24-نوفمبر-2021

مع غياب ضمانات لموارد من العملة الصعبة للسنة المقبلة وأزمة مناخ (جفاف) عالمية وأزمة سلاسل التوريد وارتفاع الطلب العالمي، تُطرح عدة أسئلة عن المستقبل القريب في تونس (Getty)

 

بعد طول انتظار، صدر مؤخرًا بالرائد الرسمي مرسوم الميزانية التعديلية لسنة 2021 والذي ينص على 9.7 مليار دينار كقيمة للعجز و12 مليار دينار قيمة الديون الخارجية المفترض توفيرها في الأيام المعدودة التي تفصلنا على نهاية السنة الحالية 2021، ولو أننا تجاوزنا نهاية السنة المالية وفق الأعراف الجاري بها العمل صلب وزارة المالية (سبتمبر/أكتوبر من كل سنة).

لقوانين المالية أهمية بالغة في العملية السياسية، حيث تعتبر أحد المحددات الدقيقة للتوجهات السياسية العامة للسلطة. كما أنه في الفقه، يعتبر التصويت على هذه القوانين من عدمه، أحد الآليات المحددة لقوى الحكم والمعارضة، شأنه في ذلك شأن التصويت على منح الثقة للحكومة. في سياقنا الحالي التونسي، انفردت السلطة القائمة بالقرار، إذ لا وجود لأي نوع من التمثيل السياسي للقوى المعارضة، وبالتالي يمكن اعتبار مرسوم الميزانية التعديلية 2021 المحدد الأبرز حتى الآن للتوجهات والسياسات العامة "لسلطة الأمر الواقع" منذ 25 جويلية/ يوليو الماضي. 

اقرأ/ي أيضًا: قانون المالية التعديلي 2021.. أرقام وملاحظات

"صراحة، لم أجد الكثير من التفاصيل. الكثير من الملاحق. بالنسبة لي، ليس هناك أي توجّه أو رؤية سياسية يمكن استشفافها بخصوص قانون المالية التعديلي 2021. فقط تحيين للأرقام والفرضيات، آليًا تم تحيين العجز المفترض لكن لا يوجد أي قرار أو إجراء لافت، فقط هي مقاربة إدارية للميزانية، لنص المرسوم.."، هكذا كانت قراءة أيمن الوسلاتي، المتخصص في استشراف المخاطر الاقتصادية، عند حديثه لـ"الترا تونس".

منذ الاستقلال وعدا بعض الاستثناءات، ظلّت الميزانية في تونس رهينة مقاربة محاسبية قصيرة النظر يشرف على إعدادها عقل بيروقراطي محافظ متمثّل في مجموعة هياكل وإدارات وزارة المالية

منذ الاستقلال وعدا بعض الاستثناءات (التعديلات الجبائية 1972، 1977، 1993...)، ظلّت الميزانية رهينة مقاربة محاسبية قصيرة النظر، يشرف على إعدادها عقل بيروقراطي محافظ متمثّل في مجموعة هياكل وإدارات وزارة المالية، يقوم على محاولة موازنة الموارد والنفقات قدر الإمكان، عبر الترفيع إما في بعض الموارد، كالأداءات العمياء خاصة الأداء على القيمة المضافة أو المعاليم والرسومات، أو التخفيض التدريجي في نفقات التنمية والاستثمار العمومي، وهو ما يمثّل الاستقالة التدريجية للدولة من دورها الاجتماعي ودخول تونس في الحقل النيوليبرالي.

سبق للرئيس التونسي قيس سعيّد أن تحدّث في ذات الخطاب الذي دعا فيه إلى ضرورة التقشف في النفقات العامة، كما أشار البيان الذي تلى المجلس الوزاري الذي ترأّسه إلى "مسألة العدالة الجبائية في قانون المالية التكميلي لسنة 2021، وفي مشروع قانون المالية لسنة 2022"، إلا أننا لم نلمس أي مؤشرات لهذه العدالة الجبائية، من إعادة توزيع للثروة واستثمار عمومي في البنى التحتية للنقل، الصحة والتعليم...، ما يعني تواصل السياسات النيوليبرالية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة منذ أيام الهادي نويرة، وكانت سببًا في العديد من الانتفاضات والاحتجاجات.

اقرأ/ي أيضًا: أيّ "تقشف" يدعو إليه الرئيس سعيّد؟

سبق لسعيّد أن تحدّث عن "مسألة العدالة الجبائية في قانون المالية التكميلي لسنة 2021، وفي مشروع قانون المالية لسنة 2022"، إلا أننا لم نلمس أي مؤشرات لهذه العدالة الجبائية ما يعني تواصل السياسات النيوليبرالية لعقود

من بين التساؤلات التي يثيرها مرسوم المالية التعديلي لسنة 2021 ، هو الـ 12 مليار دينار المفترض توفيرها من التداين الخارجي في الأسابيع الخمسة المتبقية من هذه السنة. "يمكنني القول أن السلطة في ورطة الآن"، يعقّب أيمن الوسلاتي، ويضيف: "هذا المرسوم لا معنى له بالنظر إلى قيمة العجز وغياب أي ضمانات تمويل لتغطيته". 

ربما هذه الورطة هي التي دفعت رئيسة الحكومة نجلاء بودن مؤخرًا إلى مراسلة صندوق النقد الدولي طلبًا لعودة المفاوضات، ما يعيدنا إلى المربع الأوّل، وإلى حدود يوم 24 جويلية/ يوليو الماضي، أي إلى سياسات التقشّف، ووقف الانتدابات، وخفض كتلة الأجور... إلى غير ذلك من التوصيات، والشروط، التي يطلبها صندوق النقد لعقد اتفاق جديد. 

على صعيد آخر، تتناول عديد المنصات الإعلامية منذ أسابيع، على غرار بلومبرغ وفوربز، أزمة سلاسل التوريد Supply Chains Crisis، والتي نتجت عن الطفرة الاستهلاكية التي صاحبت رفع الإجراءات الوقائية في البلدان ذات الدخل المرتفع في الربيع الفارط، ما أدى إلى ارتفاع الطلب عالمي، بينما عجزت الأسواق عن توفير العرض اللازم، وبالتالي أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط والمواد الأولية في الأسواق العالمية، وما أدى أيضًا إلى ارتفاع مستويات التضخم. 

عن تأثير هذه الأزمة على الاقتصاد التونسي، يجيبنا الوسلاتي: "تونس هي إحدى مكونات هذه السلاسل. مثل كل دولة، بها حرفاء يستوردون ومصنعون يصدّرون، فطبيعي أن تتأثر هي الأخرى بهذه الأزمة، على مستوى التزويد تحديدًا. أمّا عن تأثير هذه الأزمة، فيمكن أن تسبب في نقص في بعض المواد، كمواد البناء مثل الحديد، الأدوية أيضًا، والحبوب... ما يفسر أزمة حديد البناء في الصيف الفارط مثلًا".

في تقرير لها الشهر الماضي وفي علاقة بأزمة سلاسل التوريد، تشير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة FAO إلى بلوغ أسعار المواد الغذائية الأساسية معدّلات ارتفاع قياسية، حيث سجلت أسعار الحبوب ارتفاعًا بنسبة 41% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، وكذلك أسعار الزيوت النباتية بدورها حيث ارتفعت بنسبة 60%.

عالميًا، سجلت أسعار الحبوب ارتفاعًا بنسبة 41% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، وكذلك أسعار الزيوت النباتية بدورها حيث ارتفعت بنسبة 60% فكيف تجهزت تونس لذلك؟

"هناك الأسباب المناخية أيضًا"، يوضّح المتخصص في استشراف المخاطر الاقتصادية أيمن الوسلاتي هذا الارتفاع، "تعاني كل من البرازيل وروسيا أزمات مناخية خانقة، لهذا لا أعتقد أن الأسعار ستنخفض. بل أعتقد أنها سترتفع أكثر في السنة المقبلة، نظرًا لاعتبارات عديدة كارتفاع أسعار السماد أيضًا، وستستمر حتى موسم الحصاد المقبل الذي لن يكون جيدًا بالمناسبة لتغطية الطلب المرتفع في قطاع الحبوب. هناك جفاف غير مسبوق في البرازيل. هذا ما يفسرّ ارتفاع سعر العلف مؤخرًا، وبالتالي ارتفاع أسعار البيض واللحوم البيضاء. كما أعتقد أن ارتفاع أسعار العلف والسماد قد يؤدّي إلى أزمة حليب على المدى القريب. بالنهاية أتوقع أن هذه الأزمة ستستمر حتى السنة المقبلة". 

يتقاطع ما يطرحه الوسلاتي مع ما جاء في تقارير حديثة للبنك الدولي، منظمة الأغذية والزراعة وتقرير للغارديان الشهر الماضي، حيث يشير كل من سارة باتلر وجيليان أمبروز، محرّرا التقرير، إلى ارتفاع أسعار النفط كعامل إضافي في معادلة خطر اللا-أمان الغذائي التي تهدّد عديد البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسّط، على غرار تونس. 

تشير عديد التقارير العالمية إلى معادلة خطر اللا أمان الغذائي التي تهدّد عديد البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، مع ارتفاع أسعار النفط والعلف والسماد الخ، وذلك على غرار تونس

عند طرح موضوع أسعار الطاقة والحبوب، تتجه الأنظار إلى صندوق الدعم في تونس. يشخّص الوسلاتي منظومة دعم الحبوب في تونس كالآتي: "الدعم في تونس يشمل عدة مستويات مثلاً في مجال الحبوب، تدعم الدولة في مستوى أول ديوان الحبوب عبر تسديد الفارق بين سعر الشراء والبيع للمطاحن. في مستوى ثان، تغطّي ميزانية الدولة فارق السعر بين الشراء من ديوان الحبوب والبيع إلى المخابز. ونفس العملية بالنسبة للمخابز. الجزء الأكبر من الدعم يذهب لتغطية عجز ديوان الحبوب".

ويتابع، خلال حديثه لـ"الترا تونس": "إلى حدود 2018 واظبت الدولة بانتظام على سداد خسائر ديوان الحبوب. لكن منذ ذلك الوقت وحتى هذه الأيام، بلغت ديون الديوان حدود 4 مليار دينار لدى البنك الوطني الفلاحي، ما دفع الديوان إلى اللجوء إلى فتح حسابات لدى بنوك أخرى. طبعًا هذه الديون لا تظهر جليًا في الموازنات المالية إلّا عند ضمها إلى ديون الدولة، لأنها أولاً وأخيرًا ديون عمومية. يعاني ديوان الحبوب أساسًا من أزمة سيولة وتمويل. في الأشهر الأخيرة، تضاعفت أسعار الحبوب ولا تزال سترتفع بالمناسبة. طبعًا الشراء هو بالعملة الصعبة. حالياً لا يزال لدى البنك المركزي ما يكفي من السيولة لبضعة أشهر لكن يجب التفكير في توفير أكثر موارد بالعملة الصعبة للميزانية".

متخصص في استشراف المخاطر الاقتصادية لـ"الترا تونس": مؤخرًا  تضاعفت أسعار الحبوب ولا تزال سترتفع وطبعًا الشراء هو بالعملة الصعبة. حالياً لا يزال لدى البنك المركزي ما يكفي من السيولة لبضعة أشهر لكن يجب التفكير في توفير أكثر موارد بالعملة الصعبة قريبًا

عند النظر إلى هذه الأزمة المركبة التي تقبل عليه تونس: غياب ضمانات لموارد من العملة الصعبة للسنة المقبلة + أزمة مناخ (جفاف) عالمية + أزمة سلاسل التوريد وارتفاع الطلب العالمي، وباعتبار خواء فؤاد السلطة القائمة من أي تصورات سياسية ولو تقليدية للمرحلة المقبلة واكتفائها بالمسايرة وإدارة الواقع تحت شعار الما-تريد-ية السياسية، لا يمكن لأي متابع إلّا رفع كذا نقطة استفهام عن مستقبل السلم والاستقرار الاجتماعي على المدى القريب والمتوسط في تونس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مختصون في الاقتصاد:"قد نصل إلى مرحلة العجز التام ولا مفرّ من إصدار العملة"

مرصد رقابة: ديوان الحبوب يتهرّب من الشفافية ويتعمّد التعتيم لإخفاء الإخلالات