05-مارس-2023
 قيس سعيّد

"لا يمكن أن يكون أي دواء ناجعًا مادام التشخيص الأولي للداء خاطئًا" (صورة أرشيفية)

مقال رأي

 

يقول ميشال فوكو: "الجحيم هو الآخر". لا يخلو تاريخ البشر من دول عايشت فترات تراجيدية، كوميدية ومثيرة للشفقة، نتيجة هوس حاكم بمجد زائف لا يدركه. بين 1971 و1979، عاشت أوغندا تحت قبضة الدكتاتور العسكري عيدي أمين دادا، الذي أمر ببناء قاعدة اتصالات ضخمة بتكلفة قاربت 9 مليون دولار، بينما كانت البلاد تعاني من أزمة مالية دبلوماسية مركبة.

كأغلب الفاشيين، وجّه عيدي أمين دادا أصابع الاتهام نحو شريحة العمال والتجار الآسيويين، باحتكار التجارة والوظائف والتلاعب بالاقتصاد والعمالة للخارج، بهدف إحداث اضطرابات داخلية تستهدف كرسيه. أما العلاج، فكان: المصادرة والتهديد بالإعدام بتهمة التآمر، أو الطرد خارج البلاد. 

منذ سنة تقريبًا، أعلن سعيّد عن الحرب على الاحتكار والمحتكرين لكن للآن لا تزال البلاد تسجل انقطاعًا لسلع وارتفاع أسعار أخرى، بينما جاء في تقرير نشرته "أنا يقظ" أن 92 % من المتهمين بالاحتكار تم إطلاق سراحهم

منذ سنة تقريبًا ومن مقر وزارة الداخلية، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 8 مارس/آذار، عن الحرب على الاحتكار والمحتكرين "أريدها حربًا دون هوادة ضد المحتكرين المجرمين في إطار القانون". لكن للآن لا تزال البلاد تسجل انقطاعًا لسلع وارتفاع أسعار أخرى، بينما جاء في تقرير نشرته منظمة "أنا يقظ" أن 92 % من المتهمين بالاحتكار تم إطلاق سراحهم: واعتبرت "أنا يقظ"، أنّ هذه الأرقام تفنّد "ما يدّعيه الرئيس قيس سعيّد من أن مشكلة غياب المواد الأساسية راجعة بالأساس إلى الاحتكار والمضاربة وإخفاء هذه المواد وتخزينها". هكذا جاء في بيان المنظمة رغم انفراده بالسلطة المطلقة ومحافظته على قاعدة شعبية محترمة، خسر سعيّد المعركة الاقتصادية. هذا ما تفيده الأرقام على كل حال.

 

 

من وجهة نظر ماكرو-اقتصادية، ووفق أرقام المعهد الوطني للإحصاء، تواصل نسبة التضخّم الارتفاع لتبلغ 10.2% في جانفي/يناير 2023، بعدما كانت في حدود 6.4% في شهر جويلية/يوليو 2023، مسجلة بذلك ارتفاعًا بـ 62.7%.

في سياق ما بعد جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وموجة الجفاف، قد يبدو من الإجحاف اعتماد نسبة التضخم مؤشرًا للفشل عند المقارنة إقليميًا ودوليًا لكن لا يمكن إنكار فشل السياسات العامة للدولة، التي يضبطها سعيّد وفق نص دستوره، في التعامل مع الأزمة الاقتصادية المركبة التي تمر بها البلاد.

لا يمكن أن يكون أي دواء ناجعًا مادام التشخيص الأولي للداء خاطئًا وعكس خطاب السلطة، نظرة خاطفة على مقدرات البلاد ووضعيتها المالية حتمًا تحمل الإجابة حول نقص عدد من المواد

من خلال تبني نظرية المؤامرة، تعزو السلطة السياسية النقص الحاد في المواد الأساسية، كالسكر والحبوب والمحروقات، إلى الاحتكار والمضاربة. "فيك الخصام وأن الخصم والحكم"، لكن تجدر الإشارة إلى أنه وفق النصوص المنظمة للتجارة والتبادلات التجارية في البلاد، فالدولة هي المورد الأساسي لهذه السلع، الحبوب والسكر والمحروقات والزيت، ممثلة في كل من ديوان الحبوب وديوان الزيت والشركة التونسية للصناعات البترولية.

ورغم المرسوم الصارم الذي سنته والمداهمات التي نفذتها السلطة التنفيذية، لم تنجح الأخيرة فيما سعت إليه، إذ يتواصل تسجيل نقص في الكثير من المواد. بديهيًا، لا يمكن أن يكون أي دواء ناجعًا مادام التشخيص الأولي للداء خاطئًا. عكس الخطاب السياسي للسلطة القائمة، نظرة خاطفة على مقدرات البلاد ووضعيتها المالية حتمًا تحمل الإجابة.

 

 

بصفة دراماتيكية، يواصل مخزون البلاد من العملة الصعبة التراجع شهرًا بعد شهر إلى ما دون الـ 100 يوم توريد، 96 يومًا في فيفري/شباط 2023.

سجلت تونس تراجعًا متتاليًا في تصنيفها الائتماني ما يعني خطر العجز عن السداد، وهو ما ينعكس على قدرة البلاد على التوريد وباعتبار ارتفاع أسعار المحروقات والنقل البحري والمواد الأساسية عالميًا، تكتمل وصفة الأزمة الاقتصادية

من جهة أخرى، سجلت تونس تراجعًا متتاليًا في تصنيفها الائتماني في الأسواق العالمية، حيث تهاوى مؤشر موديز إلى Caa2 مع أفاق سلبية حادة، ما يعني خطر العجز عن السداد، وهو ما ينعكس على قدرة البلاد على التوريد. وباعتبار ارتفاع أسعار المحروقات والنقل البحري والمواد الأساسية عالميًا، تكتمل وصفة الأزمة الاقتصادية وتكون ارتداداتها تراجع مخزونات البلاد الاستراتيجية، وهو ما سبق أن أشرنا إليه في تقارير سابقة منذ ما أكثر من سنة: " أزمات غذائية "قاعدية" تلوح في أفق تونس".

في المقابل، تصر السلطة على التعنّت والمكابرة من خلال محاولة مجاراة الأزمة بعمليات توريد استعجالية لبعض المواد الأساسية، ولا تكفي لعدة أيام، على حساب مواد أخرى، فيبقى السوق التونسي في حالة شح دائم ومستمر، لكن متنوع: فإن وجدت الحبوب والخبز فقد الوقود، وإن توفّر الحليب ندر البيض، وإن توفّر كلما سبق، انقطعت أسباب الكيف بانقطاع القهوة، وهكذا يبقى التونسيون في حلقة مفرغة من اللهث وراء السراب، فيما يشيح سعيّد وزمرته بوجوههم عن الأسباب الحقيقية للأزمة.

تصر السلطة على التعنّت والمكابرة من خلال محاولة مجاراة الأزمة بعمليات توريد استعجالية لبعض المواد، ولا تكفي لعدة أيام، على حساب مواد أخرى، فيبقى السوق التونسي في حالة شح دائم ومستمر

 

 

من طرائف دون كيشوت في رائعة ميغال دي سيرفانتس، أنه يتوهم أن طواحين الهواء شياطين تنشر الشر في العالم، ومن ثم يقرر محاربتها. دون الوقوع في التسطيح، تعرّف الدونكيشوتية  بأنها توصيف نفسي لكل نزعة فردية مبنية على حلم غير قابل للتحقق. أليس ما تعيشه تونس منذ واقعة ليلة 25 جويلية/يوليو ضربًا من الدونكيشوتية البشعة والمفرطة في النرجسية؟

في الأثناء، يعاني التونسيين من تهديدات تمس قوتهم اليومي وقدراتهم المعيشية، يصرّ الرئيس على أن الأزمة مفتعلة وأن المؤامرة والمتآمرون يقفون خلفها. وبعد أكثر من سنة من الزوابع الفنجانية والمداهمات البهلوانية والإيقافات العشوائية، لا تزال الأزمة تتعمّق أكثر فأكثر.

فيما يراهن الكثيرون على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لتوفير موارد مالية للدولة، يذكر أن هذا الاتفاق المعلّق إلى أجل غير مسمى، قد يكون هو رصاصة الرحمة في نعش المنظومة الاجتماعية، وفق ما تطرحه تجارب مقارنة، نظرًا لما سيصاحبه من إجراءات مكلفة قد تجهز على ما تبقى من الخدمات العمومية والاجتماعية. ورغم ذلك، لا يمكن الجزم أن غيوم الأزمة ستنجلي، لا بهذا الاتفاق، ولا بغيره، ما ظلّ التشخيص خاطئًا.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"