لكلّ فصل خصائصه المناخية التي تنعكس على الذهن والنفس والفكر والسلوك، فالربيع في تونس على سبيل المثال لا يتشكل فقط من خلال زينة الأرض وبهجة الحقول والرياض، ولا تنبعث عطوره من روائح الزهور والورود والرياحين فحسب، إنّما تكشف عنه كذلك عدّه عادات وبرامج وتظاهرات ثقافية.
فقدَ ربيعُ 2020 كلّ آياته وعلاماته، بل فقد هويته أو ما به يكون الربيع ربيعًا، إذ حوّله الجفاف إلى فصل عقيم سقيم، وجعلته "كورونا" موسمًا مفزعًا مرعبًا، وباتت أيّامه بسبب إجراءات الحجر حزينة موحشة.
اقرأ/ي أيضًا: طبيبة تونسية في إيطاليا تروي لـ"ألترا تونس" تجربتها في مواجهة كورونا
سدود 2020 تقتات من مدخرات 2019
الطعنة الأولى التي طالت ربيع 2020 مصدرها أقرب الفصول إليه، فقد خرج الشتاء من مِلّته المناخية محاكيًا الصيف في شدّة الحرّ وانحباس الأمطار. في هذا السياق، صرّح عبد الله الرابحي كاتب الدولة السابق المكلف بالموارد المائية لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية)، أنّ نسبة التساقطات خلال شهري جانفي/ كانون الثاني وفيفري/ شباط المنقضيين لم تتخطّ 20 في المائة من المعدلات المعهودة في نفس الفترة خلال السنوات المنقضية.
وأكّد الرابحي أنّ نصيب السدود من المياه المجمّعة لم يتجاوز من سبتمبر/ أيلول 2019 إلى الثلث الأول من مارس/آذار من السنة الحالية 596 مليون متر مكعب، وهي كمية ضئيلة جدًّا مقارنة بالمعدّل السنوي الذي يفوق 1200 مليون متر مكعب.
فقدَ ربيعُ 2020 كلّ آياته وعلاماته، إذ حوّله الجفاف إلى فصل عقيم سقيم، وجعلته "كورونا" موسمًا مفزعًا مرعبًا، وباتت أيّامه بسبب إجراءات الحجر حزينة موحشة
هذه الأرقام المحبطة في ربيع 2020 لم تتسبب في أزمة مياه، لأنّ السدود في تونس حسب نفس المصدر فاق معدل الامتلاء فيها إلى حدود يوم 9 مارس/ آذار من السنة الجارية 65 في المائة، فبلغ 1422 مليون متر مكعب، ويرجع الفضل في ذلك إلى مدخرات الموسم المنقضي (2019) التي تعادل حوالي ثلثي الكمية الحالية.
سنة "عجرودة"
انعكس انحباس الأمطار خلال فصل الشتاء على الحقوق محصولًا وجمالًا، فقد اضطرّ عدد من الفلاحين الذين تحدث إليهم "ألترا تونس" إلى عملية استباقية تمثلت في تحويل مزارع الشعير إلى علف للأغنام والأبقار بعد أن تحققوا من صعوبة التدارك، وفيهم من يفكر في نفس الأمر مع القمح في بعض الأراضي التي توحي بأنّنا قادمون على "موسم عجرودة" لا تبلغ فيه البذور طولها وامتلاءها المناسب. وقد اشتق التونسيون كلمة عجرودة من اللغة العربية الفصيحة، فقد جاء في لسان العرب "العجرد هو العريان وشجر عجرد ومعجرد أي خال من ورقه".
رغم نزول بعض الأمطار في مطلع شهر مارس/ آذار الجاري، فإنّ التواتر والكمية لم يبلغا المعدلات المنتظرة، وقد أشرنا في مقالات سابقة إلى تعويل الفلاحين على هذا الشهر، فلطالما تغنى به الأجداد قائلين "مطر مارس ذهب خالص"، فيكون التتويج في الشهر الموالي الذي قيل عنه "المطر في أفريل/ نيسان تطلّع (تُخرج) السبوله (السبلة) من قاع بير".
اقرأ/ي أيضًا: بسبب "كورونا".. المرضى بحساسية الربيع أكثر عرضة للإساءة والاشتباه
طلل الحدائق ووحشة الرياض والبساتين
تجلّى الأثر الجمالي لانحباس الأمطار في الشتاء هذه الأيام الربيعية من خلال ندرة الأزهار التي عادة ما تُوَشّي الحقول قياسًا إلى المشاهد الزاهية التي ألفناها في السنوات المنقضية.
رغم هذا العبوس فقد حافظ الربيع على بعض سماته الأساسية، فالحدائق والبساتين لم تفقد حسنها، فها هي تتزين باحتشام وتستعيد نضارتها في اعتدال مستأنسة بطقس معتدل وشمس حرارتها لطيفة وديعة، وها هي تدعو الأطفال إلى أن ينعموا بها في عطلة تمتد من منتصف مارس/ آذار إلى بداية أفريل/ نيسان، لكن لا مجيب.
أرجوحات الأطفال خالية ساكنة تنبعث منها روائح الحيرة والخوف
"ألترا تونس" زار يوم السبت 22 مارس/آذار 2020 في وقت ذروة الإقبال الحديقةَ المتوسطة "ميامي" بالمروج الأول، فوجد أرجوحات الأطفال خالية ساكنة تنبعث منها روائح الحيرة والخوف، لا يختلف هذا المشهد الكئيب عن المسلك الصحي المجاور ومنتزه المروج الثاني وغيرها من المساحات الخضراء بالمناطق المجاورة بمقرين ورادس، إنها أحكام "كورونا" فقد أرغمت الكبار والصغار على ملازمة بيوتٍ ملّوا البقاء فيها طيلة أيام الشتاء ولياليه، وكان الأمل في تعويض الحرمان الشتوي بما يتيحه فصل الربيع من صحو وزهو، لكن هيهات هيهات.
أبي لماذا خذلتنا؟
أبي وعدتني بأن نقضي عطلة الربيع عند جديّ وجدّتي في الريف ما عهدتك تخلف وعدك، ألم تحثني على صلة الرحم، ألم تذكر لي مزايا التنزه وفوائده الصحية، لماذا تخلّفنا عن حضور مهرجان ربيع الطفل بمقرين؟ وماذا عن مهرجان الربيع لمسرح الطفل وفنون العرائس بتونس؟ لماذا اختفت الومضات الإشهارية حول بقية المهرجانات الربيعية في قبلي والكاف والقصرين وغيرها.. بهذه الكلمات يواجه العديد من الأبناء الصغار واليافعين آباءهم، فقد اختلط عليهم الأمر، وأصابهم ما أصاب الكبار من ارتباك وقلق وانتظار.
نحن نتدرب هذه الأيام على ضروب جديدة من الحبّ والمقاومة، حب لا يتجلى ضمًّا وعناقًا وتقبيلًا، إنما يتجسد صبرًا وبعدًا وحيطة
يردّ الأب قائلًا "بُنيّ، بنيتي، إن الحجر الصحّي ليس فيه إعراض عن الطبيعة أو رفض للفنون والموسيقى أو تنكر للأهل والأحبة والأصدقاء، إنه حجر نتطلع من خلاله إلى الحياة، نحرص فيه على حماية أنفسنا، هو سلوك أشبه ما يكون بامتناعنا أحيانًا عن عدد من الأنشطة التعليمية والثقافية والرياضية حينما نُصاب بحمّى أو زكام، هو حجر يحاكي ابتعادنا عن المريض رغم حبنا له خشية العدوى، "كورونا" قضت بأن تواجه البشرية نفس الحالة المرضية في آن، والعقل والشريعة وحب الحياة قضوا بأن تتحد البشرية كافّة في سبيل خلاص جماعي، بُنيّ، بنتي نحن نتدرب هذه الأيام على ضروب جديدة من الحبّ والمقاومة، حب لا يتجلى ضمًّا وعناقًا وتقبيلًا، إنما يتجسد صبرًا وبعدًا وحيطة، ومقاومة لا تقتضى اندفاعًا وقوة وفروسية، إنما تستوجب انضباطًا والتزامًا ومكوثًا في البيت إلى أن يحل السلام، ألا إنّ الربيع لناظره قريب".
اقرأ/ي أيضًا:
أزمة "كورونا".. أين ذهب مرضى العيادات الطبية الخاصة؟
الوداع الأخير في زمن الكورونا.. كل التفاصيل عن دفن ضحايا الوباء في تونس