04-أغسطس-2023
الصادق بن مهني

أعود هنا لمسيرة الرجل من خلال مذكراته "سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا"

 

عند وفاته يوم الجمعة 28 جويلية/يوليو 2023، عرّف الكثيرون الصادق بن مهني بكونه والد الناشطة الحقوقية الراحلة لينا بن مهني. قد يسعد أي أب حين ربط اسمه بأحد أبنائه خاصة لو كانت سمعة الابن مرتبطة بخصال ومحاسن عديدة، لكن الصادق بن مهني وبالنظر لماضيه النضالي كان يستحق تقديمًا آخر. أعود هنا لمسيرة الرجل من خلال مذكراته "سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا" (دار سراس للنشر 2017)، لملامسة والتعريف بمعالم أخرى من حياته دون الإتيان بجميعها، ومع دعوة المهتمين لقراءة سيرته والتمعن فيها. 

أعود هنا لمسيرة الرجل من خلال مذكراته "سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا" (دار سراس للنشر 2017)، للتعريف بمعالم أخرى من حياته دون الإتيان بجميعها، ومع دعوة المهتمين لقراءة سيرته والتمعن فيها

 

 

هو الصادق بن مهني، مناضل يساري عانى التعذيب والاضطهاد زمن بورقيبة، وسُجن لسنوات بين أقبية وزارة الداخلية وسجون أخرى بسبب أفكاره ومواقفه السياسية. من مواليد جزيرة جربة ومتحصل على الأستاذية في العربية، سجين رأي سابق وقد شغل عدة خطط بمؤسسات عمومية وكان ناشطًا في المجتمع المدني التونسي وسبق أن تحصل على جائزة الصادق مازيغ في الترجمة سنة 2017. 

بعيدًا عن العام والمتداول، وفي مذكراته، انطلق الصادق بن مهني بقصة تعذيب غيره لا قصته الشخصية، قصة موجزة لرجل جمعته به الصدفة وتعرض للتعذيب في أحد السجون التونسية في إطار قضية ما. لا يفعل الجميع ذلك في كتاب يُخصص للحديث عن الأنا وتجربة الأنا وذلك يُمكن أن يُقرأ قراءات مختلفة، خيّرتُ أن أرى منها تواضعًا وحسًا مرهفًا بالآخر.

في "سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا"، تقرأ عن ممارسات "البوليس" زمن حكم بورقيبة مع معتقلي الرأي. سمعنا الكثير سابقًا عن هذه الممارسات لكنها حافظت على ذات الانطباع، وجع عميق لا تتوقف عن التساؤل إزاءه هل اندمل الجرح؟ أم أننا نُراكم هذه الجروح؟.. 

في "سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا"، تقرأ عن ممارسات "البوليس" زمن حكم الحبيب بورقيبة مع معتقلي الرأي. سمعنا الكثير عن تلك الفظاعة للأسف في سياقات مختلفة من سجناء سابقين أو عائلاتهم خلال العشرية الماضية لكنها حافظت على ذات الانطباع، وجع عميق لا تتوقف عن التساؤل إزاءه هل اندمل الجرح؟ أم أننا نُراكم هذه الجروح؟.. 

انطلاقًا من لحظة القبض على الصادق بن مهني وهو شاب.. يقول "في الدار نزعوا عنك عنوة ملابسك غير التبان الداخلي وقيّدوا يديك من معصميك وراء ظهرك، وشرعوا يضربونك لا يخفف من ضربهم سوى احتجاج جارتك وأمها هبتا تظهران تقريعك وتوبيخك على ما لحقهما من ضر فيما هما تسردان على مسامعك تفاصيل المداهمة وما علمتاه مما علمته الشرطة..".

ويتابع "حشروك بين عونين يعنفانك من حين إلى آخر ـ بالكرسي الخلفي لسيارة مدنية لا علامة تميزها ـ تسترق النظر إلى الأشجار والبنايات والناس وزرقة السماء وتجهد كي لا تسمع كبيرهم صاحب الشاشية يتوعدك بالويل والثبور ثم يتصنع براءة ورقة وهو يشير عليك أن "تجنب أن يقتلوك أو أن يدقوك دقًا واعترف قبل أن يجبروك على الاعتراف"..

"ويظهر الحكمة والنصيحة مرددًا أمثالًا ستنهال على مسامعك مرارًا وتكرارًا طوال الأيام المقبلة "الطير البرني كي يطيح ما يتخبطش"، و"تبكي أمهاتهم وما تبكيش أمك" وفيما يذهب بصرك بعيدًا لا ينفك سمعك تجرحه البذاءة الممزوجة بالزيف الذي يبتغي إيهامك بأنهم يعلمون كل شيء وبأن رفاقك خانوك وبأنك أفضلهم وأنه يلزمك أن تنقذ جلدك إذ لا فائدة من صمود سينتهي لا محالة بالانكسار..".

الصادق بن مهني متحدثًا عن القوات الأمنية في كتابه: "يظهر الحكمة والنصيحة مرددًا "الطير البرني كي يطيح ما يتخبطش"، و"تبكي أمهاتهم وما تبكيش أمك"..  لا ينفك سمعك تجرحه البذاءة الممزوجة بالزيف الذي يبتغي إيهامك بأنهم يعلمون كل شيء وبأن رفاقك خانوك"

قُدم كتاب الصادق بن مهني بكونه "كتاب في السياسة والاجتماع.. كتاب في الوجود والمؤانسة وفي نحت الذات وانعتاقها"، والكتاب غوص في عالم سجين سياسي سابق، غوص في ذكرياته التي تبدو دقيقة أحيانًا وعامة خالية من أي تفاصيل أحيانًا أخرى، كأنه يتعمد القفز فوقها وتجاوزها لكي لا يؤذي نفسه أو غيره في رحلة التذكر، وقد لمّح لذلك مرارًا في الكتاب.

في تقديم الكتاب ورد التالي "تدور أحداثه حول سجين سياسي أيام قمعه واضطهاده بإمرة نظام قاهر متجبر أراد أن يقصف أحلامه وهي لم تكن بعد قد أينعت.. في الكتاب لحظات شاعرية وأخرى سردية، عواطف وعواصف وذكريات وخواطر شاردة واعترافات تتمازج وتتماسك لصياغة محتوى الكتاب". ويتابع "الكتاب يشهد عن ولادة جيل حينها أراد أن يكون جيل الحريات والمساواة وحقوق الإنسان، بطشت به السلط ورمت به في الزنزانات".  

"سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا" هي رحلة تذكر للمناضل اليساري من منظمة "برسبكتيف"/آفاق، وهي أبرز حركة يسارية ظهرت في ستينيات القرن العشرين في تونس

هي رحلة تذكر للمناضل اليساري من منظمة "برسبكتيف"/آفاق، وهي حركة يسارية تونسية كانت نشطة انطلاقًا من الستينيات. يتعلق الأمر بـ"تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي" في تونس وتعرف أكثر بحركة آفاق، وهي أبرز حركة يسارية ظهرت في ستينيات القرن العشرين في تونس. 

 

كتاب الصادق بن مهني

"سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا" للصادق بن مهني (صورة لنائلة الحامي)

 

تأسست الحركة عام 1963 في باريس وقد ضمت نخبة من المثقفين والطلبة ينتمون لعدد من التيارات الماركسية والقومية. ونشأت في سياق إعلان الحزب الحر الدستوري الجديد كحزب واحد بعد حظر الحزب الشيوعي التونسي وبتبلور التوجه الاشتراكي للاقتصاد بقيادة الوزير أحمد بن صالح. أصدرت الحركة مجلة سياسية نظرية ناطقة باللغة الفرنسية "آفاق تونسية" نشرت فيها عدة دراسات اقتصادية واجتماعية وعارضت من خلالها النظام البورقيبي وتجربة التعاضد كما هاجمت الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية وكانت لها مواقف نقدية منها.

في صيف 1964، قررت الحركة نقل مركز نشاطها إلى تونس وتحولت إلى أنشط حركة معارضة للرئيس بورقيبة. في جوان/يونيو 1967، شاركت في المظاهرات التي شهدتها تونس العاصمة وقبض خلالها على عدد من مناضليها ثم لاحقًا أعتقلت السلطات الأمنية عدة مناضلين في الحركة وأحيلوا على محكمة أمن الدولة المشكلة حديثًا والتي أصدرت بحقهم أحكامًا وصلت إلى 16 عامًا سجنًا وقد أفرج على المعتقلين عام 1970 إثر عفو رئاسي. 

واستمر وجود الحركة إلى 1975 وبينما ابتعد عدد من مناضليها عن النشاط السياسي انخرط البعض الآخر في منظمة العامل التونسي وقد ظل بعضهم معارضًا لاحقًا لسياسات زين العابدين بن علي بينما التحق آخرون بمناصب وزارية في عهده.

الصادق بن مهني في مذكراته: "ينفجر التهليل ويطلقون العنان لفرحهم بالقبض عليك وتسمعهم يحصون المغانم الآتية ويهنؤون بعضهم البعض بنصر مبين وتتهاطل لكمات وصفعات وركلات الترحيب وأنت تُجر جرًا وتُدفع دفعًا إلى "بيت الصابون" قاعة عملياتهم.."

في رحلة التذكر، يقول الصادق بن مهني في كتابه "ثم تقذف قذفًا داخل ذاك المبنى الملاصق للبناية الرمادية عند تقاطع الشارع الكبير وشارع الحسين بوزيان (حيث ستقف وابنتك ذات 14 جانفي/يناير 2011 بين آلاف من بني وطنك تهتفون في تحد لم يتوقعه أحد تنادون بزوال الحيف والضيم والعسف والفساد..) وينفجر التهليل ويطلقون العنان لفرحهم بالقبض عليك وتسمعهم يحصون المغانم الآتية ويهنؤون بعضهم البعض بنصر مبين وتتهاطل لكمات وصفعات وركلات الترحيب وأنت تُجر جرًا وتُدفع دفعًا إلى "بيت الصابون" قاعة عملياتهم.."

ويضيف "ولكنك كنت بعد جاهزًا، قرّ قرارك على خطة المواجهة ولم يعد يشغلك الصمود بل سخرت كل ما فيك كي تمنع عنك لا الاعتراف فحسب بل الكلام مطلقًا بل حتى مجرد الصياح أو البكاء بل النشيج". 

 

 

العودة لتفاصيل مشاهد التعذيب داخل السجون التونسية كانت ركيزة في "سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا"، يقول: "هل صحيح أنك حينها كنت حقًا ذلك الفتى الصغير الضامر يتقاذفونك كالكرة "يصلونك" بنيران سجائرهم، يعرّونك عنوة من كل ثيابك، يسلخون سمعك بأقذع السباب، يجرونك كالجيفة، يهزونك هزًا، يبغون اغتصابك، يضربون كل شبر منك، يستهدفون رأسك، يحقّرونك، يحولونك دجاجة تصلى يسحبك أعظمهم بدنًا ويدفعك واليدان مقيدتان إلى الخلف ليرتطم رأسك بساق سرير حديدي كم تشهيته دون أن يحن طوال تلك الأيام الستة.. ".

الصادق بن مهني متذكرًا مشاهد التعذيب داخل السجون التونسية: "هل صحيح أنك حينها كنت حقًا ذلك الفتى الصغير الضامر يتقاذفونك كالكرة "يصلونك" بنيران سجائرهم، يعرّونك عنوة من كل ثيابك، يسلخون سمعك بأقذع السباب، يجرونك كالجيفة، يهزونك هزًا، يبغون اغتصابك، يحولونك دجاجة تصلى.."

رحلة التعذيب والاضطهاد داخل سجون بورقيبة متعددة التفاصيل وموجعة وفي الكتاب معطيات عدة عنها تستحق الاطلاع. إبان ثورة 14 جانفي/يناير 2011، حرص الصادق بن مهني على متابعة نشاط حقوقي داعماً خاصة تجربة ابنته لينا بن مهني التي أورثها قيم التحرر والنضال. وعُرف كما زوجته بدعمهما اللا محدود لابنتهما التي لم تكن مسيرتها هيّنة بالنظر لعوامل عدة منها الصحية ومنها ذات العلاقة بمواقفها وآرائها والمعارضة التي وجدتها في مناسبات عدة. 

 

 

نقرأ في كتاب "الصادق بن مهني.. سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرًا": "يخبرونك أن زملاءهم يستفعلون اللحظة في أمك وأخواتك، يتصنعون زيفًا من إنسانية، يخبرونك أن أعرافهم لم يتركوا لهم خيارًا سوى أن يجبروك على الكلام فتعطي رفاقك ومخابئ المنظمة أو تقتل عرقًا بعد عرق أو على خازوق وترمى للكلاب، يمنعونك حتى من أن تتكئ إلى زاوية الحائط التي يوقفونك عندها وإن بجبهتك وحدها ومتى خارت قواك فوقعت يسارعون إلى العود بك إلى وقفتك الأولى وقد أثخنوك قذفاً بماء مقرف أم أنهم كانوا إزاء خيالك فيما كنت تحلق فوق رؤوسهم تراهم وتراك ولا تمسسك نارهم ولا يقوى عليك حقدهم، هل تدري وهل لديك الإجابة أم أن كل ما تدريه أنهم انهزموا؟".

الصادق بن مهني عن تجربة التعذيب في السجن:  "يخبرونك أن زملاءهم يستفعلون اللحظة في أمك وأخواتك.. يمنعونك حتى من أن تتكئ إلى زاوية الحائط التي يوقفونك عندها وإن بجبهتك وحدها ومتى خارت قواك فوقعت يسارعون إلى العود بك وقد أثخنوك قذفاً بماء مقرف" 

كنت أتحدث عن الصادق بن مهني والحديث لا يزال طويلًا، الرجل الذي عايش مراحل مختلفة من تاريخ تونس، عايشها نقدًا وتعذيبًا واضطهادًا وهربًا ودعمًا وكتابة ويغادرها بإرث نضالي يستحق اطلاع الشباب التونسي والتمحص فيه.