"أماه أبتاه أين أنتما.. ألن تأخذاني معكما.. أليس اليوم السبت؟ أليست السوق منتصبة.. أبي ألن تشتري لي الحلوى كما وعدتني.. أمّي أينك ألن تحضنيني اليوم؟"، كلمات يلفظها طفل في سن الخامسة عشر على الركح حينما جسّد دور طفل ناج من انهيار مدرسة.
بين المكتبة العمومية ونادي المسرح في دار الثقافة الشافعي النفطي بالدهماني بدأ منير البوغانمي يرسم ملامح شخصيته المسرحية بالتوازي مع دراسته
من بين الأنقاض يتردّد صوت تلميذ ناج من ضربة وجهها المستعمر الفرنسي لمدرسة في ساقية سيدي يوسف، بثيابه الممزقة وجسده المكسو بالدماء يردّد كلمات ترشح وجعًا في دور تراجيدي منح الطفل جائزة أحسن ممثل في مسابقة لنوادي المسرح في ولاية الكاف.
هو الطفل منير البوغانمي المولع بالمسرح وبالنصوص المكتوبة بالعربية الفصحى. كبر اليوم وحمل وجع الناجي من القصف في قلبه حيثما حلّ، هو اليوم "مهرّج/كلون" بوصلته الإنسانية وغايته رسم الفرح على وجوه الأطفال خاصة أولئك الذين عبست الحياة في وجوههم وحرمتهم السند.
اقرأ/ي أيضًا: تونس العاصمة.. تراث معماري فريد على قارعة الإهمال
في عشق المسرح..
وقبل الحديث عن "الكلون" وعن توجهاته، يعود بنا منير البوغانمي سنوات إلى الوراء حينما كان طفلًا يركض بين الأزقّة ويحكي بجسده مشاهدًا وصورًا علقت بذهنه، ومع كل حكاية يتعمّق عشقه للمسرح حتّى قبل أن يعي أبجدياته وهو يصفه بالمغناطيس الذي يشدّه إليه أكثر فأكثر بمرور الزمن.
في سن التسع سنوات كانت مصافحته الأولى مع الخشبة، وسط دفع معنوي من المحيطين به رغم أن التكوين في بدايته لم يكن أكاديميًا، إذ كان الأمر يتعلّق بناد للمسرح مؤطّره أمين مكتبة عمومية في الدهماني التابعة لولاية الكاف، لم يكن من أهل المسرح ولكنّه كان من عشّاقه، وفق تصريحات البوغانمي لـ"ألترا تونس".
وبين المكتبة العمومية ونادي المسرح في دار الثقافة الشافعي النفطي بالدهماني، بدأ منير البوغانمي يرسم ملامح شخصيته المسرحية بالتوازي مع دراسته، وكان أمين المكتبة ينمي فيه حب الفن السابع من خلال مسرحته للقصص والروايات وإسناده أدوارًا مازال يذكر تفاصيلها إلى اليوم.
منير البوغانمي ليس من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي ولكنّه تلقّى تكوينًا من مسرحيين يدين لهم بالكثير
من مرحلة التعليم الابتدائي إلى الإعدادي فالثانوي، يعانق محدّثنا تفاصيل الفنون في الكاف حاضنة الموسيقى والمسرح والفن عمومًا، يجسّد كل ما يعايشه يوميًا بأسلوبه الخاص ويعيد كتابة النصوص التي تصادفه وفق هواه، وكل ما يعترضه قابل للمسرحة، وفق روايته.
مسيرة عصامي..
وإن انقطع منير البوغانمي عن الدراسة في المرحلة الثانوية، إلا أنّه ظلّ متشبّثًا بحلمه الذي سقاه من روحه وظلّ يصقل عشقه للمسرح، وبعد الورشات التي حضرها على المستوى الجهوي حينما كان تلميذًا ظل يلاحق كل خيط يحمله إلى معرفة جديدة في علاقة بالفن الرابع.
ومحدّثنا ليس من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي ولكنّه تلقّى تكوينًا من مسرحيين يدين لهم بالكثير ويسعى في كل مرّة إلى تمرير القيم والمعارف التي تعلّمها منهم إلى الأطفال الذين يؤطرهم، وفي كل مرّة يحاول أن يطوّر من نفسه ويمضي إلى مرحلة جديدة يكتشف فيها بعضا من خبايا المسرح.
اقرأ/ي أيضًا: جزيرة جربة.. هل يشفع لها "أوليس" حتى تصنفها اليونسكو تراثًا إنسانيًا؟
ومسيرته لم تخل من القسوة والمعاناة، ولكن ذلك لم يكن سببًا كافيًا ليتخلّى عن حلم يمتد من طفولته إلى ما لا نهاية، ولم يمنعه انقطاعه عن الدراسة وعدم التحاقه بالمعهد العالي للفن المسرحي من أن يصير ممثلًا ويعانق الركح في مناسبات كثيرة.
ومن خلال حديثه عن صراعه ومقاومته لكل الظروف من أجل أن يحصّل بعض المعرفة الخاصة بالمسرح، يوجّه رسالة إلى كل الحالمين مفادها ألا يفرّطوا في أحلامهم وألا يقنطوا مهما قست عليهم الأيام، فهو اليوم مكوّن في المجال الذي أحبّه رغم الرياح العاتية التي هبّت على حياته.
عن الكلون..
والطفل الذي انطلق من التراجيديا هرب إلى "الكلون" وخبّأ بين ألوانه كل تلك الصعوبات التي صادفته وصار متخصّصًا فيه حتّى أنه أشرف في السنة الماضية على تأطير طالبة تدرس بالمعهد العالي للفن المسرحي والموسيقى بالكاف كان مشروع تخرّجها عن "الكلون".
رحلة من التعلّم والتكوين قضّاها بين دار الثقافة بن رشيق بإشراف الراحلين منصف السويسي ومنية الورتاني وبئر الأحجار بإشراف حمّادي المزّي، توازيها رحلة من العمل في مهن عديدة منها النادل وبائع الخضر والنجّار، مهن التجأ إليها ليدافع عن حلمه، وفق قوله.
قصة منير البوغانمي مع "الكلون" تعود إلى الطفولة حيث رغب الطفل المولع بالمسرح في حضور أحد عروض هذا "الكائن" الذي يستدرّ ضحك الأطفال
وقصة منير البوغانمي مع "الكلون" تعود إلى الطفولة حيث رغب الطفل المولع بالمسرح في حضور أحد عروض هذا "الكائن" الذي يستدرّ ضحك الأطفال، ولكنّه حينها لم يكن يملك ثمن التذكرة، وظلت هذه الذكرى تلاحقه إلى اليوم وكلّما تألم نسج خيوط البهجة للآخرين.
وجع كثير وألم عايشه محدّثنا وهو يلاحق حلمه بين تفاصيل حياته الخاصة، الأمر الذي جعله يتخذ من الإنسانية بوصلة في الأنشطة التي يقوم بها، ويرفض أن يحيد عن الثوابت التي حدّدها لنفسها ومنها الإعراض عن كل عمل غير هادف على غرار "السكاتشات" الخالية من أي قيمة فنية أو إنسانية.
الإنسانية بوصلة..
و"الكلون" الذي يعبّر عن شخصية منير البوغانمي، كان وسيلته لينحت معالم مشروع إنساني حمله إلى مستشفيات الأطفال ومراكز فاقدي السند ودور المسنّين ومدارس نائيّة داخل الجمهورية وأحياء شعبية لا تزورها الثقافة في العاصمة وخارجها.
ولأن المستحقات المادية المتأتية عن الأنشطة التي يقدّمها لفائدة وزارة الثقافة لا يمكن أن تأتي إلا متأخّرة فإن "الكلون" يبحث عن موارد مالية أخرى في رياض الاطفال والمدارس الخاصة ومنها يدّخر نسبة يقتني بها هدايا للأطفال الذين يزورهم.
زيارات "الكلون" للأطفال متكرّرة ما مما يجعله دائما يبحث عن التجديد على مستوى المظهر والخطاب
هدايا مدروسة، وبرنامج يتلاءم ونفسية الأطفال المستهدفين بأنشطة "الكلون"، حلوى وقصص وألعاب فكرية وحكايات عن الحب والأمل يرويها منير البوغانمي في أروقة المستشفيات وقرى الأطفال فتبعث الدفء في الجدران الباردة وترسم الفرحة على وجوه الأطفال.
وعمّا إذا كان قد تعرّض إلى صعوبات في علاقة بالتنسيق مع السلطات، يقول إن الأمر دائمًا يما يتمّ بطريقة سلسة بعد طرح الفكرة وأبعادها على الجهات المعنية فتحظى بالقبول لما تحمله من خلفيات إنسانية ولما فيها من تأثير إيجابي في نفسية الأطفال.
للمسيرة بقيّة..
وزيارات "الكلون" للأطفال متكرّرة ما مما يجعله دائما يبحث عن التجديد على مستوى المظهر والخطاب على حدّ سواء خاصة وأنّ الأطفال اعتادوا عليهم وأنشأ معهم علاقة خاصة حتّى أنّهم ينتظرون قدومه ويسألون عنه في حال انشغل عنهم، وفق قول محدّثنا.
يعتزم منير البوغانمي بعث حركة فنية ثقافية اجتماعية جديدة قوامها "الكلون"
ولأنه يعشق "الكلون"، يعتزم بعث حركة فنية ثقافية اجتماعية جديدة قوامها "الكلون"، تشمل أنشطة أسبوعية توعوية إلى جانب تقديم طلب لوزارة الثقافة لإعلان يوم وطني لـ"الكلون" تكون فيه أنشطة ثقافية وفنية ورياضية واجتماعية على أن تكون أولاها في مسقط رأسه الدهماني حيث عشق المسرح.
ومن بين المشاريع الأخرى التي يعمل عليها منير البوغانمي العلاج بـ"الكلون" بالتنسيق مع أخصائيين في علم النفس وعلم الاجتماع، ليكون هذا "الكائن" فاعلًا في كل المجالات، كما يريده محدّثنا.
اقرأ/ي أيضًا: