قديمًا كانت المجتمعات تُنضج مادتها الثقافية والفنية كما تُنضج الخبز في الأفران المنزلية وكانت تفعل ذلك من دون قصديّة فنية أو ثقافية فكانت الأجيال تنشأ على وقع الأهازيج في الأفراح العائلية وشجن النايات الحزينة تتأتّى من هنا وهناك لتربي العشق في الأفئدة، وألوان المنسوجات التي تبهج المنزل وتزيح عنه كآبة الأيام والشالات التي تخيطها الجدات لصبايا العائلة حتى تبدون كنخل مكلل بالأزهار البرية.
ومن منظور علم الاجتماع فإنه ومع تطور المجتمعات أصبح الفعل الثقافي بالمعنى الاستعمالي والاستهلاكي للكلمة من مشمولات المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والجمعيات والأفراد والفنانين، وتحولت بذلك أغلب الفنون إلى منتج صناعي أدواتي تنتجه الشركات الربحية ويعرض للاتّجار في الأسواق الثقافية، وتشكلت داخل المجتمعات الحديثة مفاهيم جديدة متصلة بالترفيه والتثقيف.
ثمة عودة لـ"الحكواتي" في تونس في أشكال جديدة، إذ تبرمج المؤسسات التربوية تظاهرات ثقافية ترتكز على "الحكاية الشفوية" لتؤسس لمناهج جديدة للتسلية والترفيه وخلق جسور تواصل مع الموروث
وإذا ما رام الفرد أو المجموعة نيل نصيب من الثقافة فلا بد من اقتطاع تذكرة بمقابل، كما تنقلت المسألة الثقافية إلى أروقة السياسة وأصبحت ركنًا مهمًا في برامج الأحزاب. وتشكلت الجمعيات والمنظمات الثقافية المدنية التي تسهم الانجاز والنشر الثقافي والفني الحر وغير الرسمي. كما أصبح ثمة حديث عن السياسات الثقافية للدول والأقاليم والاتحادات وأيضًا حديث عن حوار ثقافي وسِلم ثقافية بين المجتمعات وثقافة كونية وإرث ثقافي إنساني مشترك، الأمر الذي حدا بالمنتظم الأممي إلى بعث منظمة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) تهتم بالموروث والمكون الثقافي الإنساني على كوكب الأرض دفاعًا وحماية وصيانة وتفكيرًا.
لكن هذا التطور الاجتماعي الذي عرفته البشرية عبر قرون طويلة، حوّل الثقافة من فعل حرّ نابع من الحرّانية المتأصلة في الإنسان إلى مادة معلّبة وجامدة تفوح منها روائح المكننة والتصنيع ومراكنة رأس المال وزحف الإيديولوجيا.
ورغم الخطوات الصلبة والمستميتة في الدفاع عن الخصوصيات الثقافية للشعوب والأمم من قبل المجتمعات ذاتها التي تفطنت مع مرور الوقت إلى فقدان ملامحها وربما تسطحها، إلا أنه ومع ظهور العولمة التي تسعى إلى اليوم إلى تشكيل مجتمعات متشابهة ومنمّطة وبثقافة واحدة، وهو تقريبًا ما تسميه الفلسفة بـ"الإنسان ذي البعد الواحد"، عادت البشرية بقوة الرجل الواحد إلى البحث في الهويات الثقافية للشعوب والرواسب الفنية القديمة والخصوصيات والتفصيلات المنسية وأرست منظومات تشريعية وحقوقية مهمتها الأساسية هي حماية تلك الخصوصيات الثقافية، فكانت المسارعة في بعثت أقسام لـ"علوم الأنتروبولوجيا" بكليات العلوم الإنسانية قصد النهوض بمهمات البحث والتفكير ووضع استراتيجيات الحماية الخاصة بالموروث، كل موروث.
ومن الجوانب الثقافية والتراثية التي تسعى كل شعوب العالم إلى حمايتها بإلحاح شديد هي ما تسميه اليونسكو بـ"التراث الشفوي" من غناء وشعر وحكي وسرديّات وملاحم شعبية مخلّدة.
ففي تونس مثلًا ثمة عودة قوية الآن إلى حكايات الجدات و"الفداوي" والسرد الشفوي للقصص الموجهة للأطفال، ففيما يشبه الظاهرة ثمة اهتمام وعودة لـ"الحكواتي" في أشكال جديدة، إذ تبرمج المؤسسات التربوية ما قبل مدرسية، العمومية منها أو الخاصة، تظاهرات ثقافية ترتكز على "الحكاية الشفوية" لتؤسس لمناهج جديدة للتسلية والترفيه وخلق جسور تواصل مع الموروث.
"الترا تونس" تطرّق إلى هذا الموضوع مع الفاعلين والمختصين الثقافيين والتربويين.
- صاحبة روضة أطفال: "الحكي الشفوي ركن أساسي في أنشطتنا التربوية والترفيهية"
"سماح العبيدي" هي مديرة روضة أطفال بالضاحية الغربية للعاصمة، أوضحت لـ"الترا تونس" أنها برمجت خلال السنة الدراسية الجارية حصة ثقافية ترفيهية أسبوعية على هامش الأنشطة الرسمية أطلقت عليها تسمية "الحكواتي الحالم" وتهدف من خلالها إلى ربط الصغار بالموروث الثقافي الشفوي.
سماح العبيدي (مديرة روضة): برمجنا حصة ثقافية ترفيهية أسبوعية أطلقنا عليها تسمية "الحكواتي الحالم" بهدف ربط الصغار بالموروث الثقافي الشفوي
وأشارت العبيدي إلى أنها تعاقدت مع منشطة مختصة في المسرح تأتي لفضاء الروضة مرة في الأسبوع وتقضي يومًا كاملًا به، فتقوم بإعداد مسرحها بارتداء لباس تقليدي تونسي وتتقمص دور جدة تونسية وتشرع في حكي قصص للأطفال متفق عليها مسبقًا وتسردها بأسلوبها الخاص مستعملة حركات وإيماءات ونظرات الجدات. فتجعل الأطفال في لحظة انجذاب لمشهدية القصّ، فتسبح مخيلاتهم في عوالم مشوقة.
- أستاذ مسرح: "قديمًا كانت الجدة تروضنا بالحكايات"
أما الأستاذ بهاء الدريدي، وهو خرّيج المعهد العالي للفن المسرحي ومدرّس للتربية المسرحية بإحدى المدارس الإعدادية بالضاحية الجنوبية للعاصمة تونس، فقد قال لـ"الترا تونس" إنه "يشتغل على موضوع الحكواتي مذ كان تلميذًا لأنه نشأ في وسط ريفي بجهة القيروان وطبعت طفولته عدة جلسات حكي كانت تنفذها جدته في السهرات الشتوية لكل الأحفاد".
وأضاف أنه "ربما يذهب إلى إعداد دراساته الجامعية المعمّقة حول هذا الموضوع".
وأشار محدث "الترا تونس" إلى أنه قام بدور حكواتي من القرون الوسطى في القسم مع تلاميذه وقد انبهروا بذلك الدرس العظيم فنيًا لأن الحكواتي يشبه إلى حد كبير ممثل الـ"وان مان شو" فيقلد أصوات الشخصيات المحكية ويغير ملامح وجهه حسب سيرورة الأحداث.
بهاء الدريدي (أستاذ مسرح): حولت درس "الحكواتي" إلى نادٍ تعلم من خلاله التلاميذ تقنيات السرد وأساليب التشويق. كانت تجربة ناجعة تربويًا وتثقيفيًا
ولفت أستاذ المسرح إلى أن تلاميذه طلبوا منه أن يتحول درس الحكواتي أو "الخرافة" إلى ناد ثقافي وهو ما حصل فعلًا، وانخرط فيه عدد هام من التلاميذ الذين تقمصوا دور "الفداوي" التونسي وتعلم أغلبهم تقنيات السرد أمام الجمهور وأساليب التشويق، مؤكدًا أنها "كانت تجربة ناجعة تربويًا وتثقيفيًا وفي نفس الوقت هي شكل من أشكال استمرار الموروث الثقافي التونسي لدى الناشئة"، حسب رأيه.
- الحكواتي هشام درويش: "لا بدّ من الوعي بحماية فن الحكي الشفوي كفكرة ثقافية قديمة"
الحكوَاتي التونسي "هشام درويش" انجذب إلى سحر الحكي والسرد القصصي الشفوي منذ الصغر وقَدِم إليه واثقًا من عالم الموهبة والاهتمام بهذا التراث الشفوي الغني بالتاريخ والجمال، وفق قوله.
وأضاف، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنه أحسن استغلال وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي للدفاع عن "الحكواتي" كفكرة ثقافية وفنية قديمة، غذت عقول الأجيال لقرون"، مؤكدًا أنه "لا بد من الوعي بحمايتها من الاندثار أمام زحف العولمة فأنشأ صفحة الحكواتي وقناة على يوتيوب خاصة بهذا الفن الأصيل وأسس لبرامج إذاعية تعنى بهذا الموضوع كما سعى إلى تقديم هذا الفن في التلفزيون التونسي".
هشام درويش (حكواتي): الموروث الشفوي التونسي مهدد بالاندثار ولا بدّ من خطة تصل التربوي بالترفيهي والتثقيفي من أجل ترسيخ هذا الفن المهدد بالانقراض
وعن تجربته مع الأطفال، يروي هشام درويش أن "العديد من النوادي والجمعيات الثقافية والتي تعنى بالطفولة والمؤسسات التربوية ما قبل مدرسية، اتصلت به لتقديم حصص حكي وسرد شفوي أمام الأطفال وتنشيط نوادي الحكواتي"، وفقه، مشيرًا إلى أنه "لبى العديد من الدعوات وبعد تقييمه لتلك التجربة فإنه يرى أنها تتسم بالأهمية لأنها تصل الصغار بهويتهم الثقافية وتحثهم على التسلية كما تحد من منسوب العنف الذي استشرى في الأوساط المدرسية والتربوية وترفع من منسوب الحلم والتخييل لديهم".
ويقول هشام درويش إنه "كان يعدّ قصصه بالأساس من الموروث التونسي: السيرة الهلالية، حكايات السيد علي والغول، ثورة علي بن غذاهم، قصص الرّحل من سكان الصحراء، بربر شمال إفريقيا، ومن أدب علي الدوعاجي والبشير خريف. كما يستلهم من التراث العربي الإسلامي: ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة، مقامات بديع الزمان الهمذاني. وأيضًا من التراث العالمي.
وأفاد أنه "يقدمها كلها بالعامية التونسية بأسلوب مشوق يشبه ما كان يقوم به قديمًا حكواتية الشرق في سوريا ولبنان و"فداوية" تونس نهايات القرن التاسع عشر".
ويعتقد الحكواتي هشام درويش أنه حامل لمشروع ثقافي وطني منذ سنة 2018 يدافع عن جزء أساسي من الخصوصية الثقافية التونسية ألا وهي "الحكي".
ويضيف أن "الموروث الشفوي التونسي مهدد بالاندثار لو لم تكن هناك إرادة سياسية ثقافية ومجتمع مدني قوي مستميت في الدفاع عن الهوية الثقافية على غرار مجتمعات أخرى التي أسست لمراكز ثقافية تعنى بالحكاية الشفوية والخرافة والأمثال وحكم الأولين".
ويراهن الحكواتي هشام درويش على "الأجيال الجديدة من أطفال ويافعين ضمن خطة تصل التربوي بالترفيهي والتثقيفي من أجل ترسيخ هذا الفن المهدد بالانقراض".
- الحكواتي العروسي الزبيدي: "الحكي الشفوي المباشر هو فن مفعم بالمشاعر الإنسانية الجذابة"
اتصلنا أيضًا بالحكواتي والمسرحي التونسي "العروسي الزبيدي" الذي جاب البلاد من شمالها إلى جنوبها مقدمًا عروض "الفداوي" التي تنهل من الملاحم والغنائيات التونسية القديمة البربرية والعربية وأيضًا كانت له تجربة مهمة مع الأطفال، فأفادنا بأنه دائمًا ما تتم دعوته لمهرجانات الطفولة لتقديم حصة حكاية شعبية بأسلوب الحكواتي وعادة ما تكون هذه الحصة من أهم أركان التظاهرة الثقافية لأن الأطفال ينشدون للحكاية فيسبح خيالهم بعيدًا.
العروسي الزبيدي (حكواتي): "الفداوي" وحكاية الجدة كنوز ثقافية مهملة في تونس وهي مستمرة بصعوبة بفضل إرادة بعض الفنانين
وأشار الفنان المسرحي العروسي الزبيدي إلى أن "الحكايات المباشرة والمبنية على مجموعة من القيم عادة ما تكون مفعمة بالمشاعر الإنسانية الجذابة وهي تقريبًا ما يصبو إليها هذا الفعل الثقافي الموجه للأطفال".
وأشار الزبيدي إلى أن "الفداوي" وحكاية الجدة كنوز ثقافية مهملة في تونس وهي مستمرة بصعوبة بفضل إرادة بعض الفنانين.
- مختص في فلسفة التربية: "فن الحكي هو تعلّمية قديمة تقوم على المهارة البيداغوجية"
ويعتبر الأستاذ "عماد العباسي" المختص في فلسفة التربية والباحث بالجامعة التونسية أن "فن الحكي" هو فعل فني قديم قِدَم البشرية لارتباطه الوثيق بحياة الإنسان وأيضًا كوسيلة للتسلية وحفظ الذاكرة الجمعية للمجتمعات من سير وملاحم ومرويّات لبطولات وهزائم. كما يعتبر "فن الحكي الشفوي" وسيلة للتثقيف وترسيخ القيم والأخلاق التي يتحلى بها أبطال القصص المحكيّة كالمروءة والشجاعة والتحابب والاستبسال في الدفاع عن الحق وحماية الحيوان والطبيعة.
وبالنسبة لتوجيه هذا الفن القديم للأطفال، فإن الأستاذ العباسي يرى أنه "بمثابة التدريب المباشر على الحلم عبر تنمية خيال الطفل، إنه تدريب ذهني جميل يشبه العمليات الحسابية في دروس الرياضيات، وفق قوله.
عماد العباسي (أستاذ في فلسفة التربية): فن "الحكي" بمثابة التدريب المباشر على الحلم عبر تنمية خيال الطفل وهو تدريب ذهني جميل يشبه العمليات الحسابية في دروس الرياضيات
ويضيف أن الدراسات العلمية في مجالات التلقي في علوم التربية قد أثبتت أن "التلاميذ الذين يحضرون حصص حكي شفوي مباشر يتقدم ذكاؤهم المكتسب لدرجتين أو أكثر مقارنة ببقية زملائهم. وبالتالي فإن هذه التعلّمية القديمة المبنية على المهارة البيداغوجيّة الصرفة التي تقوم على فنون الإلقاء والتواصل المباشر بتيسير سلس وجيد لأدوات من فنون المسرح لا بدّ من استثمارها في الحقل التربوي والمدرسي"، حسب رأيه.
كما أثار الأستاذ العباسي، من خلال حديثه إلينا، أهمية التطرق إلى قضية التراث الشفوي في تونس أو ما يسمى بـ"التراث اللاّمادي"، مشيرًا إلى مسألتين هامتين وهما تدوين هذا التراث والمحافظة عليه من جهة وحسن استثماره من جهة ثانية.
وبخصوص المسألة الأولى، يرى الباحث في فلسفة التربية أن "الدولة التونسية لم تضع استراتيجية واضحة المعالم لذلك ضمن خططها لحماية التراث لشكل عام فالتراث الشفوي من شعر وغناء وفداوي معرضة للطمس جراء الإهمال والانسياق الأعمى وراء العولمة الثقافية. حتى وإن كانت هناك محاولات للحماية فإنها لم تحظَ بالاستمرارية والتواصل إذ لم تبعث تونس وإلى حد اليوم مؤسسة وطنية واضحة بها وحدة للتسجيل الشفوى أو مركزًا للدراسات وصون الموروث".
وتابع: "أمّا مسألة الاستثمار وحسن التوظيف للتراث الشفوي فإنها تتحول أحيانًا إلى موضة فيتجرأ من هب ودب على الذاكرة"، وفقه.
إن مسالة عودة الحكواتي وقصص الجدة والحكايات الشفوية الشعبية الموروثة، وتحولها إلى ظاهرة في الأوساط التربوية والثقافية قد تزول مع مرور الأيام، تجعلنا نطرح العديد من الأسئلة الحارقة لعل أهمها "متى ستذهب وزارة الشؤون الثقافية ومن ورائها الدولة التونسية إلى فتح هذا الملف ووضع تصورات علمية لإنقاذ ذاكرة هذا الشعب؟".