03-مارس-2023
احتجاجات قضاة في تونس

" التصدي للهجمة الشرسة على القضاء والقضاة اليوم هو واجب حيوي " (صورة أرشيفية/ياسين القايدي/الأناضول)

مقال رأي 

 

اتخذ قاضي تحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، الأسبوع المنقضي، قرارًا بإبقاء أحد المتهمين بحالة سراح، وذلك المبدأ في التحقيق باعتبار أن الإيقاف التحفظي هو وسيلة استثنائية، بيد أن هذا القرار لم يعجب رئيس الدولة الذي انتقده علنيًا باعتبار أن المتهم، وهو رئيس نقابة أعوان العدلية، مكانه لا يجب أن يكون إلا السجن. ببساطة.

الرسالة واضحة للقضاة: إما أن توقف المتهم أو توقف أنت على العمل. جملة سعيّد أن "من سيحكم ببراءة المتهمين هو شريك لهم" تكثّف قناعته الواضحة بأن القاضي اليوم ملزم ليس بتطبيق القانون بل بتطبيق ما يريده الرئيس

لم تمرّ إلا أيام قليلة حتى صدر قرار بإيقاف القاضي المتعهّد بالملف عن العمل. الرسالة واضحة للقضاة: إما أن توقف المتهم أو توقف أنت على العمل. سعيّد هو رجل "صريح"، جملته أن "من سيحكم ببراءة المتهمين فهو شريك لهم" تكثّف قناعته الواضحة بأن القاضي اليوم ملزم ليس بتطبيق القانون بل بتطبيق ما يريده الرئيس.

للتذكير في هذا السياق أيضًا، صرّح سلطان البلاد، مؤخرًا، أن أحكام التاريخ صدرت بحق المتهمين ولم تبق إلا أحكام القضاء، وهو ما يعني أن الأحكام جاهزة. الصورة واضحة.

صرّح سلطان البلاد، مؤخرًا، أن أحكام التاريخ صدرت بحق المتهمين ولم تبق إلا أحكام القضاء، وهو ما يعني أن الأحكام جاهزة

 

 

في قضية التآمر على المعارضة، والتي تُعرف إعلاميًا بقضية "التآمر على أمن الدولة"، قررت هيئة الدفاع بعد استنطاق المتهم الثالث مقاطعة الترافع ليقينها أن بطاقات الإيداع جاهزة بسبب ضغوطات السلطة السياسية على القاضي المتعهّد. وتأكد لاحقًا صواب تقدير الهيئة بإصدار بطاقات إيداع بحق جميع المعارضين الموقوفين.

حقيقة الرقابة السلطانية التي يتعرض لها قضاة تونس انطلقت واقعًا منذ انقلاب 25 جويلية حينما عيّن سعيّد نفسه رئيسًا للنيابة العمومية رغم أن التنظيم العدلي بالبلاد لا يتضمّن هذه الخطّة. الرئيس بالنهاية يريد ممارسة القضاء بنفسه أو بواسطة من يسمّيهم القضاة الشرفاء، وهم القضاة الذين يطبقون ما يتقاطع مع رغبات الرئيس. وزيرة العدل ليلى الجفال تؤمن تحقيق هذه الرغبات بكل الطرق الممكنة.

الرئيس يريد ممارسة القضاء بنفسه أو بواسطة من يسمّيهم القضاة الشرفاء، وهم القضاة الذين يطبقون ما يتقاطع مع رغبات الرئيس

قبل نحو تسعة أشهر، أعلن الرئيس إعفاء 57 قاضيًا جلّهم من قضاة النيابة العمومية والتحقيق، ومن المشهود لهم بالكفاءة والاستقلالية، وذلك عقوبة بسبب تمسّكهم بأداء دورهم بعيدًا عن ضغوطات الرئيس وأيضًا الجهاز الأمني.

تؤكد شهادات عديد قضاة النيابة بالخصوص أن إعفاءهم تمّ بمقتضى بطاقات أمنية تضمّنت وشايات أن القضاة غير متعاونين مع الأجهزة الأمنية. انقلبت الصورة، أصبح القاضي مُطالب بالاستجابة لطلبات الضابطة العدلية وليس العكس، وبات على القاضي إبعاد القانون والاحتكام إلى شريعة السلطة.

كيف يمكن أن يمارس القاضي في تونس اليوم مهمته النبيلة، وهي تحقيق العدل، بعيدًا عن ضغط السلطة والحال أنه معرّض لسيف الإعفاء في أي وقت؟

كيف يمكن أن يمارس القاضي في تونس اليوم مهمته النبيلة، وهي تحقيق العدل، بعيدًا عن ضغط السلطة والحال أنه معرّض لسيف الإعفاء في أي وقت؟ المرسوم عدد 35 يشرّع لحق رئيس الدولة في إصدار أمر رئاسي بإعفاء أي قاض بمجرّد تقرير من جهات مخوّلة لم يسمّها المرسوم، دون تمكين القاضي المعني من أبسط ضمانات المحاكمة العادلة: حق الدفاع.

الصورة تبدو سريالية ولكنها حقيقة اليوم. يجوز إعفاء أي قاض بقرار رئاسي ولو لم يوجد أي ملف تأديبي بشأنه بتفقدية وزارة العدل، هكذا. ومن الطرافة المبكية أن قاضيًا أعفي من جملة القضاة المعفيين بسبب تشابه في الأسماء مع شخص آخر لم يتفطّن له محرّر التقرير الأمني.

 

 

سعيّد لا يريد قضاءً مستقلًا بل يريد قضاءً تابعًا خاضعًا له، يحكم بما يشاء. نسف سعيّد لضمانات الاستقلالية الوظيفية والهيكلية للقضاء في دستوره، الذي كتبه بنفسه لنفسه، هو تأكيد أن استقلالية القضاء ليست مفهومًا في قاموس سعيّد.

الصورة تبدو سريالية ولكنها حقيقة اليوم. يجوز إعفاء أي قاض بقرار رئاسي ولو لم يوجد أي ملف تأديبي بشأنه بتفقدية وزارة العدل..

الرئيس مثلًا جعل كلمته عليا في تسمية القضاة خاصة في الخطط الوظيفية العليا والغاية إحكام سيطرته على منافذ القضاء. إضافة لذلك، كيف يمكن تفسير تخلّيه في دستوره أيضًا عن دسترة تحجير التدخل في القضاء كما كان ينصّ دستور 2014؟ مجددًا، الرئيس يؤمن أن التدخل في القضاء هو جائز متى صدر من شخصه، فسعيّد اليوم هو سلطان البلاد وقاضي القضاة.

يعرف القضاء التونسي محنة اليوم بسبب طغيان قيس سعيّد، والعدالة برمّتها كانت مرمى أساسي لسهام الرئيس منذ انقلابه، فهو يدّعي تشبهه بالخليفة عمر بن الخطاب ولكنه واقعًا يشبه أي مستبدّ سلطوي من القرن العشرين.

عقوبة القضاة اليوم ليست نقلة تعسفية، كما الحال في زمن سابق، بل إعفاء دون دفاع وحرمان من العمل ولو استصدرت حكمًا من المحكمة الإدارية بالإرجاع للعمل. هي حالة من الإمعان في الحيف

دائمًا ما تسعى الأنظمة السلطوية لوضع يدها على القضاء بغاية ضرب المعارضة ودكّ قياداتها في السجون بقضايا ملفقّة، وأيضًا لضمان إبعاد القضاء عن دوره الطلائعي في حماية الحقوق والحريات، فالقضاء المستقلّ والحرّ هو عدوّ دائم للشخصيات السلطوية التي تعادي القضاة المستقلّين.

قضاة تونس مطالبون أكثر من أي وقت مضى للتمسّك باستقلاليتهم ونبل رسالتهم رغم شدّة حجم الضغوطات والتهديدات التي يواجهونها، فالعقوبة اليوم ليست نقلة تعسفية، كما الحال في زمن سابق، بل إعفاء دون دفاع وحرمان من العمل ولو استصدرت حكمًا من المحكمة الإدارية بالإرجاع للعمل. هي حالة من الإمعان في الحيف. وعليه فإن التصدي للهجمة الشرسة على القضاء والقضاة اليوم هو واجب حيوي ليس فقط على جميع الفاعلين في شأن العدالة، بل أيضًا على المواطنين أنفسهم، لأن القاضي متى كان تابعًا للسلطة اليوم لا يمكن أن يضمن حقوق الناس غدًا.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"