مقال رأي
كان من المنتظر أن تؤدي المقررة الأممية المعنية باستقلال القضاء والمحاماة زيارة إلى تونس لمدة 10 أيام بين 16 و26 ماي/أيار 2023 ستُختتم بندوة صحفية حول النتائج الأولية لهذه الزيارة ولاحقًا بتقرير رسمي سيُعرض على لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بيد أن الدولة التونسية طلبت تأجيل الزيارة في سابقة منذ الثورة.
تعلم السلطات في تونس اليوم أن نتيجة زيارة المقرّرة الأممية المعنية باستقلال القضاء والمحاماة لن تكون إلا سلبية، في ظل الاستهداف الممنهج للسلطة التنفيذية للقضاء وإضعافه وحجب ضمانات استقلاليته
تعلم السلطات في تونس اليوم أن نتيجة زيارة المقرّرة لن تكون إلا سلبية، في ظل الاستهداف الممنهج للسلطة التنفيذية للقضاء وإضعافه وحجب ضمانات استقلاليته، دونًا عن التهديدات التي بات يواجهها القضاة في المحاكمات السياسية التي تستهدف عشرات السياسيين والحقوقيين والصحفيين حتى الآن، والوضع ذاته للمحامين الذين تعددت القضايا ضدهم بسبب ممارستهم لأعمالهم ودفاعهم في القضايا السياسية.
وتأجيل زيارة المقررين الأمميين هو أسلوب معلوم دائمًا ما تعتمده البلدان التي تسعى للتفصي من التزاماتها الدولية. فهذه البلدان، من جهة لا تستطيع رفض زيارة المقرّرين مطلقًا التزامًا بميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية المعنية، ومن جهة أخرى ترفض استقبالهم بسبب السمعة السيئة لهذه البلدان في مجالات حقوق الإنسان والحريات.
تأجيل زيارة المقررين الأمميين هو أسلوب معلوم دائمًا ما تعتمده البلدان التي تسعى للتفصي من التزاماتها الدولية
"تونس الجديدة" للأسف عادت مجددًا لصفّ هذه البلدان، كما كانت قبل الثورة، بما يؤشر على حالة ارتباك وتخبّط في ظل انهيار الوضع الحقوقي في تونس اليوم. في المقابل، سبق وإن زار المقرر الأممي لاستقلال القضاء والمحاماة تونس بعد الثورة عام 2014، والتقى وقتها مختلف مكونات المجتمع المدني والحقوقي وممثلي السلطات، وانتهى لتقرير تضمّن تقديرًا لوضع القضاء والمحاماة ملحقًا بجملة من التوصيات.
المقررة الأممية في زيارتها المؤجلة، والملغاة واقعًا، كان المنتظر أن تعاين عن قرب ضرب مقوّمات الاستقلالية الهيكلية والوظيفية للقضاء، وغياب ضمانات المحاكمة العادلة، والتحديات التي بات يواجهها القضاة أمام سلطة سياسية منحت لنفسها سلطة إعفائهم دون تمكينهم من حق الدفاع بل بفرض الإعفاء حتى وإن استصدروا أحكامًا قضائية لصالحهم، والتحديات التي يواجهها المحامون الذين بات يتم تتبعهم جزائيًا من أجل ممارستهم لأعمالهم.
كان من المبرمج أن تلتقي المقررة الأممية بمكونات المجتمع الحقوقي والقضائي في تونس على غرار جمعية القضاة التونسيين الذي يواجه رئيسها تتبعًا تأديبيًا في وزارة العدل على خلفية نشاط نقابي، إضافة للجمعيات الحقوقية ولجان الدفاع في المحاكمات السياسية الجارية.
المقررة الأممية في زيارتها المؤجلة، والملغاة واقعًا، كان المنتظر أن تعاين عن قرب ضرب مقوّمات الاستقلالية الهيكلية والوظيفية للقضاء، وغياب ضمانات المحاكمة العادلة في تونس
عن قُرب ومباشرة، ستطلّع المقررة عن حجم الفظاعات والانتهاكات التي تمارسها سلطة تعتبر القضاء "وظيفة"، حلّت المجلس الأعلى للقضاء وعوّضته بمجلس معيّن من رئيس الدولة، وأعفت عشرات القضاة ممن انحازوا لاستقلال القضاء ورفضوا تعليمات السلطة وطلبات الأجهزة الأمنية، وأثارت عشرات الدعاوى بتهم ملفقة ضد القضاة والمحامين بغاية التنكيل بهم.
يأتي تأجيل الزيارة الأممية في سياق شامل هو خيار واضح ومنهجي للرئيس قيس سعيّد بضرب الحريات وتحديدًا حريات الرأي والتعبير والاجتماع والإعلام وتقييد ممارستها بعنوان محاسبة وهمية أو عدالة عرجاء تأسيسًا لنظام سلطوي عكسه دستور كتبه الرئيس بنفسه لنفسه أسس لنظام رئاسوي يمركزة السلطات بيد رئيس الدولة، وصولًا لإصدار مراسيم جائرة من بينها المرسوم 54 الذي يستهدف بشكل مباشر حرية الرأي والتعبير.
يأتي تأجيل الزيارة الأممية في سياق شامل هو خيار واضح ومنهجي للرئيس سعيّد بضرب الحريات وتحديدًا حريات الرأي والتعبير والاجتماع والإعلام وتقييد ممارستها بعنوان محاسبة وهمية أو عدالة عرجاء تأسيسًا لنظام سلطوي
تونس التي كانت نموذجًا للانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية، تحوّلت، منذ انقلاب 25 جويلية 2021، إلى بلد غير ديمقراطي: استحواذ الرئيس على السلطات الثلاث، وانتخابات بقانون يصدره الرئيس بهيئة يعيّنها الرئيس مع مقاطعة المعارضة، وضرب للحريات مع محاكمات سياسية تزّج بالمعارضين في السجن.
باتت سمعة الدولة التونسية في مجال حقوق الإنسان سيئة بنظر العالم في ظل التدهور المتسارع في المعايير الحقوقية، من ذلك تراجع تونس بعشر مراتب في "مؤشر الديمقراطية" لسنة 2023، الذي تصدره "الإيكونوميست" سنويًا، والتراجع الحاد في مؤشر حرية الصحافة من المركز 94 عام 2022 إلى المركز 121 عام 2021 أي تسجيل نكوص بـ27 مركز ًا في عام واحد، دونًاا عن عديد المؤشرات الأخرى.
كما عادت تونس لزمن ما قبل الثورة بتصدّرها نشرات وبيانات المنظمات الحقوقية الدولية على غرار منظمة "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش"، وذلك دون الحديث عن عودة ملاحظة الوضع الحقوقي في البيانات الرسمية لوزارات خارجية عديد الدول الغربية.
تحوّلت تونس بعد 25 جويلية 2021، إلى بلد غير ديمقراطي: استحواذ الرئيس على السلطات الثلاث، وانتخابات بقانون يصدره الرئيس بهيئة يعيّنها الرئيس مع مقاطعة المعارضة، وضرب للحريات مع محاكمات سياسية تزّج بالمعارضين في السجن
ولا يُنسى الخطاب العنصري الذي تورّط فيه الخطاب الرئاسي ضد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء ما سبب أزمة دبلوماسية مع الاتحاد الإفريقي وأثار موجة سخط سعت السلطات لاحقًا لتدارك ارتداداتها الخطيرة.
ولكن في خضم هذا التدهور، يعتبر رئيس الدولة أن "من يشكّك في الحريات إما عميل أو مصاب بغيبوبة فكرية"، وهو ما يعكس حالة إنكار كلّي لانهيار الوضع الحقوقي في تونس. وعليه معلوم بذلك من يعيش حالة غيبوبة أمام العالم الذي بات، في ظل انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ينظر إلى تونس بعين يأباها أي تونسي وطني وديمقراطي.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"