمن البيع الرسميّ في محطّات الوقود يصل إلى 7 دولارات دون أي خوف من أعوان الأمن. ويبرّر بعض سوّاق العربات اقتناء البنزين المهرّب بثمنه المنخفض من جهة وبالغش الذي تمارسه بعض محطّات الوقود حين تبيع البنزين المهرّب بدورها.

التهريب من أجل العيش الكريم

يمارس عدد كبير من سكان المناطق الحدودية نشاط التهريب كمهنة يعيشون وأسرهم منها، رغم إجراءات الدولة للحد من الاستنزاف الجبائي الناتج عن التهريب والتجارة الموازية. ويبرّر سكان هذه المناطق ذلك بارتفاع معدلات البطالة في جهاتهم وهو ما تؤكده التقارير الرسمية إذ يشير معهد الإحصاء إلى أن معدل البطالة في تونس يقدر بحوالي 15% في بداية سنة 2012 فيما بلغ في نفس الفترة في المحافظتين الحدوديّتين القصرين وجندوبة حوالي 20 %.

يقوم بالتهريب عادة رجال من سن 17 سنة إلى حدود 55 سنة، من المتعلّمين وغير المتعلّمين ومن الحاصلين على شهادات جامعية، فيما يندر حضور النّساء في هذا الميدان والأمر عائد إلى طبيعة المجتمعات الحدودية والّتي لا تزال المرأة فيها غير قادرة على ممارسة بعض الوظائف والمهن وهو عائد أيضا إلى خطورة العمل في هذا المجال الذي يتطلّب حضورًا ليليًا في مناطق جغرافية وعرة.

وفي كثير من الأحيان ينتج عن عمليات المطاردة إطلاق نار من قبل "الديوانة"، الحرس الحدوديّ، على المهرّبين ويؤدي ذلك إلى وفاة بعضهم وآخرها حادثة وقعت في شهر نيسان/أبريل الماضي، إذ قتل شاب بعد مطاردته في مدينة بنقردان المتاخمة للحدود اللّيبيّة.

خلال حديثه لـ"الترا صوت" يقول شاب امتهن التهريب، بمنطقة "صحراوي" في مدينة فوسانة من محافظة القصرين، منذ سن الخامسة عشر، "كنت أرافق ابن عمّي حين يتوجّه إلى الحدود الجزائريّة لجلب البنزين، نقطع طريقا وعرة على سيّارته رباعيّة الدّفع منزوعة اللوحة المنجميّة في أواخر اللّيل حتّى نقلّل من إمكانيّة كشفنا من الديوانة التونسية والجزائريّة". ويضيف، "حين نصل إلى مخازن "الطّرف الجزائريّ"، نستبدل الأوعية الفارغة بالأوعية المملوءة ونعود..".

يتذكر المهرب الشاب وقوعهم ذات مرة بين أيدي رجال الديوانة التونسية ولم يتمكنوا من النفاذ بجلدهم إلا بعد دفعهم مقابلًا ماديًا كـ"رشوة".

ويفسر توجهه إلى التهريب بدل إتمام دراسته بـ"الأرباح الأفضل من العمل في وظيفة حكومية إن توفرت"، ويوضح "أكمل الكثير من أقاربي دراساتهم الجامعية وعادوا إلى العمل في التهريب رغم أخطارها وإمكانيّات الخسارة والسّجن خاصّة عندما يقبض على أحدهم ويحجزون السلع".

الدولة حاضرة غائبة!

تسعى الدولة التونسية إلى مقاومة ظاهرة التهريب منذ عقود، هذا ما يصرح به المسؤولون عادة. إلا أن النتائج تعتبر متواضعة جدًا لاعتبارات مختلفة. فقبل الثورة، كان التهريب نشاطًا مدعومًا من "الطّرابلسيّة"، أصهار الرّئيس المخلوع، وشركائهم فكان عمل الديوانة يقتصر على مراقبة المهرّبين الصغار ومن لا يعمل مع "الحيتان الكبيرة" حسب تعبير المهرّبين. أما بعد الثورة فقد برزت شبكات أخرى للتهريب وتطورت أنشطة أهالي تلك المناطق الحدودية نظرًا لضعف أجهزة الدولة الأمنية وتلاشي الخوف من جبروت المسؤولين.

يرصد المتجول في عديد المدن الحدودية بنايات ضخمة وسيارات فخمة، وحين السؤال عن أصحابها يكون الجواب آليًا "إنه فلان الفلاني مهرّب كبير وصاحب مخازن ومحلات.."، ويؤكد أغلب سكان هذه المدن أن مؤسسات الدولة على علم بذلك وقد تكون في بعض الأحيان متواطئة.

أما الأرقام الرسميّة الّتي تنشرها مصالح الدّولة فتؤكّد أن جهاز الديوانة تمكن من إحباط الكثير من عمليّات التهريب، إذ استطاع حجز ما قيمته حوالي 150 مليون دولار سنة 2012 وحوالي 170 مليون دولار سنة 2013، حسب موقع البيانات المفتوحة لوزارة الدّاخليّة. وتبقى هذه المبالغ ضعيفة جدا مقارنة بحجم هذا النشاط وتطوره في تونس.

ويٌرجع المسؤولون الأمنيّون ضعف عملهم في مكافحة التهريب إلى محدوديّة الإمكانيات البشريّة واللّوجستيّة المتوفّرة لأعوانهم وهم يدعون الحكومة إلى تدعيم القطاع بتوظيف مزيد من الأعوان وبتوفير سيارات وشاحنات قوية قادرة على سلك الطرقات الوعرة بالإضافة إلى المعدّات المتطوّرة كالمناظير و"الرادار" ويستندون إلى ارتفاع خطر التهريب على الاقتصاد وأيضًا الأمن الوطني.