20-مايو-2023
قضاء تونس

الرئيس السابق للمجلس الأعلى للقضاء يقدم قراءة في سعي السلطة السياسية للسيطرة على القضاء منذ الاستقلال(صورة من مظاهرة سابقة منددة بإعفاء 57 قاضيًا/ ياسين القايدي/ الأناضول)

الترا تونس - فريق التحرير

 

اعتبر الرئيس السابق للمجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر، السبت 20 ماي/أيار 2023، أن التاريخ المعاصر للقضاء التونسي هو تاريخ السعي المحموم للسيطرة على القضاء من الأنظمة السياسية المتعاقبة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.

وأضاف، في مداخلة له خلال ندوة دولية "دفاعًا عن استقلالية القضاء" من تنظيم اللجنة المدنية للدفاع عن استقلالية القضاء بالشراكة مع الأورومتوسطية للحقوق ومنظمة محامون بلا حدود واللجنة الدولية للحقوقيين والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب ومنظمة "هيومن رايتس ووتش"، أن السعي على السيطرة على القضاء عبر التاريخ في تونس اختلفت درجاته من سعي محتشم إلى سعي مفضوح، حسب المرحلة، مستدركًا القول إنه "في معظم الفترات كان يحقق نتائج تخدم أهداف السلطة السياسية"، حسب تقديره.

  • زمن الاستقلال وبناء الدولة

ولفت بوزاخر إلى أنه زمن الاستقلال وبناء الدولة قيل إن استقلالية القضاء ليست أولوية آنذاك وأن المرحلة تقتضي تركيز السلطات للمساعدة على بناء الدولة وتوطيد نفوذ السلطة السياسية، لذلك بقيت المسارات المهنية للقضاة وتأديبهم رهن السلطة التنفيذية رغم التنصيص على وجود مجلس أعلى للقضاء وعلى وجود مجلس الدولة في دستور 1959

يوسف بوزاخر: زمن الاستقلال قيل إن استقلالية القضاء ليست أولوية وأن المرحلة تقتضي تركيز السلطات للمساعدة على بناء الدولة وتوطيد نفوذ السلطة السياسية لذلك بقيت المسارات المهنية للقضاة وتأديبهم رهن السلطة التنفيذية

واستطرد قائلًا: لكن تأخر تركيز المجلس الأعلى للقضاء 8 سنوات بالنسبة للقضاء العدلي، ونحو 12 سنة بالنسبة للقضاء الإداري والمالي، ولم تتنازل السلطة التنفيذية عن موقعها على رأس هذه المجالس برغبة منها في الهيمنة عليها"، مشيرًا إلى أن رئيس الجمهورية كان يترأس مجلس القضاء العدلي ووزير العدل ينوبه، وأسندت للسلطة التنفيذية آنذاك سلطة إيقاف القاضي عن العمل، وإحالته على مجلس التأديب، فضلًا عن سلطتها في التسمية والانتداب والترقية.

وتابع: كذلك بالنسبة لمجلس القضاء لكلّ من المحكمة الإدارية ومحكمة المحاسبات، إذ كان يترأسها الوزير الأول وينوبه رئيس كل من المحكمة الإدارية ومحكمة المحاسبات، ويحدث ألّا يكونوا قضاةً وإنما أشخاصًا يقع تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية.

وأكد الرئيس السابق للمجلس الأعلى للقضاء أن ذلك الوضع منذ الاستقلال حال دون التمكن من بناء قضاء مستقل طبق المعايير الدولية، وظهرت عمليات عزل استعراضية وتنكيل بالقضاة الذين مارسوا استقلالية وظيفتهم في قراراتهم.

 

  • بعد انقلاب سنة 1987: 

وأكد يوسف بوزاخر أن هذه المنظومة كانت تحقق الغاية بالنسبة للسلطة التنفيذية ولم يكن من مصلحتها تغييرها بعد سنة 1987، (تاريخ انقلاب زين العابدين بن علي على الحبيب بورقيبة)، بل إنها شددت في ذلك بإلغاء إمكانية الطعن في القرارات المتعلقة بالمسارات المهنية للقضاة وتأديبهم أمام المحكمة الإدارية عبر تنقيح سنة 2005 الشهير (في أول مرة في البرلمان السابق للثورة عارض 16 نائبًا القانون الأساسي المتعلق بتنقيح قانون المجلس الأعلى للقضاء).

يوسف بوزاخر: بعد 1987 لم يكن من مصلحة السلطة التنفيذية تغيير المنظومة القضائية بل إنها شددت فيها بإلغاء إمكانية الطعن في القرارات المتعلقة بالمسارات المهنية للقضاة وتأديبهم أمام المحكمة الإدارية

وتابع: "آنذاك وفي تلك الظروف كان ذلك متزامنًا مع حملة غير مسبوقة استهدفت المسارات المهنية للقضاة عبر نُقل تعسفية لقضاة دافعوا عن الحق في الاجتماع والتعبير ودافعوا عن شرعية جمعية القضاة ورفضوا الانقلاب على مكتبها التنفيذي آنذاك".

 

  • بعد الثورة 

وأردف بوزاخر: "بعد ثورة 2011، ويا لغرامة الأمر، سعت السلطة التي تحوّل نفوذها إلى باردو عوضًا عن قرطاج، إلى الحفاظ على نفس المنظومة رغم التزام المجلس الوطني التأسيسي بوضع منظومة جديدة تحكمها الاستقلالية، وسقط في أول امتحان له وهو القانون المتعلق بالهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي وأسقط قانونًا برمته لخلاف بين أعضاء المجلس حول كلمة "الاستقلالية".

وأشار إلى أن "المسارات المهنية للقضاة ظلت حتى بعد الثورة رهينة المجلس الأعلى للقضاء الذي ورثناه عن حقبة الاستبداد، والمسارات التأديبية أيضًا توقفت قبل أن يتم تفعيل آلية الإعفاء من جديد بعد الثورة بإعفاء نحو 80 قاضيًا من رئيس الحكومة باقتراح من وزير العدل.

يوسف بوزاخر: بعد الثورة ساهم الحراك المجتمعي في تكريس الممارسات الفضلى في علاقة باستقلال القضاء وتحييد المسارات المهنية والتأديبية للقضاة عن التوظيف السياسي ففرض مفهوم "استقلالية القضاء" نفسه لكنه سرعان ما تم الارتداد عن ذلك

وتابع أنه خلال تلك الفترة كانت الساحة السياسية مفتوحة وكانت النقاشات علنية حول التأسيس لجمهورية جديدة، وساهم الحراك المجتمعي في تكريس الممارسات الفضلى في علاقة باستقلال القضاء وتحييد المسارات المهنية والتأديبية للقضاة عن التوظيف السياسي، فتعددت المطالبات في المجتمع المدني التونسي في علاقة باستقلالية القضاء، وفرَضَ هذا المفهوم نفسه على المجلس الوطني التأسيسي وجاء في تقرير لجنة القضاء العدلي والإداري والمالي ما يلي: "إن من أهمّ الضمانات الدستورية التي تكرّس أن القضاء سلطة هي أن الإشراف على شأن القضاء والمسار المهني للقضاة يُسند إلى هيكل مستقل عن السلطتين التشريعية والنفيذية"، وهو ما تم تكريسه في نصوص دستور 2014 وهو رؤية شاملة كفيلة بتأسيس سلطة قضائية مستقلة فعليًا".

 

 

واستدرك الرئيس السابق للمجلس الأعلى للقضاء القول إنه "سرعان ما تم الارتداد عن هذه الرؤية من قبل السلطة السياسية في علاقة بالجزء الأول المتعلّق باستقلالية القضاء، وحصرت آنذاك اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء في المسارات المهنية للقضاة مقابل الإبقاء على سطوة السلطة التنفيذية في الإشراف على القضاء فتم الإبقاء على اختصاص وزارة العدل في انتداب القضاة وتفقد أعمالهم وتحديد أجورهم والتحكم في السير الإداري والمالي للمحاكم".

 

  • بعد انتخابات 2019

ولفت يوسف بوزاخر إلى أنه بعد انتخابات 2019، برزت من جديد الرغبة السياسية في التحكم في المسارات المهنية للقضاة وأخذت منحًى تصاعديًا، إذ حصلت أزمة في علاقة بالحركة القضائية لسنة 2019، فقد حاول المجلس الأعلى للقضاء تفعيل صلاحيته المنصوص عليها في قانونه الأساسي في علاقة بالسلطة الترتيبة في مجال المسارات المهنية للقضاة، لكن السلطة التنفيذية آنذاك رفضت تفعيل قرارات المجلس ونشرها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية (المجلة الرسمية)، وكان رئيس الجمهورية أيضًا رافضًا لممارسة المجلس الأعلى للقضاة لسلطته المتعلقة بالمسارات المهنية بدعوى تفكيك الدولة وكأن المجلس الأعلى للقضاء ليس جزءًا من هذه الدولة، وفق تعبيره.

يوسف بوزاخر: بعد انتخابات 2019، برزت من جديد الرغبة السياسية في التحكم في المسارات المهنية للقضاة وأخذت منحًى تصاعديًا وكان الرئيس رافضًا لممارسة المجلس الأعلى للقضاة لسلطته المتعلقة بالمسارات المهنية بدعوى تفكيك الدولة

واعتبر بوزاخر أن "السلطة التنفيذية وصلت بذلك إلى غايتها تحت ضغط وجوب إصدار الحركة القضائية الذي أضحى مطلبًا ملحًا للقضاة، وذلك باستيلاء السلطة التنفيذية على السلطة الترتيبية في هذا المجال، بفضل تحكمها الواقعي في مؤسسة الرائد الرسمي"، وفقه.

وشدد يوسف بوزاخر، في هذا الصدد، على أن "ما حصل في ديسمبر/كانون الأول 2019 مثّل انتكاسة في تفعيل قانون المجلس الأعلى للقضاء وفي بناء القضاء المستقل الفعلي"، حسب تقديره.

 

  • ما بعد 25 جويلية 2021

وتابع بوزاخر أنه "سرعان ما تطورت المسألة بعد 25 جويلية/يوليو 2021، وأُلحق المجلس الأعلى للقضاء بالمؤسسات التي كان الهدف منها تفجير الدولة من الداخل، وأصبح الرئيس يتوجه بخطابات مباشرة للقضاة، بعضها يتعلق بالمسارات المهنية، وطالب بتطهير القضاء لإظهار المجلس في مظهر العاجز عن إدارة النزر القليل من الصلاحيات، وذلك تحضيرًا للإجهاز عليه يوم 6 فيفري/شباط 2022 وتنصيب مجلس مؤقت مكانه.

يوسف بوزاخر: سرعان ما تطورت المسألة بعد 25 جويلية وأجهز الرئيس على المجلس الأعلى للقضاء وأسند نفسه عديد الصلاحيات أخطرها إعفاء القضاة ما أنتج حالة من الرعب والخوف فضلًا عن عدم صدور الحركة القضائية 

وتابع الرئيس السابق للمجلس الأعلى للقضاء أنه أصبح للسلطة السياسية بمقتضى مرسوم صلاحيات تتعلق بالمسارات المهنية للقضاة، وأصبح لرئيس الجمهورية المبادرة في طلب مراجعة التعيينات وله الاعتراض عن تسمية قضاة في الحركة القضائية وتعيينهم وترقيتهم ونقلتهم بناء على تقارير من وزير العدل أو رئيس الحكومة، مستطردًا أن أخطر الصلاحيات التي أسندها الرئيس لنفسه هي إعفاء قضاة.

واعتبر يوسف بوزاخر أن الصلاحيات التي أسندها الرئيس قيس سعيّد لنفسه سواء فيما يتعلق بالمسارات المهنية أو التأديبية أنتجت حالة من الخوف والرعب في صفوف القضاة، خصوصًا بعد إعفائه 57 قاضيًا في ليلة واحدة.

وأضاف أنه كان من نتائج المرسوم المشار إليه أننا اليوم بلا حركة قضائية منذ سنة 2022، مؤكدًا أن تأخير الحركة القضائية هو مساس إضافي لحقوق القضاة المباشرين، ما من شأنه أن يخلق مظالمَ في حقهم، حسب تقديره.