مقال رأي
وأنا أطّلع على رسالة "كارلوس سيلدران" المخرج والدراماتورج وأستاذ المسرح بجامعة هافانا الكوبية التي وجّهها للأسرة المسرحية الكونية وأحباء المسرح وعشاقه الذين يشاركون الإنسانية جمعاء احتفاءها هذه الأيام باليوم العالمي للمسرح لسنة 2019، ذهلت أمام الرسالة المكتوبة بحبر القلب، لقد كانت رسالة عفوية ومدهشة كقصيدة شعر وعميقة المعاني كزهرة برية ورقيقة الكلمات كغيمة تتهيأ للإرذاذ ومسكونة بروح التفلسف كجوكندا.
رسالة كارلوس سيلدران الخارجة لتوها من "كور الحداد" تبدو قانية الحمرة وعالية الحرارة. يمكن لنا وضعها على سندان الحياة وطرقها بمطرقة العقل والفؤاد لتصل شراراتها أقاصي العالم وتحل كأصص زهور على شرفات الروح. إذ يقول "المسرح كما عرفته ينتشر عبر جغرافيا لا مرئية ويختلط مع حياة الذين يمارسونه كما يختلط السماد بالأرض. الفن المسرحي يا سادة هو إيماءة توحّد بين الناس".
الجهود المسرحية التونسية تبدو أرخبيلية لا تؤدي الجزر فيها إلى بعضها البعض
اقرأ/ي أيضًا: مسرحية حوار بورقيبة 2019: "الزعيم" هنا ليجيب عن أسئلة لا تموت
رسالة "سيلدران" تقرأ على عدة أوجه وتقلب على نواح عديدة. فإلى جانب تأصيله للفعل المسرحي بما هو الممارسة الفنية الأقدم على الأرض والأجدر بالإنسان وهو الفعل المقاومي الذي أثبت نجاعته أمام أعتى الدكتاتوريات والأزمات التي حلّت بالإنسان على مر تاريخه، وبما هو نحت للكيان وإقامة شعرية فائقة الرقي والرهافة، فإنها تبعث فيما تبعث على مسألتين هامتين هما "اعتراف الأجيال المسرحية لبعضها البعض" و"الحفر الحقيقي المستمر في صخرة المسرح". لكن السؤال الذي يحضرني هنا هو: ما مدى حضور مسألتي "الاعتراف والحفر المستمر" الآن في الساحة المسرحية التونسية؟
إن المتابع للحياة الثقافية التونسية بشكل عام والمسرحية على وجه الخصوص يلاحظ تفشي ظاهرة سلبية اعتبرها كارلوس سيلدران في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للمسرح من معوقات الثقافة وهي عدم اعتراف الفنانين المسرحيين لبعضهم البعض وعدم اعتراف الأجيال لبعضها البعض فالمسرحيون التونسيون يعيشون قطيعة فيما بينهم فهم لا يشاهدون أعمال بعضهم البعض ولا يتناقدون ويتنافذون ولا يستأنسون بخبرات بعضهم البعض.
فالجهود المسرحية التونسية تبدو أرخبيلية لا تؤدي الجزر فيها إلى بعضها البعض، فجهد مثل الذي يقوم به المسرحي التونسي العليم الفاضل الجعايبي وعلى عتوّه لا يرى ولا يشاهد من قبل زملائه ويمكن لنا أن نقيس على هذا المثال مع تجارب محمد إدريس أو الفاضل الجزيري أو توفيق الجبالي أو رؤوف بن عمر أو ليلى طوبال أو الأسعد بن عبد الله. وهي كلها تجارب لا تخلو من بحث وقرب من الواقع ضمن رؤى فنية منبثقة من عوالم التنظير الفكري والفلسفي للمسرح وفنون الخشبة.
أما في مستوى الحفر المستمر في صخرة المسرح التونسي فإننا لا نريده حفرًا سطحيًا عابرًا مرتجلًا يجانب التاريخ
اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "الخوف"... سيميولوجيا محضة حول الواقع التونسي
إن أهل المسرح في تونس مطالبون بتأمل ما وجّهه إليهم سيلدران في رسالة الاحتفال باليوم العالمي للمسرح لسنة 2019 وخاصة حديثه عن ضرورة تواصل التجارب المسرحية الفردية واعتراف المسرحيين لبعضهم البعض. إذ يقول في هذا الصدد "صناع المسرح، لقد بنوا إقامتهم ومناهجهم الشعرية على بقايا حياتهم الشخصية، وقدري وقدركم هو اتباع خطواتهم واليقين بأننا ورثنا تقليدهم الفريد والمدهش والعيش الآن وهنا بكل قوة ودون أمل سوى في الحصول على تلك اللحظة الشفافة وغير القابلة للاستنساخ. لحظة اللقاء مع الآخر في ظل المسرح. لا يحمينا إلا صدق إيماءة وكلمة عميقة".
أما في مستوى الحفر المستمر في صخرة المسرح التونسي فإننا لا نريده حفرًا سطحيًا عابرًا مرتجلًا يجانب التاريخ بحثًا عن الدعم المادي الذي يمنح من المال العام سنويًا لفرق وشركات الإنتاج المسرحي التي تقدم أحيانًا زيفًا مسرحيًا بعيدًا عن القيم الفنية واستنساخًا لأعمال قديمة، وهي أفعال غير جمالية ولا تليق بتاريخ المسرح التونسي ولا تليق بالنقد المسرحي وبالنخب التونسية المتابعة للحياة الثقافية والمسرحية.
بل نريده اشتغالًا على الكتابة المسرحية الجديدة والخطاب المسرحي بما يلائم الواقع التونسي عبر تمثل المهمات النقدية كما يراها برتولد بريشت وهو ينقد ويعالج قضايا المجتمع بمختلف أبعاده في ظل الاختلاف الفني والتمازج الأسلوبي الخاص بهذا الفن العريق. كما نريد مساءلات معرفية حقيقية للقضايا الجوهرية التي تهم التونسيين وتجسير الجزر المسرحية المتفرقة بجسور الفكر والفن واختلاف المضامين.
إن رسالة المسرحي الكوبي كارلوس سيلدران إلى أمة المسرح في العالم بمناسبة اليوم العالمي للمسرح هي رسالة تشبه البيان، تنبت من شقوقها آفاق مستقبلية لمعرفة مسرحية عالمة وشديدة الشعرية، كلنا في حاجة لها فما بالك بأهل المسرح، أهل الصفاء والنقاء.
اقرأ/ي أيضًا:
مسرحية "ذاكرة قصيرة".. حينما يكون الإنساني رهين السياسي
مسرحية "كاليغولا" للفاضل الجزيري: أسئلة في الحب والحرية والإرادة