25-مارس-2020

تم إيواء 240 عائدًا من بلدان أجنبية من بينهم 160 قادمين من إسطنبول (صورة تقريبية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

 

عند مدرج الطائرات في مطار تونس قرطاج الدولي، لم تكن مراسم استقبال المسافرين كالعادة، غابت ابتسامة مضيفي الطيران وغابت الورود والقبلات. لم يحتضن العائدون من دول أوروبية أهاليهم ولم يلوحوا لنا بحركات الانتصار والعودة بسلام إلى أرض الوطن، بدا الظلام مخيمًا على المكان، وكان موظفو الخدمات الأرضية في ارتجاف يضعون على أفواههم الأقنعة ويرتدون القفازات في أيديهم. وكان الجميع يتطلّع إلى القادمين من وراء البحار بريبة. كان الخوف مسيطرًا على الجميع من العدوى بفيروس كورونا.

كانت الإجراءات استثنائية في آخر رحلات الإجلاء من إسطنبول وسترازبورغ، أكثر من 250 مسافرًا كانوا عالقين سخرت الدولة إمكانياتها لكي تجلبهم قبل غلق الملاحة الجوية أمام القادمين والمغادرين. إنه الوباء الذي جعل القادم إلى وطنه مشتبهًا فيه ومريبًا.

اقرأ/ي أيضًا: يوميات التونسي في زمن الكورونا.. الدفء العائلي في مواجهة كآبة الحجر الصحي

لم يكن الاعتقاد جازمًا بأن كل القادمين من بؤر الكورونا في العالم مصابون ولكن قرار الحجر الإجباري ملزم للجميع. رافقت السيارات الأمنية الحافلات السبع المغادرة للمطار في اتجاه أحد النزل الساحلية في منطقة شط مريم من ولاية سوسة، كانت رحلة مختلفة للقادمين بعد أن كانوا في المهجر عالقين، لم يكونوا مطمئنين لمصيرهم في مقر الحجر الصحي الإجباري، فهم سيودعون مكانًا لم يختاروه طوعًا بل كرهًا، وكانوا يتوجسون خيفة من جودة الخدمات وهم الذين تعودوا الرخاء واليسر.

لم يكن ما ذكرت مجرد تخمينات وإنما هو زمن الكورونا الذي عدل توقيته على تقاليد حرب غير تقليدية ضد عدوّ خفي حاضنه لا يعلم بوجوده وأعراضه في بداياته خفية، ويتحول كل ناقل له إلى موضع اشتباه ويتخذ في شأنه إجراءات صحية ذات خصوصية.

النائب حسين جنيح: إيواء 240 عائدًا من بلدان أجنبية من بينهم 160 قادمين من إسطنبول ضمن الحجر الصحي الإجباري

بينما يتم نقل العائدين على الحافلات تجاه سوسة، تصلهم الأنباء من هناك عن احتجاج متساكني شط مريم من أجوار النزل الذي سيقيمون فيه ظنًا منهم أن النزلاء الجدد يحملون الغول المخيف الذي سينفث سمه في المكان، هكذا تهيأ لهم مما استدعى التدخل بادئ الأمر لتوعيتهم بضرورة القبول بهذا الأمر وأن هذا "الضيف الثقيل" سيكون ملتزمًا بالحجر والإقامة تحت حراسة أمنية ورعاية صحية وعناية أهلية، ولكن استعصى الأمر بالحوار فالتجأت الوحدات الأمنية إلى تفرقة المحتجين أمام النزل بالغاز المسيل للدموع وإخلاء المكان، وما كانت إلا سويعات حتى توافد النزلاء على المكان الذي لم يكن مهيئًا بالشكل المطلوب فأثار موجة من اللغط والسخط وحالة من التململ والفوضى أظهرتها بعض مقاطع الفيديو المسرّبة من داخل النزل.

ووسط صمت رسمي حول عدد العائدين وهوياتهم، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعوات للكشف عن مسارات هذا الإيواء والتراتيب الكفيلة بحفظ صحتهم وسلامة المحيطين بهم، وكانت أولى المعلومات تلك التي دوّنها النائب حسين جنيح عن جهة سوسة، وكشف عن إيواء 240 عائدًا من بلدان أجنبية من بينهم 160 قادمين من إسطنبول، ووفد ثاني من سترازبورغ، مضيفًا أن الهلال الأحمر سيتكفل بعملية الإمداد اللوجستي وسيقوم بالإطعام والإمدادات الغذائية مجمع خاص مع تعهد المصالح الصحية للجهة بالمتابعة والمراقبة.

وتفاقم الجدل بشأن هذا الحجر الصحي الإجباري بدعوات من حقوقيين ومجتمع مدني ينادون بضرورة "احترام جميع القواعد الصحية وتقسيم الوافدين على عدة جهات ذات قبلة سياحية لتخفيف الضغط وعدم تمكين الفيروس من الانتشار"، حسب ما نشره الحقوقي سهيل مديمغ. كما أثار آخرون المسألة الأمنية والوقائية لهذا النزل بشط مريم باعتباره لا يستجيب للمواصفات، كما أنه مفتوح على البحر وإمكانية مغادرة بعض المحجّر عنهم للنزل والخروج وارد جدًا.

ولم ينجل ظلام الليلة الأولى للإقامة في النزل حتى تواترت الأنباء من الداخل عن تذمر شديد بين النزلاء يتعلق بظروف الإقامة التي لا تستجيب للحد الأدنى من المرافق واختلاطهم فيما بينهم ببهو النزل، مما قد يعرض بعضهم لخطر العدوى. كما شاهدنا تململًا من الوجبات المقدمة لهم وتشكيات من نقص في المرافق الصحية.

 إحدى المقيمات في الحجر الصحي الإجباري بأحد نزل مدينة شط مريم من ولاية سوسة: عدم تهيئة النزل وتنظيفه وتوفير المستلزمات الضرورية خاصة من مادتي الكحول المعقمة والجافال داخل الغرف

ومن بين هذه التشكيات ما سردته إحدى المقيمات في الحجر الصحي الإجباري بأحد نزل مدينة شط مريم من ولاية سوسة في مداخلة هاتفية مع الإذاعة الخاصة "جوهرة اف ام" من عدم تهيئة النزل وتنظيفه وتوفير المستلزمات الضرورية خاصة من مادتي الكحول المعقمة والجافال داخل الغرف.

وعبّرت عن استيائها من عدم التزام المقيمين بالبقاء داخل غرفهم كما طلب منهم ذلك والتجول في بهو الفندق، مشيرة إلى تواجد طفلة صغيرة وعدد هام من كبار السن من بينهم من يشكو من أمراض مزمنة. كما لفتت إلى احتواء عدة غرف على أكثر من مقيم واحد قائلة "توجد غرف يقيم بها شخصان وحتى أربعة أشخاص ويستخدمون نفس المنشفة المخصصة بكل غرفة.. هذا ليس بحجر صحي وإنما إقامة في نزل".

وأضافت "الهواتف داخل الغرف لا تعمل ولم نستطع الاتصال بمكتب الاستقبال لتوفير مستلزماتنا مثلما وعدونا، وكأننا في سجن خاصة وأننا بقينا دون غذاء منذ وصولنا الى المطار لذلك اضطررت للنزول الى البهو بعد أن استمعت الى عدة أصوات تنبعث من هناك للبحث عن شيء يؤكل".

وقالت المتحدثة إنه كان من الأفضل إخلاء سبيلهم وإخضاعهم للحجر الصحي الذاتي فهو أكثر أمنًا وسلامة من وضعهم في هذا النزل وبهذه الكيفية، حسب تعبيرها، لافتة من جهة أخرى، إلى أن فرقًا أمنية ومن الهلال الأحمر والكشافة التونسية أمنوا عملية إيوائهم.

مالك القضقاضي (ناشط بالمجتمع المدني) لـ"ألترا تونس": من بين المواطنين من استراب الطريقة التي تم بها جلب المسافرين للنزل والتي كانت سرية تقريبًا

اقرأ/ي أيضًا: هبة مواطنية "زمن الكورونا"

من ناحيته، قال الناشط في المجتمع المدني مالك القضقاضي لـ""ألترا تونس" إنه "لا يزال هناك شيء من الاحتقان في نفوس المتساكنين ومشاكل حتى داخل النزل نفسه بين النزلاء، ذلك أن المجموعة التي عادت من تركيا كانت رافضة لوضعها مع المجموعة القادمة من فرنسا ومنهم من أراد حتى المغادرة".

كما برر احتجاج عدد من متساكني شط مريم على إيواء القادمين من مناطق موبوءة في هذا النزل "لقربه من حي سكني وأسواره القصيرة المطلة على البحر مما قد يسمح للمقيمين داخله بالخروج بسهولة والاحتكاك بالمتساكنين".

وأضاف القضقاضي "من بين المواطنين من استراب الطريقة التي تم بها جلب المسافرين للنزل والتي كانت سرية تقريبًا، حتى أن معتمد المكان ورئيس البلدية لم يكونا يعلمان بذلك وهذا ما أكده المعتمد عندما التحق بالمحتجين ولم ينكر عدم علمه بهذا الإجراء".

وفي هذا السياق، أكد رئيس بلدية شط مريم، سمير العذاري، لـ"ألترا تونس"، أن "النزل المخصص للحجر الصحي الإجباري في مرجع نظر بلدية سيدي بوعلي ولكن التجمعات السكنية حوله تابعة لبلدية شط مريم، ولذلك نبرّر هذا الاحتجاج لمتساكني شط حال سماعهم بوضع عدد من العائدين من الخارج في الحجر الصحي الإجباري".

وأضاف العذاري "بصفتي رئيس بلدية شط مريم لم يتم إعلامي مسبقًا بعملية الإيواء، وهو ما شكّل لي مفاجأة بعد تجمهر عدد من المواطنين أمام النزل في حركة احتجاجية عفوية نفهم منها عدم تشريك المجتمع المدني والسلطة المحلية في اتخاذ مثل هذه القرارات".

سمير العذاري (رئيس بلدية شط مريم) لـ"ألترا تونس": نحن نسعى إلى تعقيم النزل بصفة دورية وإلزام المقيمين بالتزام الحجر في غرفهم وتوفير حاجياتهم الأساسية

وبرّر رئيس بلدية شط مريم اندلاع شرارة الاحتجاجات بـ"غياب المعلومة وسريان الإشاعة باعتبار اعتقاد البعض أن النزل المذكور سيخصص لإيواء مرضى الكورونا"، معتبرًا أن "سوء التنسيق كان سببًا في هذا الاحتجاج".

أما عن ظروف الإقامة، فقد علّل رئيس بلدية شط مريم تدني الخدمات بكونه " لم يتم إعلام صاحب النزل بعملية الإيواء إلا خلال الساعات الأخيرة. وباعتبار أن هذا النزل مغلق منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، لم يكن مهيئًا لاستقبال وافدين للإقامة، ويفتقد للتدفئة العامة"، مضيفًا "الآن نحن نجتهد لأن يكون في وضعية أفضل. خلال اليوم الأول حدث بعض الارتباك ولكن بتظافر الجهود نحن نعمل على تجاوز العقبات بالتنسيق بين جميع المصالح من صحة وسياحة والهلال الأحمر. ونحن نسعى إلى تعقيم النزل بصفة دورية وإلزام المقيمين بالتزام الحجر غرفهم وتوفير حاجياتهم الأساسية من مستلزمات النظافة والأكل. وأؤكد ضرورة تفاعل المقيمين من الالتزام بالتعليمات والتوصيات الصحية".

وعلى إثر هذه الملابسات التي حفت بإيواء عائدين من بؤر الكورونا وطريقة وضعهم في الحجر الصحي الإجباري، تحركت السلط لتبرير مثل هذه القرارات. وانعقدت، مساء الثلاثاء 24 مارس/ آذار 2020، جلسة عمل تنسيقية بإشراف وزير السياحة والصناعات التقليدية محمد علي التومي ووزير الصحة الدكتور عبد اللطيف المكي، وذلك بمقر وزارة السياحة والصناعات التقليدية، وقد خصّصت الجلسة "للنظر في مزيد تنسيق الجهود بين الوزارتين بالتعاون مع كل الأطراف والجهات المعنية للتصدي لفيروس كورونا والحدّ من آثاره خاصة فيما يتعلّق بتوفير أماكن للحجر الصحي عند الضرورة. ووقع التأكيد على الالتزام بتوفير كل المستلزمات الضرورية حسب الاختصاص لتأمين أفضل الظروف خلال فترة الحجر الصحي في علاقة بالوقاية والنظافة والإعاشة".

محمد علي التومي (وزير السياحة): النزل ليست لقضاء عطلة وإنما هي إقامة استثنائية لأشخاص لم يعودوا إلى البلاد بصفة طبيعية

من جهته، أوضح وزير السياحة محمد علي التومي، في تصريح تلفزي، أن وزارة السياحة دخلت على الخط متأخرة، مبينًا أنه لما تم إشراكهم حددوا نزلين للإيواء ولكن لأمور تقنية ولوجستية تم الاحتفاظ بنزل واحد يضم 290 سريرًا وتم إيواء 270 شخصًا فيه.

وأبرز أن هذا القرار تم اتخاذه متأخرًا مما الوزارة تتدارك النقائص خلال 24 ساعة، مضيفًا أنهم يعولون على تفهم المقيمين بالتزام غرفهم وأن الوزارة طالبت بأن يحاط من يرفض الالتزام بالحجر في غرفته بالتأطير النفسي. 

وأكد أن هذه حالة ليست عادية وأن النزل ليست لقضاء عطلة وإنما هي إقامة استثنائية لأشخاص لم يعودوا إلى البلاد بصفة طبيعية ولم تكن عودتهم كما يتمنون، حسب تعبيره، مفيدًا أن رئيس الحكومة طالب بتقييم التجربة خلال مجلس وزاري لتحديد ما إذا كانت ناجحة أم ولا، ومؤكدًا ضرورة إجراء تقييم للعملية بعيدًا عن الضغط على أن تتم المتابعة مع وزارة الصحة في هذا الشأن.

وبيّن محمد علي التومي أنه في ظرف قصير قامت الدولة بإجلاء أكثر من 7 آلاف تونسي من الخارج ومغادرة أكثر من 15 ألف شخص غير مقيم من تونس انطلاقًا من مطار واحد وهو أمر ليس بالسهل، وفق تصريحاته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كورونا وانحباس الأمطار... 2020 سنة بلا ربيع

طبيبة تونسية في إيطاليا تروي لـ"ألترا تونس" تجربتها في مواجهة كورونا