16-يوليو-2022
جرجيس

 الرصيد الكبير من الشواطئ الخلابة التي تحوزه مدينة جرجيس يعد كنزًا سياحيًا وترفيهيًا وبيئيًا غير مستغلّ بالشكل المطلوب (Michele Cipriano/Getty)

 

تصدير: "هذا البحر لي، هذا الهواء الرطب لي..."

-"الجدارية" (الشاعر الفلسطيني محمود درويش) -


الإنسان في كل مكان على الأرض عندما يقف قبالة البحر تائهًا أو عاشقًا أو متأملًا أو غاضبًا أو خائفًا أو متريّضًا... تنتابه هواجس وخواطر غريبة ومجهولة فيتراءى أمامه قول الشاعر: "هذا البحر لي" في كناية راقية ولا إرادية عن العلاقة الوجدانية التي تجمع الإنسان بالبحر.

 البحر فضيلة أزلية من فضائل الطبيعة على الإنسان بل هو جزء أساسي من كينونة، يتشابهان في العديد من الخصال، في الهدوء والغضب، في الصحو والمطر، في الظاهر والباطن، في الصمت والصخب.

البحار والشواطئ على كوكبنا الأزرق قد لا تتشابه في جغرافيتها وفي سحرها لكن روحها واحدة ونبضها واحد، تمامًا كالإنسان: واحد ومتعدد ومختلف، قد نسكن بحرًا دون آخر كما نسكن أرضًا دون أخرى فنسافر إليه ونهجع أمامه ونستلهم منه سكينة بعينها ونمتح من مكوناته الجمالية الفريدة فتلين الروح ويهدأ الفؤاد وتجود القريحة بأجود الأفكار والأشعار.

من الشواطئ التونسية التي لا تتكرر صورتها في مكان آخر وتعد وجهة عالمية، شواطئ مدينة جرجيس التي تمتد على طول أكثر من 11 كلم مشكّلة بذلك أطول كورنيش بحري بتونس ومقدمة لزوار المدينة باقة متنوعة من جمال بحري نادر

قد تحوز مدينة أو قرية ساحلية أو جزيرة ما شاطئًا ساحرًا وجذابًا خلابًا فيتحول إلى رأس مال رمزي يسكنه الآلاف ويحج إليه ملايين الناس من مغارب الأرض ومشارقها لينعموا بما يغدق من جمال آسر ومن سكينة ودفء. وقد تتحول بعض الشواطئ إلى فضاء للاستثمار السياحي فتتحرك ماكينات الترويج والتسويق للشركات الاستثمارية العابرة للقارات من أجل المزيد من الجذب لشاطئ أو قرية بحرية ما. 

وتونس علاقتها بالبحر قديمة قدم التاريخ نفسه  فهي  مفتوحة على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط  منذ آلاف السنين وتتوسط الحوضين الشرقي والغربي  في مكان عد استراتيجيًا تعاقبت عليه كل العهود والحضارات: اليونانية والفينيقية والرومانية والإسلامية... فهي  تحوز حوالي 1300 كلم من السواحل الآسرة والجذابة ومجموعة من الجزر الفاتنة مثل أرخبيل جالطة على سواحل مدينة طبرقة بالشمال وأرخبيل زمبرة وزمبريتا على سواحل مدينة الهوارية بالوطن القبلي (نابل) وأرخبيل قرقنة على سواحل مدينة صفاقس بالوسط الشرقي  وجزيرة الأحلام جربة بالجنوب الشرقي، وغيرها.

في تونس، لكل شاطئ حكاياه ومزاياه وسحره وجماله ورونقه وإلهامه الذي يميزه عن بقية الشواطئ مما جعل لهذه الأمكنة البحرية مريدين وعشّاقًا مخصوصين من تونس وخارجها لا تهدأ أنفسهم إلا عندما تكحل أعينهم حركة الموج على شاطئهم المفضل...

ومن الشواطئ التونسية التي لا تتكرر صورتها في مكان آخر وتعد وجهة عالمية، شواطئ مدينة جرجيس من ولاية مدنين بالجنوب الشرقي التي تبعد عن العاصمة تونس حوالي 540 كلم وعن جزيرة جربة حوالي 30 كلم.

إلى جانب المياه الصافية والمشاهد اللازوردية والرمال النقية وظلال باسقات النخيل، فإن لشواطئ مدينة جرجيس خصوصيات وقصصًا مرتبطة بالعادات والتقاليد المتوارثة بأسفل سهل "جفارة" العظيم

    جرجيس مساحتها 340 كلم مربع وهي من أكبر المعتمديات بالبلاد التونسية وأيضا تعتبر ذات كثافة سكانية عالية إذ يفوق عدد سكانها أكثر من 100 ألف ساكن وتتميز بكونها شبه جزيرة تنام في سلام في خاصرة المتوسط ، وقد نشأت في القرن السادس عشر ميلادي على أنقاض إمبراطورية "جكتيس" البونيقية والتي مازالت آثارها بادية للعيان إلى اليوم، كما تعاقبت عليها كل الحضارات ولعل رصيدها من المعالم والمواقع الأثرية شاهد على ذلك ولنا أن نذكر أشهرها وهي: موقع "زيطا" بهنشير الزايين وموقع "برج القنطرة" قرب الطريق الرومانية  وموقع "المغارة" قرب قصر الزاوية وموقع "شمّاخ" وموقع "برج البيبان".

    استوطنت جرجيس عدة أعراق لكن أغلبها من القبائل التورانية التي عبرت ليبيا قادمة من الجزيرة العربية ومن اليمن مشكّلة حوالي 100 عائلة هي التي تصنع الآن النسيج الاجتماعي على أرض عكارة.

    إلى جانب عراقة فلاحة الزيتون واعتزاز الجرجيسيين بذلك، يعتبر البحر كنزًا آخر لمدينة جرجيس، فالشواطئ هنا تمتد على طول أكثر من 11 كلم مشكّلة بذلك أطول كورنيش بحري بتونس ومقدمة لزوار المدينة باقة متنوعة من جمال بحري نادر.

    صورة
    حزام النخيل الباسق يقف بإجلال قبالة البحر في جرجيس (Dan Kitwood/Getty)

     

    عندما تقف على حافة المدينة وتنظر إلى حزام النخيل الباسق الذي يقف بإجلال قبالة البحر تدرك أن شواطئ جرجيس أسطورية وأن مراكب "أوليس" (عوليس) مرّت من هناك ورست على الضفاف وغرس نوتيّها نخلًا وفيرًا بلا عدد زان المكان إلى اليوم.

    إلى جانب المياه الصافية والمشاهد اللازوردية والرمال النقية وظلال باسقات النخيل، فإن لشواطئ مدينة جرجيس خصوصيات وتسميات وقصصًا مرتبطة بالعادات والتقاليد المتوارثة بأسفل سهل "جفارة" العظيم.

    • "شاطئ سيدي كبير"

    هو بداية سلسة شواطئ جرجيس وسمي كذلك نسبة إلى الولي الصالح سيدي كبير الذي أطلق اسمه أيضًا على حيّ بأكمله وعلى جامع شهير. وهو شاطئ شبه صخري مفتوح على طول الشواطئ الأخرى مقدمًا مشهدًا بانوراميًا مدهشًا. ويعتبر شاطئ سيدي كبير منطقة ذات خصوصية لأن قبالته ثكنة عسكرية لكن أغلبه مفتوح للعموم.

    "شاطئ سيدي كبير" هو بداية سلسة شواطئ جرجيس وسمي نسبة إلى الولي الصالح سيدي كبير  وهو شاطئ شبه صخري مفتوح على طول الشواطئ الأخرى مقدمًا مشهدًا بانوراميًا مدهشًا

    • "شاطئ سونيا"

    وهو شاطئ رملي فسيح يمتد لثلاث كيلومترات أو أكثر ليصنع بذلك أجمل كورنيش يمكن أن يصادفك ببساطته وأناقته ومقاهيه ومطاعمه. هذا الشاطئ جزء كبير منه يعتبر شاطئًا عائليًا، إذا تقصده العائلات فتقيم خيامًا متباعدة بأسلوب محافظ تماهيًا مع طبيعة المجتمع المحلي طلبًا للراحة والتريّض. أما تسميته بذلك الاسم فتعود إلى المعمرين الفرنسيين الذين استوطنوا جرجيس أيام الاستعمار الفرنسي لتونس وتعتبر عائلة "قفرتو" من أشهر العائلات التي أقامت قبالة هذا الشاطئ الخلاب مع بداية القرن العشرين، فقد كانت عائلة مختصة في بيع وإصلاح الآلات الفلاحية ومازال منزلهم قائمًا إلى اليوم وتوجد داخله مقبرة صغيرة تحوي رفات بعضهم.

    "شاطئ سونيا" هو الأقرب لوسط البلد وهو شاطئ شعبي مليء بالحياة يقصده القاصي والداني، فكل من يزور جرجيس لا بد أن يقصد هذا المكان، إنه وجه جميل من وجوه شبه الجزيرة.

    صورة
    "شاطئ سونيا" هو الأقرب لوسط البلد وهو شاطئ شعبي مليء بالحياة (رمزي العياري/ الترا تونس)

     

    • "شاطئ الأميرة"

    وهو شاطئ مرصع جبينه العالي بالنخيل المتعالي، معه عرفت منطقة السويحل أمجد أيام السياحة في ستينات وسبعينات القرن الماضي. على طوله نجد أفخم النزل والفيلات المخصصة للوافدين. "الأميرة" يظهر في شكل خليج كان قديمًا ميناء صغيرًا لبحارة جرجيس مازالت بقاياها قائمة إلى اليوم.

    الجلوس في فيء نخيل "شاطئ الأميرة" في وقت الأصيل وخاصة مع مساءات الصيف الطرية متعة للعين والروح معًا.

    صورة
    "شاطئ الأميرة" هو شاطئ مرصع جبينه العالي بالنخيل المتعالي (رمزي العياري/ الترا تونس)

     

    • "شاطئ العقلة"

    يوجد بعد المنطقة السياحية بالسويحل، وسمي كذلك نسبة إلى اسم المنطقة ذاتها، كان إلى حد قريب شاطئًا فلاحيًا بسيطًا لكنه مع التوسع العمراني لمدينة جرجيس ونشأة ما يمكن تسميته بالبورجوازية الصغيرة المحلية تحوّل إلى شاطئ فخم. طبيعته مختلفة عن البقية فهو يوجد أسفل شبه "فالاز" ومازال النخيل الباسق شاهدًا على جماله الأول.

    • "شاطئ الجوابي"

    "شاطئ الجوابي" هو شاطئ صخري نحتت أمواج البحر من رحمه مجموعة من "الجوابي" التي تحولت إلى مجموعة من المسابح الصخرية المغرية بالسباحة

    هو شاطئ صخري نحتت أمواج البحر من رحمه مجموعة من "الجوابي" (جمع جابية والجابية هي مصطلح فلاحي متداول في تونس والمقصود بها الحوض الصغير) التي تحولت إلى مجموعة من المسابح الصخرية المغرية بالسباحة. شاطئ "الجوابي" هو صنيعة الطبيعة للإنسان يقصده عشاق البحر والمغامرون المحبون للغوص والتمتع بالعوالم البحرية.

    • "شاطئ الأوماريت"

    يوجد خارج مناطق العمران حذو الأراضي الفلاحية حيث توجد غابات الزيتون مترامية الأطراف، هو مغامرة أخرى في اتجاه الجمال الساحر في جرجيس. مكان آسر بمشاهده البحرية الخالدة ونخيله الباسق، لا يزال محافظًا على بيئته الطبيعية الأولى لذلك هو يعدّ وجهة مناسبة لعشاق التصوير الشمسي من أجل اقتناص صور الغروب أو ذوبان القمر على أديمه ليلًا.

    • "شاطئ حسي الجربي"

    "شاطئ حسي الجربي" يعرّفه أهالي جرجيس من باب التشبيه بمالديف تونس وذلك بالنظر لامتداد ساحله على طول أكثر من ثلاث كيلومترات أو أكثر وتدرّج الألوان على أديمه بطريقة بديعة

    ويعرّفه أهالي جرجيس من باب التشبيه بمالديف تونس وذلك بالنظر لامتداد ساحله على طول أكثر من ثلاث كيلومترات أو أكثر وتدرّج الألوان على أديمه بطريقة بديعة تسهم فيها حركة الأمواج الدؤوبة على نحت الخلجان الصغيرة في الرمال الفضية.

    صورة
    "شاطئ حسي الجربي" يعرّفه أهالي جرجيس بمالديف تونس (مصدر الصورة: أمين المولهي)

    • "شاطئ الرّصيفات"

    ويوجد على الطريق المؤدية إلى جزيرة جربة قرب القنطرة الرومانية، وهو شاطئ فسيح يمتاز بمساحات وارفة من الهدوء والسكينة تمامًا كمقطوعة موسيقية رومنسية، يمكن لزائر هذا الشاطئ المتميز أن يرى مشاهد للغروب لم يرها من قبل في أي مكان آخر وأن يتمتع بلوحات عودة زوارق الصيد فجرًا أو خروجها مساء في الليالي المقمرة.

    "الرصيفات" هو بوابة للشمس عبر مطاعمها الفاخرة المختصة في الأطباق البحرية الأصيلة.

    • "البيبان"

    منطقة معروفة بمينائها البحري ووفرة فلاحتها البحرية وشهرة منتوجها السمكي. هي مكان استثنائي بكل المقاييس، صخور والتواءات وخلجان صغيرة وأحواض بحرية. "البيبان" يمكن القول إنها خلاصة كل الساحل الجرجيسي.  

     الرصيد الكبير من الشواطئ الخلابة التي تحوزه مدينة جرجيس بالجنوب الشرقي التونسي يعد كنزًا سياحيًا وترفيهيًا وبيئيًا غير مستغلّ بالشكل المطلوب مقارنة بمدن وسواحل تونسية أخرى

    إن هذا الرصيد الكبير من الشواطئ الخلابة التي تحوزه مدينة جرجيس بالجنوب الشرقي التونسي يعد كنزًا سياحيًا وترفيهيًا وبيئيًا غير مستغلّ بالشكل المطلوب مقارنة بمدن وسواحل تونسية أخرى، ويرجع أغلب أهالي جرجيس ذلك لأحابيل السياسة ولوبيات السياحة. ورغم ذلك فإن لهذه الأمكنة عشاقها ومريدوها يقصدونها من تونس وخارجها فنجد شبابًا يقيم مخيمات ترفيهية ويبعث صفحات خاصة بتلك الشواطئ على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التعريف بجمال جرجيس ومفرداتها الطبيعية الجميلة، كما نجد جمعيات بيئية تقوم ببعض الأدوار التحسيسية والتعريفية. أيضًا هناك بعض المستثمرين المحليين الذين يتحدون الصعوبات من أجل بعث بعض المشاريع السياحية والخدماتية.

    هذه الشواطئ التي ذكرنا وغيرها بالعشرات على طول شبه جزيرة جرجيس، هي أمكنة طبيعية جاذبة ومثالية وساحرة بالمعنى الشعري للكلمة لها تاريخها وعراقتها ومكوناتها البيئية المميزة التي تمكنها من أن تكون وجهة داخلية وخارجية، فقط ثمة إرادة ما غائبة.