17-أغسطس-2018

تقول الخرافة إن أصل "النعوشة" امرأة فقدت ابنها (getty)

على غرار "النعوشة" أو "أم الذراري"، تزخر عديد المناطق التونسية بالمواريث الشعبية المختلفة والغريبة، وقد انبنى بعضها على أساطير وخرافات ابتدعها سابقًا المخيال الجمعي. ربما نشأ ذلك لتحليل عوالم غيبية كانوا غير فقيهين في فك رموزها، أو لتفسير أمور وأحداث لم يجدوا لها تفسيرًا منطقيًا. وهو ما جعل البعض يهرع لتفسير تلك الظواهر على مدى عصور عبر الخرافات المختلفة، والحكايات العجيبة التي كانوا يفسرونها بالأشياء الخارقة.

وإن ارتبطت غالبًا كلمة "خرافة" لدينا بأحاديث الجدّات، وقصص الأطفال التي تُروى لهم قبل النوم، إلا أنّ بعض تلك الخرافات التي كانت تحدّثنا عنها الجدات بقيت وكأنّها حقيقة ثابتة في مخيال العديد ممن يؤمنون بها حتى اليوم، بل ويحتفظ أغلبهم بمخلفات تلك الخرافات في دواخلهم. وربّما يكون الأمر مسليًا أن نسمع إلى الجدات وهن يسردن بعضًا من تلك الخرافات التي توارثنها بدورهنّ عن جداتهن، وترسبت في دواخلهن إلى أن صارت لديهن أقرب إلى الحقائق منها إلى الخرافة.

 بعض الخرافات التي كانت تحدّثنا عنها الجدات بقيت وكأنّها حقيقة ثابتة في مخيال العديد ممن يؤمنون بها حتى اليوم

النعوشة.. طائر الموت

ويتذكر أغلبنا بعضًا من تلك الخرافات القديمة التي كانت تُحكى للأطفال، وعادة يكون أبطالها شخصيات خيالية مرعبة تُصوّر بأبشع الصور لإضفاء نكهة الرعب على الخرافة لتخويف الأطفال مثل "الغول" و"حمارة القايلة" و"الجنّ" وغيرها من الأساطير. ولكن وسط هذه الخرافات، لا يزال هناك من يعتقد لليوم بصحة بعض تلك القصص على غرار طائر الموت أو كما يسمى بـ"النعوشة" في بعض الجهات أو "أم الصبيان" في الشمال الغربي أو "أم الذراري" في الجنوب التونسي، وهو طائر يقال إنّه يتربّص بالأطفال حديثي الولادة.

اقرأ/ي أيضًا: "حِدّي"، "معيوفة" و"عَبْشَة": أسماء تمنع الموت حسب البعض؟

تكثر القصص الخارقة والخارجة عن المألوف حول هذا الطائر، وقد يصدقها البعض وينكرها آخرون. ونحن أمام إحدى هذه القصص، التي ارتبطت بنوع من طيور البوم، والتي تحولت إلى معتقد راسخ مطلق. إذ تتهم بعض النساء طائر "النعوشة" بأنّه يتسلل مع غروب الشمس إلى مضاجع الأطفال الرضع ليمتص ألسنتهم، ويحدث لهم حالة من الاختناق حتى الموت، أو يمتص دماغهم، أو يقف على صدورهم حتّى الاختناق. ولم تكن قصة هذا الطائر من نسج الخيال لتخويف الأطفال على غرار شخصية الغول أو الجن، وإنّها هو طائر من الواقع كباقي الطيور ولكنّه متهم بقتل الأطفال حسب الموروث الشعبي على مر العصور.

تقول الجدّة عائشة التي تصر أنّ اسمها "عيشة"، ذات العقد السابع إنّ "النعوشة" طائر من سلالة البوم لكنّه أكبر حجمًا، ينتشر في أغلب المناطق التونسية، صوته موحش تخافه النسوة كثيرًا لأنّه يقتل الأطفال الذين لم يبلغوا سنّ البلوغ وليس الرضع فقط. وتقول إنه للاتقاء من شرّ هذا الطائر لا بد لكلّ عائلة أنّ تعلّق غربالًا في مدخل البيت أو مدخل غرفة نوم الأطفال. وعند سؤال الجدّة عما إذا شهدت وقوع حادثة مقتل طفل من عدمه جراء هذا الطائر، تجيب بالنفي مضيفة "ربما لأنّ أغلب النسوة يعرفن القصة ويحتطن من الخطر الذي يتربّص بأبنائهن".

تقول خرافة طائر "النعوشة" أو "أم الذراري" إنه يتسلل مع غروب الشمس إلى مضاجع الأطفال الرضع ليمتص ألسنتهم ويحدث لهم حالة من الاختناق حتى الموت

أذكر، في نفس السياق وقبل سنتين، أنني سمعت صوت هذا الطائر، كان وقتها ساعة الغروب، في منزل إحدى قريباتي. لم تكن تلك المرة الأولى التي أسمع ذاك الصوت، ولكنني لم أنتبه للأمر إلا بعد أن سمعت إحدى الجارات التي كان برفقتنا مغمغمة مستلطفة الله، ثم منادية بصوت عالي "هات الغربال" (اجلبي الغربال). لم أفهم شيئًا، فقط كنت أراقب تصرّف المرأة ولم أدر سبب صراخها فجأة طالبة الغربال، ولكن لم أكلّف نفسي حتى بالسؤال عن الأمر. استغفرت المرأة ذات الأربعين سنة لاحقًا ثم أعادت الغربال إلى مكانه، وسألتها "ما الذي يجري؟" كان يجب عليّ طرح هذا السؤال لفهم ما حصل.

اقرأ/ي أيضًا: الملح "ربح" والفحم "بياض".. ميراث التخلّف في تونس

بدأت الجارة تسرد القصة بشغف قائلة "جيلكم طبعًا لن يصدق الأمر ولكن هذا ما نعتقده والله أعلم. يقال إنّ امرأة في القديم رزقت بولد بعد طول انتظار، وفي إحدى المرات طلبت من ابنها احضار غربال من إحدى الجارات ولكن وبسبب تأخره بالعودة، انهالت عليه ضربًا حتى الموت ولم تتقدم أي من نسوة الحي لنجدته. ثم ومن فرط حزنها على طفلها تحوّلت فجأة إلى طائر بوم، وتعهدت بالتربص بأي طفل صغير خاصة عند غروب الشمس، ولهذا يسمع صوتها غالبًا خلال المغرب أو ليلاً". سألتها عن سبب مناداتها بـ"هات الغربال" عندما سمعت صوتها، فأجابت "عند رؤيتها أو سماع صوتها يجب المناداة بصوت عال وطلب الغربال حتى إن سمعت اسم الغربال تتذكر موت ابنها فترأف بأي طفل وتذهب في حال سبيلها. ولذلك لا يجب ترك الأطفال بمفردهم خاصة حديثي الولادة. ولا يجب أن يخلو بيت من غربال".

يوضع الغربال في المنازل بهدف حمايتها من طائر "النعوشة" وثنيه على قتل الأطفال الصغار وذلك وفق الخرافة الموروثة في المخيال الشعبي التونسي

هي قصة غريبة ومضحكة جدًا، مختلفة عن باقي القصص والأساطير المتوارثة لأنّ تلك الأساطير خلقت فقط لتخويف الأطفال، ونسجت من الخيال، لكن هذه القصة الخرافية المخيفة بطلها طائر واقعي لا يختلف عن أي طائر آخر، ذنبه أنّه فقط مخيف الشكل والصوت. أصبحت بذلك "النعوشة" أو "أم الذراري" حكاية يسمعها الجميع ويصدقها العديدون ويتوارثون قصتها جيلاً بعد جيل.

رمز الشؤم وخراب الديار

ويقال إنّ هذا الطائر من سلالة البوم الذي يُنظر على أنّه طائر الشؤم، الذي تنسب له كلّ المصائب كخراب الديار ورحيل الأحبة أو الموت، حتى أنّ الناس كانت تنهر هذا الطائر خاصة ليلًا، لأنّ "النعوشة" تصطاد فرائسها عادة في الليل وهم من الأطفال الصغار وخاصة الذكور. ويُقال إنها تخاف ولا تقترب من المنازل التي يعلق بها الغربال الذي يذكرها بابنها، كما تشم رائحة الأطفال من خلال ملابسهم المعلقة على حبل الغسيل والتي يجب نزعها من فوق الحبل قبل غروب الشمس، وفق ما ترويه رقية التي تبلغ من العمر 36 سنة لـ"الترا تونس"، ورقية رغم صغر سنّها إلا أنّها مقتنعة بهذه القصة التي خبرت تفاصيلها عن طريق الأم والجدة.

تنتشر خرافة "النعوشة" في عديد الدول العربية ويسمّى هذا الطائر في ليبيا مثلًا باسم "النعاقة"

وإذ كانت هذه الخرافة التي نسجتها بعض الجدات والأمهات الأكبر سنًا عن "طائر الموت" كما يسمونه خرافة قد فسروا بها موت بعض الأطفال سابقًا بعيدًا عن أي حقيقة علمية، إلاّ أنّ عديد النسوة لا يزلن يؤمنّ بصدق الحكاية، ولا يزال صوت هذا الطائر نذير شؤم يفرض على عدد كبير من النساء تعليق الغربال في البيت حتى وإن كنّ لسن بحاجة إليه.

والباحث عن قصة هذا الطائر في بعض الدول العربية الأخرى غير تونس، يكتشف أنّ القصة واحدة مع الاختلاف في بعض التفاصيل، إذ يُسمّى هذا الطائر في ليبيا مثلًا باسم "النعاقة". بذلك وإن اختلفت الروايات والتسميات، لا يزال هذا الطائر بطل حكايات الجدات الموروثة عبر العصور.