23-أبريل-2024
الموقع المكتشف جديثا لغرفة جنائزية بونية وسط المدينة ماهر جعيدان

باحث لـ "الترا تونس": اكتشاف موقع أثري يمثّل جزءً من غرفة جنائزية بونية (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

يعود تاريخ تأسيس مدينة قصيبة المديوني على الشريط الساحلي في ولاية المنستير (وسط شرقي)، إلى عهد الموحدين وكانت أحد مراكز حراسة الساحل التونسي من هجومات الغزاة والقراصنة.

قصيبة المديوني مدينة على الشريط الساحلي في ولاية المنستير، يعود تاريخ تأسيسها إلى عهد الموحدين وكانت أحد مراكز حراسة الساحل التونسي من هجومات الغزاة والقراصنة

استيقظت المدينة خلال شهر رمضان 2024 على اكتشاف أثري لغرفة جنائزية بونية، إثر أشغال في الطريق العام تقوم به مصالح وزارة التجهيز والإسكان لحماية المدينة من الأمطار بمد قنوات اسمنتية على عمق أربعة أمتار.

وأثار الاكتشاف العرضي، الرأي العام المحلّي الذي لا يزال ينبش في الذاكرة التاريخية ويبني فرضيات حول ماضي المدينة وأصولها السكانية والحضرية ويغذي الأبحاث العلمية ومخابر الجامعات بما يمكن كشفه من آثار ونقاش وأدوات بشرية وبقايا الرفات.

 الولي سيدي المرّاكشي بقصيبة المديوني والذي يعود تأسيس قصبته إلى سنة 1160 ميلادي (ماهر جعيدان/الترا تونس)
 الولي سيدي المرّاكشي بقصيبة المديوني والذي يعود تأسيس قصبته إلى سنة 1160 ميلادي (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

كان اكتشاف الغرفة الجنائزية وسط المدينة محلّ تساؤل رئيسي محوره هل أن هذه الغرفة تعود إلى الحقبة البونية وبالتالي نؤسس لتاريخ بشري يعود بنا إلى القرن الخامس والرابع قبل الميلاد بعد أن كان يعتقد أن الاجتماع البشري في الجهة يعود إلى عهد إسلامي غير بعيد؟

باحث لـ "الترا تونس": الموقع الأثري يمثّل جزءً من غرفة جنائزية بونية دون محتويات، استعملت في القرون الماضية مطمورًا لخزن القمح والشعير

كان هذا الاكتشاف سببًا في تعطّل الأشغال بالموقع وتم إشعار المعهد الوطني للآثار لكي يقوم بالمعاينة والتدقيق، وانقسم الرأي العام بين من يسعى إلى الحفاظ على هذا الموقع وتغيير مسار الأشغال العامة، وبين من يعتبر أن هذا الاكتشاف قد يزودنا بنتائج تاريخية محدودة ثم يقع ردمه وإتمام أعمال البنية التحتيّة.

حلّت بالمكان لجنة متكوّنة من خبراء من المعهد الوطني للآثار الراجع بالنظر إلى وزارة الثقافة وقامت بعملية المعاينة وكان لنا اتصال في "الترا تونس" مع منجي خضر الباحث المشرف على عملية المعاينة ورفع التقرير العلمي الذي كشف لنا أن "هذا الموقع الذي تم إماطة التراب عنه جراء الأشغال المحدثة إنما هي غرفة جنائزية بونية دون محتويات، بل هي جزء من الغرفة بفعل تهدّم جزء منها وقد استعملت في القرون الماضية مطمورًا لخزن القمح والشعير".

باحث لـ "الترا تونس": الموقع يعتبر امتدادًا لمنطقة لبتوس مينور المجاورة، إذ نرى غرفًا جنائزية مماثلة في الطريق الرئيسية بين قصيبة المديوني ولمطة، منحوتة في الصخور وظاهرة للعيان

وأضاف منجي خضر أن "المعهد الوطني للتراث قد اقترح أن يشار على الموقع بأنه مقبرة بونية عن طريق لائحة تثبت بالمكان ولكن يمكن ردمه لأنه يشكل خطرًا إذا تم الإبقاء عليه مكشوفًا، بفعل تآكل السقف وإمكانية تسرب المياه خاصّةً وأنه يتواجد ضمن منطقة حيوية تجارية وقبالة مدرسة وعلى مشارف الطريق العام وسط البلدة، كما أن هذه الغرفة الجنائزية ليست الوحيدة بل هي إحدى مئات النماذج بالجهة، واتخاذ قرار الردم كان بالاتفاق بين كافة الأطراف الممثلة للسلطة المحلية والجهوية".

وأضاف الباحث منجي خضر أن "هذا الموقع يعتبر امتدادًا لمنطقة لبتوس مينور المجاورة، ونرى غرفًا جنائزية مماثلة في الطريق الرئيسية بين قصيبة المديوني ولمطة، منحوتة في الصخور وظاهرة للعيان بفعل أنها محفورة في التلال وتم الكشف عنها لما استعملت كمقاطع رملية".

كما ذكر لنا الباحث منجي خضر أن " موقع لمطة الأثري يمتد على مساحة 120 هكتار، ويصل إلى حدود مينة بوحجر وصيادة وقصيبة المديوني، ويعتبر هنشير المثقال أحد أهم المقابر البونية المصنفة في الجهة إلى جانب المقابر البونية في البقالطة ومناطق أخرى في الساحل التونسي ولايزال أغلبها مُقفلاً وغير مكشوف للعموم".

جامعي وناشط في المجتمع المدني لـ "الترا تونس": اكتشاف غرفة جنائزية بونية وسط مدينة قصيبة المديوني لحظة هامة في تاريخ المدينة ودليل على تواجد بشري فيها يعود إلى القرن الخامس والرابع قبل الميلاد

ولمزيد التحرّي في تاريخ مدينة قصيبة المديوني وربط حاضرها بماضيها اتصلنا بالجامعي والناشط في المجتمع المدني رياض عبد العاطي أصيل قصيبة المديوني الذي اعتبر أن اكتشاف "غرفة جنائزية بونية وسط مدينة قصيبة المديوني لحظة هامة في تاريخ المدينة ودليل على تواجد بشري فيها يعود إلى القرن الخامس والرابع قبل الميلاد".

قصيبة المديوني ماهر جعيدان
موقع أثري جديد تواجد ضمن منطقة حيوية وعلى مشارف الطريق العام وسط مدينة قصيبة المديوني (ماهر جعيدان/الترا تونس)

وأشار رياض عبد العاطي في تصريح لـ "الترا تونس"، أن اكتشاف المقابر البونية في محيط المدينة يعود إلى سنة 1892 بين لمطة والقصيبة، باعتبار أن جل المناطق المجاورة هي امتداد للبتوس مينور، وتمت تلك الاكتشافات عن طريق جنود فرنسيين وقد تم نقل محتويات المقابر البونية آنذاك إلى متحف سوسة وقد أتت الحرب العالمية الثانية على تلك الآثار بفعل إغارة الطيران الحربي على المنشآت".

وحول المكتشف الأخير، أكد رياض عبد العاطي أن "التقرير النهائي للمعهد الوطني للتراث أثبت أن الغرفة الجنائزية تعود فعلاً إلى العهد البوني".

جامعي وناشط في المجتمع المدني لـ "الترا تونس": قصيبة المديوني تحتوي العديد من المغارات أو ما يطلق عليه "الغيران" في المنازل بالحومة الشرقية والرحبة وربّما هي مجمع لمقابر قديمة 

وكشف رياض عبد العاطي إلى أن "قصيبة المديوني تحتوي العديد من المغارات أو ما يطلق عليه "الغيران" في المنازل بالحومة الشرقية والرحبة، وربّما هي مجمع لمقابر قديمة وقع السطو على أثاثها قديمًا".

واستند الباحث رياض عبد العاطي إلى دراسة الأستاذة في علوم الآثار آمنة غيث حميصة التي اعتبرت أن "حوانيت الساحل (المغارات) حول حضميتوم hadrumutum (سوسة)، وروسبينا (المنستير)، وليبتوس مينور(لمطة) وسيدي فاضلين، تشكل كيانًا ثقافيًا ويرجع ذلك أساسًا إلى الهندسة المعمارية للمجمعات الجنائزية.

ويخلص الباحث عبد العاطي إلى أن "كل الحوانيت القرطاجيّة والرومانيّة كانت تُحفر في التلال الصخريّة بمحاذاة المدن القرطاجيّة والرومانيّة، وتلّة سيدي المديوني القريبة من لبتيس مينور تكاد تكون الموقع المناسب لهذه الفرضية، ولا تزال هذه المغارات تحتوي على تجاويف صغيرة، لا تسمح بدخول شخص بالغ متوسط ​​الحجم في وضع الوقوف ولكن ربما أنشئت لاستقبال الميّت في وضع جنيني أو ممدود، وهي الممارسة الأكثر شيوعًا بين السكان الأصليين القرطاجيين.

جامعي وناشط في المجتمع المدني لـ "الترا تونس": كل الحوانيت القرطاجيّة والرومانيّة كانت تُحفر في التلال الصخريّة بمحاذاة المدن القرطاجيّة والرومانيّة

كما يشير عبد العاطي إلى أن "كثرة المغارات بالمدينة، تؤكد أن هذه التلة كانت عرضةً لعدة عمليات قرصنة ونهب، خاصةً من ناحية البحر، وما يؤكد هذا الكلام، هو النمط العمراني للقصيبة، إذ أن شوارعها الرئيسية، سواء الرحبة الأولى والثانية أو الحومة الشرقية أو الغربية كلها غير متجهة ناحية البحر، وفي شكل خطوط متوازية من الجنوب إلى الشمال، وهي طريقة لإخفاء الإضاءة لمداخل وواجهة المنازل عن جهة البحر، وكذلك ضيق الأنهج والشوارع كانت طريقة لصدّ الجيوش والعصابات في ذلك الوقت".

وبالاعتماد على وثيقة للرحالة الفرنسي بايسونال الذي مر تحديدًا بمدينة قصيبة المديوني يوم 28 جويلية/ يوليو 1724 فإن البلدة كانت جلها بالتل الجبلي ولم تكن متصلة بالبحر، كل ما هناك أودية مهجورة يكثر فيها النبات البري ولا يتجرّأ أحد على النزول لهذه المناطق ليلاً.

قصيبة المديوني هي امتداد لحضارة متجذّرة ومن أهم أسباب نشأتها هي الغارات المتعددة للنورمان على سواحل إفريقية بسبب التنافس على النفوذ البحري وبسبب كثرة القرصنة على السفن التجارية

وتعد قصيبة المديوني امتدادًا لحضارة متجذّرة ومن أهم أسباب نشأتها هي الغارات المتعدّدة للنورمان على سواحل إفريقية بسبب التنافس على النفوذ البحري وبسبب كثرة القرصنة على السفن التجارية، وهي ظاهرة ابتدأت منذ وصول السفن العثمانية تحت إمرة قراصنة المماليك الأتراك ووصلت إلى أوجها في حدود القرن السادس عشر زمن القراصنة بربروس وعرّوج وقد انتشرت هذه الظاهرة على سواحل إفريقية.

موقع قصيبة المديوني ماهر جعيدان
موقع مدينة قصيبة المديوني على الشريط الساحلي في ولاية المنستير (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

بناءً على المعطيات المذكورة آنفًا، يشير رياض عبد العاطي إلى الدور العسكري والاستشعاري لمنارات الساحل وإلى "الولي سيدي المرّاكشي بقصيبة المديوني والذي يعود تأسيس قصبته إلى سنة 1160 ميلادي أو بعدها بقليل وكانت مهمّته الكشف عن وجود محتمل لسفن النورمان في حوض المنستير والمهديّة. وسيدي المرّاكشي كان تواصله مع منارة في الجزء الشرقي لمدينة جمّال بعيدة نسبيًّا عن مركز القيادة الموحّديّة بجمّال".

وتمثّل قصيبة المديوني واحدةً من المدن الساحلية التي لم تبح بكل أسرارها التاريخية، بل هي المدينة التي ارتمت على أطراف التلة وشارفت البحر فكانت العين الحارسة للجهة كلها، وهي منارة ساحل المنستير والمهدية وحارسة الموحّدين وموطن الأولياء الصالحين.