13-مارس-2019

أيقونة الحركة النقابية التي قادت معركة الاستقلالية عن السلطة

 

الترا تونس - فريق التحرير

 

يحيي التونسيون، وبالخصوص النقابيون، في تاريخ 14 مارس/آذار من كل عام ذكرى وفاة الزعيم الوطني والنقابي الحبيب عاشور الذي وافاه الأجل في مثل ذلك التاريخ عام 1999. ويُعد عاشور من أبرز وجوه الحركة النقابية منذ تأسيسها وأيقونتها مع زعيمها المؤسس فرحات حشاد.

وقد تولى عاشور الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل في ثلاث مناسبات مختلفة خلال ثلاثة عقود من 1963 إلى 1965، ثم من 1970 إلى 1978 وأخيرًا من 1984 إلى 1989 ليكون أكثر الأمناء العامين قيادة للاتحاد منذ تأسيسه. كما كان نائبًا في البرلمان في عديد الدورات عن الحزب الدستوري الحر قبل الانسلاخ عنه عام 1978، عدا عن توليه منصب نائب رئيس الجامعة العالمية للنقابات الحرة.

قاد الحبيب عاشور الاتحاد العام التونسي للشغل في ثلاث مناسبات مختلفة وهو يُعرف برؤية تقوم على أولوية الاجتماعي على السياسي وبفرضه معركة استقلالية المنظمة الشغيلة عن السلطة

وعُرف عاشور بتبنيه لرؤية نقابية تعطي الأولوية للاجتماعي المهني على حساب السياسي، وهي رؤية متخفّفة من المحدد الأديولوجي والسياسي في تحديد خيارات الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو الذي قاد من أجل ذلك معركة استقلالية المنظمة الشغيلة على الحزب الحاكم ما كلفه الاعتقال والسجون في أكثر من مناسبة. وبات يُعرف عمومًا هذا الخط داخل المنظمة الشغيلة باسم "الخط العاشوري" نسبة إليه. 

اقرأ/ي أيضًا: فرحات حشاد.. زعيم وطني أحب الشعب وناضل من أجل تحريره

تعرف على مسيرة الزعيم الوطني والنقابي "أسد البطحاء" الحبيب عاشور:

النضال الوطني والنقابي

وُلد الحبيب عاشور بتاريخ 25 فيفري/شباط 1913 بقرية العباسية في جزيرة قرقنة التي أنجبت بعد سنة أيضًا الزعيم فرحات حشاد. تحصل على الشهادة الابتدائية عام 1928 ثم استكمل مشواره الدراسي في اختصاص الكهرباء في المعهد الفني.

انضم عام 1935 للحزب الحر الدستوري الجديد بعد عام من مؤتمر قصر هلال، كما انضم نقابيًا للكونفيدرالية العامة للشغل ولكنه انسلخ منها مع رفيه دربه فرحات حشاد بعد أن وجدا أنفسهما وسط الصراع والتجاذبات بين الشيوعيين من جهة والاشتراكيين من جهة أخرى وذلك بما لا يتفق مع مصالح التونسيين.

ساهم الحبيب عاشور في تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل مع رفيق دربه فرحاد حشاد عام 1946 

انسلخ الرفيقان من الكونفيدرالية ليؤسسا عام 1944 اتحاد النقابات المستقلة بالجنوب عام 1944، ثم كان تأسيس صرح الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي/كانون الثاني 1946 وتولى خطة كاتب عام الاتحاد الجهوي بصفاقس.

خاض الحبيب عاشور خلال هذه الفترة نضالات ضد المحتل الفرنسي إذ آوى في منزله الحبيب بورقيبة في مارس/آذار 1945 قبل تهريبه إلى ليبيا ومنها إلى المشرق العربي. نقابيًا، ساهم في إضراب 23 جانفي/1946 بعد استبعاد السلطة الفرنسية الاتحاد من لجان العمال، وثم الإضراب العام 4 أوت/أغسطس 1947 للمطالبة بالزيادة بالأجور، ليشهد يوم 5 أوت/أغسطس 1947 مصادمات عنيفة بين المحتل الفرنسي والعمال المضربين ما أدى لاستشهاد 29 تونسيًا وتسجيل ما لا يقل عن 150 جريحًا من بينهم كاتب عام الاتحاد الحبيب عاشور. وقد اٌلقي القبض عليه وجند الحزب الدستوري ثلاثة محامين للدفاع عنهم هم صالح بن يوسف والهادي نويرة ومحمد مقني، لكن صدر حكم ضده لمدة 5 سنوات سجنًا و10 سنوات إبعادًا قبل إلغاءه لاحقًا.

الحبيب عاشور بعد القبض عليه إثر أحداث 5 أوت 1947

ألقت قوات الاحتلال القبض على الحبيب عاشور مجددًا بتاريخ 19 جوان/يوليو 1947 بتهمة حمل السلاح والإعداد لثورة ليُنفى بجهة زغوان مع وضعه تحت الإقامة الإدارية. عاد في أواخر عام 1954 إلى صفاقس ليتولى من جديد الكتابة العامة للاتحاد الجهوي للشغل، وكان قد اغتيل رفيق دربه فرحات حشاد في ديسمبر/كانون الأول 1952 وقبله القيادي في الحزب الدستوري الحر الهادي شاكر في سبتمبر/أيلول 1953.

عودة عاشور للاتحاد الجهوي بصفاقس تزامنت مع تصاعد الخلاف وثم الصراع بين رئيس الديوان السياسي للحزب الدستوري الحر الحبيب بورقيبة والأمين العام صالح بن يوسف على خلفية الموقف من اتفاقيات الاستقلال الداخلي.

عاشور متحالفًا مع بورقيبة.. تحالف الحبيبين قبل الصدام

كان الحبيب عاشور داعمًا وحليفًا للحبيب بورقيبة داخل الحزب الدستوري الحر خاصة منذ مؤتمر صفاقس 55، وتواصل التحالف بين الرجلين بعد الاستقلال لفترة طويلة امتدت إلى غاية أواسط السبعينيات قبل تصدّعه.

ساهم عاشور، في البداية وبصفة نشطة، في تعزيز كفة الحبيب بورقيبة على حساب صالح بن يوسف تحديدًا عبر مؤتمر الحزب الحر الدستوري في صفاقس في نوفمبر/تشرين الثاني 1955 الذي قامت عناصر الاتحاد العام التونسي بالشغل بحمايته. وقد تحالف إثره اتحاد الشغل الذي كان يتولى أمانته العامة أحمد بن صالح مع الحزب الدستوري في إطار الجبهة القومية في انتخابات المجلس القومي التأسيسي عام 1956.

لافتة للاتحاد العام التونسي للشغل دعمًا للحبيب بورقيبة بمناسبة عودته من المنفى يوم 1 جوان/يونيو 1955 (Getty)

اقرأ/ي أيضًا: الجرائم الفرنسية ضدّ التونسيين والثأر غير المنسي

لكن أبرز عاشور لاحقًا تحفظه على توجهات بن صالح الذي كان يخطط لتكوين حزب عمالي، وقد انعقد المؤتمر السادس للمنظمة الشغيلة في سبتمبر/أيلول 1956 ودعم الشق البورقيبي الحبيب عاشور الذي كان عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الدستوري غير أن عاشور مُني بهزيمة قاسية. إذ حصل أحمد بن صالح على 1278 صوتًا مقابل 537 صوتًا فقط للحبيب عاشور الذي رفض هذه النتائج وانسلخ من الاتحاد ليؤسس منظمة نقابية جديدة تحمل اسم "الاتحاد التونسي للشغل" الذي قال إنها تهدف للعودة إلى مبادئ حشاد، وذلك بدعم من بورقيبة.

دعم الحبيب عاشور شق بورقيبة في مواجهة شق بن يوسف خلال الصراع الداخلي في الحزب الدستوري الحر قبيل الاستقلال

اُبعد أحمد بن صالح، في الأثناء، ليعوضه أحمد التليلي على رأس الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل، ثم انعقد لاحقًا مؤتمر توحيدي بين الاتحاد والمنظمة التي أنشأها عاشور في سبتمبر/أيلول 1957. عاد، إذن، الحبيب عاشور للمنظمة التي أسسها مع حشاد في خطة أمين عام مساعد قبل أن يصعد للأمانة العامة لأول مرة في مارس/آذار 1963 بدل أحمد التليلي وذلك إلى حدود 1965. وقد طُرد سنتها أيضًا من الديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري على خلفية قضية "البابور" بعد احتراق الباخرة التابعة لشركة إحياء جزر قرقنة التي كان عاشور يتولى خطة الرئيس المدير العام لها، ليودع السجن في جويلية/يوليو 1965 ولم يطلق سراحه إلا عام 1967. وهي قضية يؤكد نقابيون ومؤرخون أنها مفتعلة على خلفية رفض عاشور لمخرجات مؤتمر الحزب عام 1964 التي قضت بتبني النهج الاشتراكي ووضع اليد على المنظمات الوطنية.

صورة تجمع الحبيب عاشور مع أحمد التليلي (جريدة الشعب)

لكن لم ينفض التحالف بين عاشور وبورقيبة، إذ عاد الزعيم النقابي لقيادة المنظمة الشغيلة بعد مؤتمر خارق للعادة في ماي/آيار 1970 متحالفًا مع الحزب الاشتراكي الدستوري ومستعيدًا عضويته في اللجنة المركزية للحزب، ورفض عديد الإضرابات العمالية بداية السبعينيات، كما هاجم الطلبة اليساريين في اجتماع للحزب على خلفية أحداث فيفري/شباط 1972 قائلًا: "إننا نقول للرّئيس بورقيبة وللشّعب التّونسي من جديد بأن البلدان الشّيوعية لها حرس أحمر سُمّي في الصّين الحرس الأحمر الماوي وفي روسيا الحرس الأحمر الّلينيني ونحن في تونس الحرس الرسمي لبورقيبة وللنّظام التّونسي ونقول لك إن العمّال اليوم معك أكثر من أيّ وقت مضى، بل واُختير عاشور من أعضاء اللجنة العليا للحزب التي كلّفت بتنقيح الدستور والاعداد للمؤتمر القادم للحزب.

اقرأ/ي أيضًا: بين 1952 و1956: 10 تواريخ فارقة في مسيرة استقلال تونس

الصدام مع السلطة من أجل فرض الاستقلالية

بدأ مسلسل الصدام والمواجهة لينهي تحالف الحبيبين، الحبيب عاشور والحبيب بورقيبة، في النصف الثاني من السبعينيات بعد إبداء اتحاد الشغل رفضه للسياسات اللاقتصادية للوزير الأول الهادي نويرة بعد فترة تعاون أشبه بالتحالف كانت مع نويرة نفسه بداية السبعينيات. تُرجم التصدع عبر تصاعد وتيرة الإضرابات في أواسط السبعينيات ومن ذلك تسجيل 372 إضرابًا عام 1976، بل بلغت ساعات العمل الضائعة أكثر من 1.2 مليون ساعة عمل عام 1977.

تحوّل التحالف بين الحبيب عاشور والحبيب بورقيبة إلى صدام بلغ أوجه في أحداث الخميس الأسود عام 1978

أدى الاحتقان والتراشق بالتهم بين الحكومة واتحاد الشغل لاستقالة الحبيب عاشور من الحزب بداية جانفي/كانون الثاني 1978معتبرًا أن وجوده في الحزب والاتحاد كان متناقضًا مع مسؤولياته النقابية، وهو ما جعله عرض لحملة من صحافة الحزب الحاكم معتبرة أسباب استقالته واهية وتحمل نزعة دخيلة وهدامة.

شهد ذلك الشهر المشؤوم أحداثًا دامية ظلت ورقة سوداء في تاريخ تونس المعاصر. إذ اعتمدت السلطة في صدامها مع النقابيين على مليشيات تابعة للحزب الحاكم، وقد بلغت هذه الصدامات أوجّها يوم 20 كانون الثاني/يناير 1978 في ذكرى تأسيس المنظمة الشغيلة التي ردت بإعلان الإضراب العام يوم الخميس 26 من نفس الشهر.

رفض الاتحاد العام التونسي للشغل السياسات الاقتصادية للوزير الأول الهادي نويرة في النصف الثاني من السبعينيات

واجهت السلطة بالقمع والاعتقال المحتجين يوم الإضراب وحصلت صدامات عنيفة ما أدى لإعلان حالة الطوارئ ونزول الجيش للشارع لأول مرة منذ الاستقلال. وقد خلف "الخميس الأسود" مئات القتلى والجرحى وامتلأت السجون بآلاف من العمال والنقابيين والطلبة وغيرهم. تحدثت الحكومة لاحقًا عن 52 قتيلًا و325 جريحًا، فيما تحدّث المعارض أحمد المستيري عن 140 قتيلًا وتتحدث تقارير مستقلة عن 300 قتيل، ولا يزال التضارب حول العدد النهائي لضحايا ذلك اليوم الأسود.

دفعت السلطة لانعقاد مؤتمر استثنائي لاتحاد الشغل في فيفري/شباط 1978 داعمة النقابيين الداعمين للتحالف بين الاتحاد والحزب الحاكم، ليقع إسقاط الحبيب عاشور من الأمانة العامة، وكان قد اعتقل وحوكم الحبيب عاشور بالسجن لمدة 10 سنوات مع الأشغال الشاقة، قبل أن يقع إطلاق سراحه بعد عام واحد.

قاد الحبيب عاشور معركة استقلال المنظمة الشغيلة عن الحزب الحاكم وبلغ الصدام أشده مع أحداث الخميس الأسود في جانفي 1978

ثم لم يعد الزعيم النقابي الحبيب عاشور إلى المنظمة الشغيلة إلاّ في أواخر سنة 1981 في خطة رئيس التي لم يسبق أن تولاها إلا الشيخ محمد الفاضل بن عاشور فجر تأسيس الاتحاد قبل إلغائها لاحقًا. وقد جاءت هذه العودة المتجددة في فترة تصاعد الصراع داخل السلطة لخلافة بورقيبة وبعد تشكيل حكومة محمد مزالي، ليواكب وقتها أحداث الخبزعام 1984، وقد عاد في نفس العام لتولي خطة الأمين العام.

ولكن ما لبث أن زُجّ به مجددًا في سجن الناظور سيء السمعة بداية عام 1986 في قضية "كوسوب" المفتعلة وهو بعمر 73 سنة في حالة صحية متدهورة وذلك بأمر شخصي من الحبيب بورقيبة بعد بزوغ نجم عاشور والحديث في الكواليس عن سعيه لخلافته. وروى الوزير الأول محمد المزالي في مذكراته أن عاشور وجه من سجنه رسالة إلى بورقيبة شرح فيها وضعيته الصحية الصعبة غير أن رئيس الجمهورية مزقها ورماها في سلة المهملات، وقد نُقل عاشور إلى المستشفى العسكري بسبب تعكر صحته داخل السجن قبل الاضطرار لإطلاق سراحه مع وضعه رهن الإقامة الجبرية التي رُفعت عنه بعد انقلاب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي

غادر ابن قرقنة تباعًا الاتحاد الذي أسسه في ظل تحالف الرئيس الجديد مع قيادات نقابية أدارت ظهرت لزعيمها بعد انقلاب 1987، ليعتزل "أسد البطحاء" العمل النقابي، ويتوارى عن الانظار ويؤلف عام 1989 مذكراته بعنوان "حياتي السياسيّة والنقابيّة 1944-1988.. حماس وخيبات".

مذكرات الحبيب عاشور "حياتي السياسيّة والنقابيّة 1944-1988.. حماس وخيبات"

 

اقرأ/ي أيضًا:

اتحاد الشغل في تونس.. خلفيات النفوذ ورهان البقاء "فوق الجميع"

انتفاضة الخبز.. هل حرّكها صراع سياسي داخل أجنحة السلطة؟!