22-مايو-2023
جمعية القضاة التونسين عزل القضاة تونس

المؤشرات الحالية تبيّن أن هذه السلطة ماضية في مزيد ضرب استقلال القضاء واستهداف الحريات العامة (الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

هل يفتقد القضاء التونسي لمقوّمات استقلاليته؟ الإجابة محسومة بالإيجاب، كما تؤكده المكونات المحليّة المنخرطة في الشأن القضائي العام كجمعية القضاة التونسيين، وأيضًا المنظمات الدولية في مقدمتها الاتحاد الدولي للقضاة. طبق المعايير الدولية للاستقلالية الوظيفية والهيكلية، يشهد القضاء التونسي محنة منذ 25 جويلية/يوليو 2021 تعكسها ثلاث محطات رئيسية: حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وإعفاء 57 قاضيًا بأمر رئاسي وحجب ضمانات استقلالية القضاء في دستور 2022. وعملت السلطة السياسية، في الأثناء، على توظيف القضاء في محاكمات سياسية استهدفت سياسيين معارضين وصحفيين ومحامين وقضاة ومدوّنين.

يشهد القضاء التونسي محنة منذ 25 جويلية وقد عملت السلطة السياسية على توظيف القضاء في محاكمات سياسية استهدفت سياسيين معارضين وصحفيين ومحامين وقضاة ومدوّنين

الندوة الدولية حول الدفاع عن استقلالية القضاء التي نظمتها جمعيات ومنظمات محلية ودولية في مقدّمتها جمعية القضاة، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، واللجنة الدولية للحقوقيين، ومنظمة "محامون بلا حدود"، التي انتظمت بتاريخ 20 ماي/أيار 2023، تعدّ محطة رئيسية ليس فقط في تشخيص الوضع المتردي للقضاء التونسي سواء عبر مداخلات أكاديمية أو شهادات، ولكن أيضًا في تبيان انخراط المجتمع المدني في التصدّي للانحرافات والخروقات. ويبقى الرهان هو التصدّي للهجمة الممنهجة على القضاء باستعادة مسار الفصل بين السلطات أولًا وتوفير ضمانات استقلالية القضاء ثانيًا.

 

  • كيف هيمنت السلطة على القضاء؟

يمثل قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد، ضمن التدابير الاستثنائية يوم 25 جويلية/يوليو 2021، بتسمية نفسه "رئيسًا للنيابة العمومية"، هو المعطى الواضح بمضي السلطة التنفيذية لوضع يدها على القضاء، وهو القرار الذي رفضه المجلس الأعلى للقضاء، الذي لم تمرّ وقتها بضعة أشهر، ليتم إلحاقه بقائمات المؤسسات المنحلّة، ليدفع ضريبة التمسك باستقلال القضاء عن السلطة.

منح الرئيس نفسه سلطة إعفاء أي قاضٍ وكشفت شهادات عدد من القضاة المعفيين أنهم دفعوا ضريبة رفض تطبيق تعليمات السلطة السياسية وطلبات الأجهزة الأمنية وإجمالًا ضريبة التمسك باستقلال القضاء

رئيسة اتحاد القضاة الإداريين رفقة مباركي، في مداخلتها في الندوة الدولية للدفاع عن استقلالية القضاء، تؤكد أن قرار حلّ المجلس لم يكن مفاجئًا وقتها باعتبار أنه سبقته خطة ممنهجة لهرسلة القضاة عبر شبكات التواصل الاجتماعي. تباعًا، أرسى رئيس الدولة مجلسًا أعلى مؤقتًا للقضاء فاقدًا لمقومات الاستقلالية الهيكلية والوظيفية بمقتضى المرسوم عدد 11 لسنة 2022، الذي يمثل انتهاكًا صارخًا لمبدأ الفصل بين السلط باعتبار أن رئيس الدولة مثلًا يتولى تعيين عدد من أعضاء المجلس "الصوري".

لم يقف مسار هيمنة القضاء على إلغاء المجلس الأعلى للقضاء بوصفه مانعًا مؤسساتيًا حال في البداية دون السيطرة على السلطة القضائية. يوم 1 جوان/يونيو 2022، عدّل رئيس الدولة المرسوم عدد 11 بمرسوم جديد ليمنح لنفسه سلطة إعفاء أي قاضٍ بمجرّد "تقارير" دون تمكين المعفيين من مبدأ المواجهة وحق الدفاع وقرينة البراءة. وكشفت شهادات عدد من القضاة المعفيين أنهم دفعوا ضريبة رفض تطبيق تعليمات السلطة السياسية وطلبات الأجهزة الأمنية، وإجمالًا ضريبة التمسك باستقلال القضاء.

 

 

فوزي المعلاوي، وهو محامٍ عضو في لجنة الدفاع عن القضاة، لا يتوانى في اعتبار أن هذا الإعفاء هو "مثال تدريسي" لكل الخروقات التي يمكن أن تطال أي قرار إداري والذي لا يعكس إلا حالة "بناء قانوني فوضوي". القرار الرئاسي الذي أعفى قضاة من بينهم رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر ورئيسة مجلس القضاء العدلي مليكة المزاري ووكلاء جمهورية وقضاة بالجملة، لا يعكس إلا حقيقة سلطة القوة التي سادت بعد 25 جويلية/يوليو 2021.

المفارقة أن رئيس الدولة الذي يؤكد احترامه لأحكام القضاء رفض تطبيق قرارات رئيس المحكمة الإدارية الصادرة بإيقاف تنفيذ قرارات الإعفاء بحق 49 قاضيًا من القضاة المعفيين، بل تمت "فبركة" ملفات قضائية ضدهم، بغاية تبرير الإعفاء وعدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية. وهو الخيار الذي دفع القضاة المتظلّمين للتشكي ضد وزيرة العدل جزائيًا من أجل جريمة عدم تنفيذ أحكام القضاء، وهي شكايات لازالت تراوح مكانها حتى الساعة لدى النيابة العمومية.

يمارس الرئيس سلطته على القضاء الذي أصبح وظيفة بل بات القاضي مطالبًا بتطبيق القانون فقط، مُلغيًا مهامه في الدفاع عن الحريات وعلوية الدستور ودولة القانون 

لم يكن بذلك دستور 2022، الذي كتبه رئيس الدولة بنفسه مقصيًا حتى مشروع اللجنة الرئاسية التي عيّنها، إلا الإطار النظري الذي يحتاجه رئيس الدولة لتيسير ممارسة السلطة التنفيذية وتحديدًا رئاسة الجمهورية "سلطته" على القضاء الذي أصبح وظيفة بل بات القاضي مطالبًا بتطبيق القانون فقط مُلغيًا مهامه في الدفاع عن الحريات، وعلوية الدستور ودولة القانون كما الشأن في دستور 2014. 

تضمن الدستور الجديد حجبًا لضمانات الاستقلالية الوظيفية والهيكلية للقضاء، من ذلكَ التدخلُ المباشر في تعيين القضاة السامين، وإلغاء دسترة المجلس الأعلى للقضاء، وحذف دسترة تحجير التدخّل في القضاء والمحاكم الاستثنائية، بل أيضًا حذف تحجير الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية.

 

  • شهادتان عن "قضاء التعليمات"

ما الغاية من وضع اليد على القضاء؟ هو تعبيد الطريق للمحاكمات السياسية. قدمت الأستاذة دليلة بن مبارك مصدّق، عضو هيئة الدفاع عمّا يُسمّى قضية "التآمر على أمن الدولة"، شهادة في الندوة الدولية حول الخروقات الحافّة بالقضية التي اُثيرت في شهر فيفري/شباط 2023 وأدت لإيقاف ثماني قيادات من المعارضة التونسية. تضمنت هذه الشهادة عرضًا للتدخل المباشر لرئيس الدولة ووزيرة العدل في إثارة القضية ومتابعتها بشكل مباشر، باعتبار أن طلب الإحالة صدر عن وزيرة العدل إثر تقرير أمني، فيما أصدر رئيس الدولة تصريحات متعدّدة تضمّنت تدخلًا مباشرًا في سيرها من ذلك استقباله لوزير الداخلية ومدير الأمن أثناء سير الأبحاث، وتصريحه أن من سيبرّئ المتهمين هو "شريك لهم".

وقالت مصدّق: "شاهدت بعيني قضاة يبكون في هذا الملف"، مضيفة أن عددًا من القضاة يبرّرون "انصياعهم" للتعليمات بأنهم إن لم يودعوا المتهمين في السجن، فهم -أي القضاة- من سيودعون في السجن. 

المحامية دليلة مصدق: يبرر عدد من القضاة "انصياعهم" لتعليمات السلطة السياسية في تونس بأنهم إن لم يودعوا المتهمين في السجن فهم -أي القضاة- من سيودعون في السجن

في هذا الجانب، تشير عضو هيئة الدفاع إلى ضرورة أن تقبل الهيئة الوطنية للمحامين بترسيم القضاة الذين يقع إعفاؤهم على خلفية تمسكهم باستقلالية القضاء في جدول المحاماة. يتعلّق الأمر بتهديدات للقضاة وليس مجرّد تعليمات.

 

 

بدوره، قدم الأستاذ العياشي الهمامي، منسق هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين، شهادته حول الملفات "المفبركة" ضد هؤلاء القضاة وذلك بعد استصدارهم لقرارات إيقاف التنفيذ من رئيس المحكمة الإدارية، مبينًا بالخصوص أن هذه الملفات تتوزع بين القطب القضائي لمكافحة الإرهاب والقطب القضائي للفساد المالي إضافة لمكاتب التحقيق بمحاكم الحق العام. وقد تقدم قضاة التحقيق بقطب مكافحة الإرهاب للمجلس الأعلى للقضاء بطلبات لرفع الحصانة عن القضاة المحالين، وذلك بالنظر للخلل الإجرائي من النيابة العمومية التي بادرت بإثارة الدعاوى دون القيام برفع العوائق الإجرائية.

العياشي الهمامي، الذي يعدّ من رموز النضال الحقوقي في تونس، واجه السلطة في ختام شهادته في الندوة الدولية: "لا تفرح السّلطة بأنّها بدأت تُهيمن. نفرح نحن لأنّ زمن النّضال قد بدأ".

 

  • المقررة الأممية لاستقلال القضاء والمحاماة على الخط

كان من المبرمج أن تؤدي المقررة الأممية المعنية باستقلال القضاء والمحاماة زيارة إلى تونس بين 16 و26 ماي/أيار 2023، بيد أن السلطات طلبت منها تأجيل الزيارة، وهو ما حال دون حضورها في الندوة، والذي لم يمنع في المقابل إلقاءها لكلمة عن بُعد تناولت عرضًا للانتهاكات التي تمسّ من استقلالية القضاء على وجه الخصوص.

تحدثت المقررة عن معاينة ما وصفته بتراجع القانون في 85 دولة في العالم، مبينة أن القضاء يعدّ أهم مؤسسة لحماية الحقوق والحريات وتطبيق القانون، وهو ما يجعله مؤسسة مستهدفة من النظم السلطوية بغاية تقويضه سواء عبر ضرب مبدأ الفصل بين السلط من جهة أو التضييق على القضاة من أجل إخافتهم من جهة أخرى.

المقررة الأممية المعنية باستقلال القضاء: القضاء يعدّ أهم مؤسسة لحماية الحقوق والحريات وتطبيق القانون، وهو ما يجعله مؤسسة مستهدفة من النظم السلطوية بغاية تقويضه سواء عبر ضرب مبدأ الفصل بين السلط أو التضييق على القضاة

في هذا السياق، يعدّ المسار المهني والتأديبي للقضاة أحد العناوين التي يقع استهدافها من السلطة، من خلال آليات كفرض التقاعد الوجوبي والعزل دون توفير ضمانات المحاكمة العادلة. ومن أوجه الهيمنة على القضاء هو السيطرة على النيابة العمومية لتيسير توجيه الاتهامات وذلك دون حملات الهرسلة على القضاة. تمثل المؤشرات التي استعرضتها المقررة بخصوص أشكال ضرب استقلالية القضاء في العالم، حقائق مارستها السلطة السياسية في تونس بعد 25 جويلية/يوليو 2021 أدت لوضع القضاء تحت يد السلطة التنفيذية. 

الوضع الحرج للقضاء في تونس الذي عكسته الندوة الدولية انتهى ببيان أمضته جمعيات محلية ودولية بعنوان "ينبغي وضع حد للاعتداءات على استقلال القضاء" تضمن دعوة لإعادة القضاة المعفيين إلى مناصبهم، ووضع حدّ لتدخل السلطة التنفيذية في شؤون القضاء، واحترام الحق الأساسي في محاكمة عادلة، وإلغاء المرسومين 11 و35 لسنة 2022 مع تأكيد ضرورة احترام المعايير الدولية لاستقلالية القضاء وفق الالتزامات الدولية لتونس. 

ويظلّ السؤال: هل تعود السلطة السياسية إلى طريق الصواب؟ الإجابة أن المؤشرات الحالية تبيّن أن هذه السلطة ماضية في مزيد ضرب استقلال القضاء واستهداف الحريات العامة. وهو ما يستوجب على الفاعلين السياسيين والمدنيين مواصلة الانخراط في التصدي للخروقات لإيقاف انهيار المؤشرات الحقوقية في البلاد.