09-مارس-2021

تقول حليمة إنها ليست نادمة لأنها مغامرة ومستعدة للإبحار في فلك الممنوع (صورة تقريبية/ Getty)

 

بلباس أنيق، يخفي الشبهات، تخرج سيدة خمسينية من مخدعها بالجنوب التونسي، لتسير على درب الممنوع، كانت تقتنص الفرصة حتى لمست خيطًا فأمسكت به ولم تفلته. تعقبت الطريق وشكلت خلية علاقات متينة من مكان سكناها إلى العاصمة مرورًا ببن قردان، لتؤمن السلع المهربة في طريق محفوف بالمخاطر.

دون خوف، تخرج في الصباح الباكر، حاملة معها بعض الألبسة في خلفية السيارة، تبدأ رحلتها في كشف الطريق أمام سيارة أخرى يقودها شريكها. حين تطمئن للمكان مع كل مساحة تقطعها تسمح له بالمرور، وصولًا إلى الوجهة التي حدداها.

حليمة (اسم مستعار)، أقنعت زوجها بالدخول إلى عالم التهريب من منطقة بن قردان الحدودية مع ليبيا، التي تتدفق منها السلع قبل توزيعها بشكل سري منظم، على الوسطاء الذين يوصلونها بدورهم إلى موزعين آخرين في العاصمة، ويتحكمون فيما بعد بسعرها وكميات البيع.

عملت حليمة في البداية "ككشافة" لزوجها في الطريق والكشّاف بلغة المهربين، هو الشخص الذي يسبق سيارة السلع ليتحقق من الطريق وينبه في حال وجود تعزيز أمني أو شرطة مرور

هي تجارة خارج القانون، سوق موازية ومسالك توزيع تحت الطلب، تحتكر السوق وتضخ سلعها وفق استراتيجية محكمة، وتحقق لهم أرباحًا كبيرة. لكنها بالنسبة لمحاورتنا، خاصة، مغامرة عاشتها بكل تفاصيلها وليست نادمة عليها وإن سمحت لها الفرصة ستعود لها، مرجعة السبب في ذلك إلى ظروفها المادية الصعبة ووقوعها في فخ المديونية، فلم يكن أمامها من خيار سوى الإقبال على المجهول، كما حدثت "الترا تونس".

اقرأ/ي أيضًا: هوامش تونس.. جحيم التهريب ولا جنة الدولة

"عملت في البداية ككشافة لزوجي في الطريق"، والكشّاف بلغة المهربين، هو الشخص الذي يسبق سيارة السلع، ليتحقق من الطريق قبل أن يسلكه صاحب السيارة التي تحمل المواد المهربة، وتنبيهه في حال وجود تعزيز أمني أو شرطة مرور.

"ليس من السهل التعامل مع الموزعين، لأنهم يصفونني بالعنصر الأضعف في العملية، بالنسبة إليهم بما أني امرأة من السهل الوقوع في قبضة الأمن والوشاية بالمجموعة كلها"، تقول حليمة خلال حديثها لـ"الترا تونس" عن الارتباط الأول بشبكة توزيع في منطقة بن قردان، تعرفت عليها عن طريق رجل يعمل لصالحهم، أرشدهم إلى الطريق قبل أن يواصلوا فيه دونه.

زوجها، أبى إلا أن تكون مرافقته لثقته بها وقدرتها على التضليل والتمويه، وفق قولها. تحل معه في كل تنقلاته وتتعامل مع المزودين وتتفاوض معهم.

حليمة (مُهرّبة) لـ"الترا تونس": يصفني الموزعون بالعنصر الأضعف في العملية، بالنسبة إليهم بما أني امرأة من السهل الوقوع في قبضة الأمن والوشاية بالمجموعة كلها

كانت ظروفهم المادية في البداية، صعبة، لذلك أخذا السلع دينًا من الموزع نفسه، ليقوما ببيعها في العاصمة، ثم عادا إلى بن قردان ليسلماه هامشًا من الربح، وتكررت العملية حتى أصبح لهما رأس مال خاص، لضخ أموال أكبر.

"يوجد العديد من المرافقات مع أزواجهن خلال العمليات، وهناك نساء يقمن بكامل العملية لوحدهن دون خوف"، تتحدث المهربة لـ"ألترا تونس"، مؤكدة أنها ليست استثناءً وأن الكثير من الرجال في تونس، من مختلف المناطق، يسمحن لزوجاتهن بمشاركتهن في التهريب، باعتبار أن الزوجة تحفظ السر، ولن تطلب مقابلًا مكلفًا كأي شريك آخر.

وبارتفاع حجم الربح، أصبحا يعملان بشكل يومي ويتنقلان من بن قردان إلى تونس دون خوف، بعد أن خَبرا الطريق.

يركبان سيارة من طراز راقٍ، نُشرت على مقاعدها الخلفية الملابس التي تضعها في الخلفية مع بداية كل عملية، على اعتبار أنها مجال تجارتها الأصلية، وسبب تحولها إلى العاصمة بشكل متكرر في وقت قصير، كما أوهمت الأمن أنها تشتري الملابس من تونس لتبيعها في الجنوب. 

نجح الزوجان لمدة عام ونصف في تجاوز الفرق المتمركزة في الطرق المكشوفة ومختلف المسالك الفرعية التي يتبعانها، وحققا أرباحًا عالية، من تهريب التبغ والمعسل "الجراك" ولم تحجز لهما السيارة والسلع، سوى مرة واحدة.

تقول حليمة "يوجد طريق فرعي صعب ومخيف كما أنه غير مأهول بالسكان، لكنه الخيار الوحيد للنجاة والوصول بأقل الأضرار".

حليمة (مُهرّبة) لـ"الترا تونس": "يوجد العديد من المرافقات مع أزواجهن خلال العمليات، وهناك نساء يقمن بكامل العملية لوحدهن دون خوف"

يتعامل الزوجان مع مهربي سلع تونسيين، تصلهم البضاعة من الحدود الليبية، دون أن يعرفا صاحبها الأصلي، ولا بائع الجملة الذي ينتظرهم في تونس. يُمثلان دور الوسيط، الذي تنتهي مهمته عند أسماء غير معروفة. 

"لم ألتق صاحب السلع الأصلية، أحياناً نصمم على التواصل معه للتفاوض حول السعر عند شراء السلع، ويكون ذلك عبر الهاتف، ولا نتعامل بالأسماء" تقول محدثتنا.

وفي العاصمة يتواصلان مع موظفين يعملون عند بائعي الجملة في الأحياء الشعبية، الذين يتعاملون بدورهم مع أصحاب المقاهي والأكشاك في تونس. ولا تتجاوز المدة بعض الدقائق لتسليم السلع والحصول على المقابل.

خلال العملية، يتحكم مزود السلع في بن قردان في تحديد السعر للمزودين في العاصمة، وهامش الربح للوسطاء، ويُطلع بائعي الجملة على المبلغ الذي اشترى به الوسيط المواد، ليحدد الثاني مساحة التفاوض.

اقرأ/ي أيضًا: رحلة "النحاس" في تونس.. من التهريب إلى التصدير

ضمن دائرة العلاقات المتشابكة في عملية التهريب، يبدو دور الأمن سلبيًّا، لكن وفق الزوجة، تعامل الثنائي مع رجال الأمن بأنواعهم. سمح لهم البعض بالمرور بعد استجداء، يوجد من يطلب مقابلاً ماديًّا بسيطَا لتناول الغداء أو شرب قهوة، ويصر البعض الآخر على تطبيق القانون.

يتحكم مزود السلع في بن قردان في تحديد السعر للمزودين في العاصمة، وهامش الربح للوسطاء، ويُطلع بائعي الجملة على المبلغ الذي اشترى به الوسيط المواد، ليحدد الثاني مساحة التفاوض

أما في بن قردان، نقطة انطلاق رحلة التهريب، فإن المهرب محمي وفق قولها، لأن المزوّد يضمن له تجاوز حوالي 10 كلم، دون أي مراقبة أو تبعات قانونية في حالة الإيقاف، المستبعدة.

لكن بعد الخروج من منطقتهم، يكون الوسيط خارج نطاق الحماية، ويتفقان على اعتبار كل منهما طرفًا مجهولًا بالنسبة للآخر، ويجري ذلك كعرف في هذا الوسط.

تشير حليمة إلى العلاقات القوية التي تجمع الأمن ببعض مزودي المواد المهربة، في المنطقة الحدودية، خاصة أنها معروفة بوفود السيارات لحمل السلع، بشكل يومي ودون رقيب. وبينت أن لبعضهم تعامل خاص مع المزود الأصلي.

رغم ما تحمله هذه التجارة الموازية من مخاطر، تقول حليمة لـ"ألترا تونس" إنها ليست نادمة على ما أقدمت عليه، لأنها مغامرة ومستعدة للإبحار في فلك الممنوع  حتى وإن كان لذلك تبعات قانونية. 

توقف الثنائي عن التهريب بعد حادث كاد أن يودي بهما، لكنهما مستعدان الآن لتكرار التجربة، حين يسمح لهما الظرف بذلك.

تؤكد حليمة العلاقات القوية التي تجمع الأمن ببعض مزودي المواد المهربة في بنقردان

حليمة، ليست إلا جزءًا من سلسلة، قد تغيب هي ويحضر غيرها لأن الحلقة الأصلية لا تزال مفقودة، أمام عجز السلطة التونسية عن اقتفاء أثرها، رغم ما تشكله من تهديد حقيقي للدولة، إذ تشير الإحصائيات إلى أن الخسائر التي تتكبدها بسبب تهريب التبغ تراوحت بين 500 و700 مليون دينار سنويًا عام 2020.

لكن محاورتنا التي تعتبر الدولة ظالمة، كانت تقرأ القرآن في سرها خلال عمليات تهريب البضائع، وفي كل مرة يمران فيها من وإلى العاصمة بسلام، تحمد الله، الذي نجاهما بحفظ آياته التي ترددها سرًّا "وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ". 

تكرر الآيات على مسامعي ضاحكة، وتحمد الله مرة ثانية، قبل أن تقول "كل شيء بستر الله"، بالكاد تعلم أنها متناقضة، فيما أحاول استيعاب الحقيقة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مدن الحدود الجنوبيّة لتونس: الإقصاء والعقاب (1/2)

مدن الحدود الجنوبيّة لتونس: الإقصاء والعقاب (2/2)