22-فبراير-2022

من الأعمال الأثرية المسترجعة والمتوفرة بمعرض "تراثنا ثروة لا تقدر بثمن" بمدينة الثقافة (رمزي العياري/الترا تونس)

 

إن قصص السرقات وعمليات التهريب المتعلقة بتاريخ وتراث الشعوب عرفت فداحتها مع استعمار الدول العظمى لعديد البلدان، حيث نقلت الآثار والأعمال الفنية والرموز الحضارية علنًا وبتعّلات مختلفة إلى المتاحف الأوروبية والساحات العامة. 

وتمت حيازتها وتحويلها إلى ملك قومي محمي بمقتضى قوانين صادقت عليها برلمانات تلك الدول وتحوّلت المتاحف الأوروبية بما تحويه من تراث للحضارات القديمة والأعمال الفنية النادرة إلى مؤسسات ثقافية ذات صبغة اقتصادية تسهم في تنمية السياحة وتدر أموالاً طائلة، وحتى عندما انتهى الاستعمار المباشر تواصلت عمليات نهب الآثار ونقلها إلى أوروبا والولايات المتحدة حيث استغلّت المؤسسات المتحفية العالمية حالات الحروب والحروب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي في بعض الأقاليم والمناطق من العالم واستولت مجددًا على تراث الشعوب.

تونس كبلد متوسطي عبرته أغلب الحضارات الإنسانية تعتبر أرضًا تراثية بامتياز وتعتبر محطة أساسية لنشطاء ومهربي الآثار في العالم سواء كبلد مرور نحو أوروبا أو للاستيلاء على التراث المحلي 

أما في حالات السلم القصوى فإن الآثار تهرّب بين الدول فوق جسور من الأموال الطائلة التي توضع على ذمة شبكات التهريب الجديدة والتي تثبت العديد من التقارير التي أعدها نشطاء حماية التراث في العالم على تورط علماء آثار وأمنيين وحرس حدود وغيرهم فيها.

كما تشير أرقام غير رسمية إلى أن الحركة السنوية لتهريب الآثار عبر العالم تشمل ما بين 30 و100 ألف قطعة تراثية وفنية وهي أرقام مخيفة تشير أساسًا إلى تضرر العديد من الشعوب التي تتفاجأ بآثارها معروضة للبيع بقاعات المزادات أو مستقرة بأشهر المتاحف.

اقرأ/ي أيضًا:  حوار| فوزي محفوظ: ملف القطع التراثية المهربة بيد القضاء وتراثنا مهدد

ومن أشهر عمليات الاستيلاء على ممتلكات الشعوب، نجد حادثة التمثال النصفي  للملكة الفرعونية "نفرتيتي" الذي عثر عليه علماء آثار من ألمانيا بدلتا النيل سنة 1912 وقاموا بشحنه إلى بلدهم في ظروف غامضة ليستقر إلى اليوم في متحف برلين و"حجر الرشيد" المصري المكتشف سنة 1799 في دلتا النيل أثناء حملة نابليون بونابرت على مصر والذي نقل إلى المتحف البريطاني وأهميته التاريخية تكمن في أنه الوثيقة الوحيدة في العالم التي تفك شفرات اللغة الهيروغليفية التي تكلمها الفراعنة قبل 5 آلاف سنة.

وأيضًا من الحوادث المثيرة، نجد استيلاء علماء آثار بجامعة هارفارد الأمريكية سنة 1911 على 5 آلاف قطعة أثرية من قرية "ماتشو بيتشو" البيروفية الشهيرة تحت عنوان إعارة وصيانة لمدة سنة واحدة لكنها استقرت نهائيًا وبلا عودة بمتحف نيوهيفن بالولايات المتحدة الأمريكية.    

الخارطة الأثرية التونسية تضم أكثر من 30 ألف معلم وموقع أثري أغلبها في العراء بالمناطق الغربية من البلاد حيث تغيب الحراسة والصيانة مما يجعلها عرضة للنبش والهدم والبيع    

وتونس كبلد متوسطي عبرته أغلب الحضارات الإنسانية تعتبر أرضًا تراثية بامتياز وتعتبر محطة أساسية لنشطاء ومهربي الآثار في العالم سواء كبلد مرور نحو أوروبا أو للاستيلاء على التراث المحلي خاصة إذا علمنا أن الخارطة الأثرية التونسية تضم أكثر من 30 ألف معلم وموقع أثري أغلبها في العراء بالمناطق الغربية من البلاد التونسية حيث تغيب الحراسة والصيانة مما يجعلها عرضة للنبش والهدم والبيع.

والتونسيون لا يزالون يذكرون جيداً حادثة تهريب جزء من الرصيد التراثي للمملكة الحسينية التي سبقت قيام الجمهورية في تونس ومحاولة بيع 114 قطعة من بينها مصحف "المنصف باي" (الملقب بباي الشعب لوقوفه في وجه جور الاستعمار الفرنسي) ونياشين وأغراض أخرى بمزاد علني بباريس سنة 2020 وتحوّل تلك الحادثة إلى قضية رأي عام وطني وتدخل الدبلوماسية التونسية بباريس من أجل استرجاعها وهو ما حصل فعلاً فقد عادت هذه المجموعة النادرة إلى تونس واستقرت نهائياً بقسم محفوظات المعهد الوطني للتراث التابع لوزارة الشؤون الثقافية.

اقرأ/ي أيضًا: فيديو: تراث تونس للبيع في مزاد علني؟!

هذه الحادثة خلّفت نقاشًا ساخنًا في الوسط الثقافي التونسي بخصوص وضعية التراث والآثار التونسية والمؤسسات التي ترعاه وتحميه ووضعية المؤسسات المتحفية وشؤون الأرصدة الوطنية والقوانين التي تقادمت وحال وقت مراجعتها كمجلة التراث.

وضمن هذه السياقات تعرضت تونس منذ انبلاج ثورتها وإلى اليوم إلى عمليات استيلاء وتهريب كبرى لآثارها وتراثها لم تشهدها لعقود خلت ويرجع خبراء المعهد الوطني للتراث ذلك إلى استغلال عصابات البيع والتهريب ضعف الدولة خلال مراحل الانتقال الديمقراطي وغياب القوانين الصارمة.

تم حجز ما يفوق 40 ألف قطعة وعمل فني بين سنتي 2012 و2019 كان جزء كبير منها معدا للتهريب عبر الموانئ والمطارات وتم إحباط  تلك العمليات  

ورغم ذلك تم حجز ما يفوق 40 ألف قطعة وعمل فني بين سنتي 2012 و2019 كان جزء كبير منها معدًا للتهريب عبر الموانئ والمطارات وتم إحباط  تلك العمليات من قبل مختلف المصالح الأمنية والديوانية وتحرير محاضر في الغرض اتصل بها القضاء.

 

فيديو معرض "تراثنا ثروة لا تقدر بثمن" بمدينة الثقافة (رمزي العياري/الترا تونس)

 

هذه الأعمال المسترجعة والمستلمة والتي تم افتكاكها من براثن عصابات التهريب والمودعة بقسم المحفوظات بالمعهد الوطني للتراث انتخب منها 374 قطعة فنية لتشكل معرضًا تراثيًا وفنياً تحت عنوان "تراثنا ثروة لا تقدر بثمن" يقام حاليًا بأحد أجنحة مدينة الثقافة بالعاصمة تونس ويستمر إلى حدود 6 مارس/آذار 2022 وذلك تحت إشراف المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية.

 

فخريات من الأعمال الأثرية المسترجعة والمتوفرة بمعرض "تراثنا ثروة لا تقدر بثمن" بمدينة الثقافة (رمزي العياري/الترا تونس)

 

"الترا تونس" زار المعرض وتنقل بين أقسامه ليقف على هول الكارثة المحدقة بالتراث التونسي إذا لم تتوخ الدولة الحزم في تطبيق القانون على المهربين وناهبي تاريخ البلد. وبسؤالنا الأستاذ ياسر جراد، الخبير بالمعهد الوطني للتراث والمسؤول عن المعرض، أشار أن ملف تهريب التراث هو ملف حارق وشائك ولا بد أن يطرح للحلحلة من أجل حماية الرصيد التراثي التونسي، وأضاف أن الهدف من هذا المعرض هو نشر الوعي بين التونسيين وإبراز المخاطر المحدقة بتراثهم، موضحاً أن آلية نشر الوعي تعتبر من أساسيات الإنقاذ والحماية.

374 قطعة فنية من الآثار المسترجعة تشكل معرضًا تراثيًا وفنياً تحت عنوان "تراثنا ثروة لا تقدر بثمن" يقام حاليًا بأحد أجنحة مدينة الثقافة بالعاصمة تونس ويستمر إلى حدود 6 مارس2022 

القطع الأثرية والفنية المسترجعة من أيادي المهربين والموجودة بهذا المعرض الهام تعود تقريبًا إلى كل الحقب التاريخية المعروفة التي مرت بها تونس، من الفترة اليونانية والفينيقية والقرطاجنية والنوبية والرومانية ومختلف المراحل الإسلامية والعثمانية وحتى من الفترة الحديثة والمعاصرة.

وحسب خبير التراث الأستاذ ياسر جراد، خلال حدث لـ"الترا تونس" فإن فريق العمل الذي أشرف على إعداد المعرض توخى توزيعًا علمياً للأعمال المعروضة وذلك حسب محاور أربعة وهي  "الحياة اليومية، والمعتقدات والأديان، والتحف الفنية والمنحوتات، والعناصر المعمارية الزخرفية. كما تم عرض خريطة توزع الجريمة الأثرية  بالبلاد التونسية وبعض النصوص القانونية الهامة والمتعلقة بالتراث الثقافي والفني والمقولات الشهيرة. 

 

لوحات فنية من الأعمال الأثرية المسترجعة والمتوفرة بمعرض "تراثنا ثروة لا تقدر بثمن" بمدينة الثقافة (رمزي العياري/الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:  الحنايا.. "أهرامات تونس" المُهملة

اللافت للانتباه بهذا المعرض هي القيمة الجمالية والحضارية والرمزية للأعمال المعروضة ومنها نذكر أعمالًا لنحاتين مرموقين من الفترة المعاصرة على غرار تيودور دوريو وألكسندر أولين وإميل لويس بيكولت ورسامين، حيث سجل المعرض حضور لوحة للرسام الإيطالي ميشال كورتجياني ومخطوطات لمصحف مذهب ونسخ قديمة للتوراة وحلي قرطاجنية ورومانية وأواني فخارية من العهد اليوناني القديم وبلوريات فينيقية وشواهد قبور يهودية وإسلامية.

خبير التراث ياسر جراد لـ"الترا تونس": ملف تهريب التراث هو ملف حارق وشائك ولا بد أن يطرح للحلحلة من أجل حماية الرصيد التراثي التونسي

وحسب الأستاذ جراد فإن معرض القطع المستلمة والمسترجعة سيواصل تنقله في قادم الأشهر بعدد من المدن التونسية ضمن خطة واضحة ودقيقة يشرف عليها المعهد الوطني للتراث إيمانًا منه بحق التونسيين في اللقاء بتراثهم والتمتع به ومشاهدته ودراسته.

إن موضوع التراث وتهريبه عبر شبكات محترفة ومسنودة بالمال والدبلوماسية هو من هواجس عدة شعوب شرقًا وغربًا والتي تطالب بقوانين دولية ملزمة تحمي تراثها وتمكنها من استرجاعه وتطالب المنظمة الاممية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) بالتدخل والقيام بأدوار تاريخية تجاه التراث وحذف مصطلح عدم الإلزامية من ديباجة اتفاقية 1970 التي تنص على عدم قانونية استيراد أو تصدير الأعمال الفنية التي يتم الحصول عليها بشكل مشبوه.  

 

            من الأعمال الأثرية المسترجعة والمتوفرة بمعرض "تراثنا ثروة لا تقدر بثمن" بمدينة الثقافة (رمزي العياري/الترا تونس)

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

بعد إغلاقه منذ 25 جويلية.. السياسة تحتجز متحف باردو العريق

مدينة الرّخام الوردي.. كيف خسرت "شمتو" النوميدية مكانتها التاريخية؟

مسجد السيدة.. تحفة أثرية نادرة تكشف حقيقة الوجود الفاطمي في تونس