30-أكتوبر-2020

حرفيون تونسيون يتحدثون عن حرفة حياكة وتطريز الجبة التونسية (دي آغوستيني/ Getty)

 

في دكان صغير بأحد الأزقة بالمدينة العتيقة، يجلس الحرفي محمد بن فرحات على مقربة من باب المحلّ، منهمكًا في تطريز قطعة قماش في يده. يرمق أحيانًا المارة من الزقاق، ليجيب أحد السائلين عن ثمن تلك "الجباب" المعلقة أمام محلّه.

لوهلة تشعر وكأنّك في السبعينات، كل شيء قديم وتقليدي، جدران الدكان وأدوات الحياكة وزي الحرفي. وحتى رائحة المكان، وأغاني أم كلثوم، وعطر القهوة المنبعثة من المقهى المجاور لدكانه. يسألك عن حاجتك دون أن ينقطع عن التطريز على قماش حريري أبيض ذي خطوط رقيقة ذهبية.  

تشبه الجبة التونسية بعض الأزياء التقليدية الخاصة ببعض الدول العربية الأخرى، ولكن رغم الشبه  في كونها لباسًا فضفاضًا، إلا أنّها تتميز بطابع خاص بها، لاسيما وأنّها تحاك من أقمشة عادية وأخرى حريرية وحتى من الصوف

يختص الحرفي محمّد في حياكة الجبة التونسية منذ أكثر من عشرين سنة. يقول لـ"ألترا تونس" إنّه "ورث المهنة عن والده مثل أغلب الحرفيين في ذلك المكان، وتعلمّ تفصيل الجبة وحياكتها وتطريزها، حتى أنّه لا يُشغل معه أيّ عامل في الدكان، نظرًا لعدم توفر أصحاب خبرة في تلك الحرفة، وبسبب تراجع الإقبال عن لباس الجبة، والاكتفاء بذلك الزي في المناسبات الاحتفالية".

يجلس محمد بن فرحات على مقربة من باب المحلّ منهمكًا في تطريز قطعة قماش في يده (مريم الناصري/ ألترا تونس)

وعلى الرّغم من استمرار انتشار حرفة حياكة وتطريز الجبة في العديد من الجهات التونسية، إلاّ أنّها شهدت تراجعًا في عدد الحرفيين مثل العديد من الحرف التقليدية الأخرى. ويعود ذلك إلى تراجع الإقبال على ارتداء الجبة.  إذ لم يعد يُقبل على ارتدائها سائر الأيام سوى أئمة المساجد ومنشدي الحضرة وشيوخ الدين، فيما يكتفي السياسيون بارتدائها في الاحتفالات الدينية، وعامة الناس فقط في المناسبات والحفلات، بعد أن كانت زيًا عامًا يرتديه أغلب التونسيين على اختلاف مستوياتهم وطبقاتهم الاجتماعية، ولم يكن يُفرق قيمة جبة عن أخرى سوى نوع قماشها وتطريزها.

وتشبه الجبة التونسية بعض الأزياء التقليدية الخاصة ببعض الدول العربية الأخرى. ولكن رغم الشبه  في كونها لباسًا فضفاضًا، إلا أنّها تتميز بطابع خاص بها. لاسيما وأنّها تحاك من أقمشة عادية وأخرى حريرية وحتى من الصوف. وتتميز بالتطريز على صدرية الجبة. تطريز يدوي لا يوجد سوى في الجبة التونسية، يتفرّد بالرموز والرسومات.

صالح رفرافي (حرفي) لـ"ألترا تونس": عدّة أنواع من الجباب تُصنع اليوم في تونس، باستعمال أنواع مختلفة من الأقمشة المصنوعة من الحرير الطبيعي، وأخرى من الحرير الاصطناعي. فيما يصنع البعض الآخر من الصوف أو الأقمشة العادية

وترتكز عملية التطريز على التطريز اليدوي. لذا بقيت تعتمد أساسًا على أدوات تقليدية. ولا يتقن خياطتها وتطريزها سوى حرفيين تعلموا كيفية التطريز اليدوي واستعمال أنواع مختلفة من الإبر. وغالبًا ما كانت الجبة في السابق ذات لون أبيض ناصع، يرتديها العريس خصوصًا يوم عقد قرانه، أو أعيان البلاد. فيما يرتدي شيوخ الدين وعامة الناس غالبًا الجبة ذات اللّون البني. لكن بتطور صناعة أنواع عدّة من الأقمشة، بات بالإمكان حياكة الجبة من عدّة ألوان،  كان يصعب على الرجال ارتداؤها لاسيما الألوان الزاهية.

اقرأ/ي أيضًا: مع بورقيبة وبن علي والطرابلسية...هل فقد "السفساري" هويّته الأصلية؟

يقول صالح رفرافي أحد حرفيي الجبة لـ"ألترا تونس" إنّ "عدّة أنواع من الجباب تُصنع اليوم في تونس، باستعمال أنواع مختلفة من الأقمشة المصنوعة من الحرير الطبيعي، وأخرى من الحرير الاصطناعي. فيما تصنع بعض الجباب الأخرى من الصوف أو الأقمشة العادية. لذا يختلف سعرها حسب نوع القماش وحتى نوع التطريز والخيوط التي استعملت للتطريز. ويبلغ أحيانًا سعر الجبة المصنوعة من الحرير والمطرزة بالحرير حوالي 4 آلاف دينار. ويُقبل على شرائها بعض رجال الأعمال أو السياسيين، للباسها في المناسبات والاحتفالات الدينية. فيما يتراوح سعر العادية بين 200 دينارًا و1500 دينارًا".

تتميز الجبة التونسية بتطريز يدوي على صدريتها يتفرّد بالرموز والرسومات (ميكال بيلباو/ Getty)

كما يضيف الحرفي أنّ تجارة الجبة تشهد غالبًا انتكاسة في فصل الشتاء. ولا يتم الإقبال على شرائها سوى في فصل الصيف الذي تكثر فيه المناسبات وحفلات الزفاف، أو حفلات الختان وعروض الحضرة والأغاني الصوفية.  لذا يضطر البعض إلى العمل في المحل أكثر من 15 ساعة لتوفير الطلبيات في الصيف، وذلك بسبب نقص اليد العاملة ونقص القادرين على خياطة الجبة بإتقان".

في المقابل، يشير الحرفي عبد المؤمن إلى أنّ "العديد من أنواع الأقمشة والخيوط باتت تستورد من الخارج. فعلى الرغم من كون الجبة زيًا تونسيًا أصيلًا إلا أننا بتنا نعتمد على عدّة مواد مورّدة بسبب نقص الإنتاج المحلي، خاصة الأقمشة الحريرية وخيوط الحرير الطبيعي"، مضيفًا أنّ "أغلب الحرفيين في السابق يجدون بضاعتهم الأولية في السوق بالمدينة العتيقة، بل كان التجار يتبادلون السلع في السوق  بشكل كبير. لكن فُقدت عدّة أنواع من الأقمشة والخيوط في تونس بسبب تراجع إنتاجها، والتي تمّ تعويضها بما يتم توريده خصوصًا من الصين، مما جعلنا اليوم نقوم بخياطة وحياكة وتطريز جبة تونسية أصيلة بمواد أغلبها مستوردة".

التونسي لم يستغنِ عن الجبة التونسية خصوصًا في المناسبات (مريم الناصري/ ألترا تونس)

وتدوم خياطة وحياكة الجبة الواحدة حسب الحرفيين أكثر من أسبوع، لأنّ أغلب الأعمال فيها تُنجز يدويًا لاسيما الجبة الحريرية، وتتطلب وقتًا طويلًا في التطريز. وعلى الرغم من كون الحرفة مهمة وتوفر مواطن شغل هامة، كما أنّ المنتوج غالبًا يلقى رواجًا كبيرًا، إلاّ أنّ أغلب الشباب غير راغب في تعلمها.

محمد بن فرحات (حرفي) لـ"ألترا تونس": رغم عدم إقبال الشباب على تعلم الحرفة إلاّ أنها لن تندثر لأنّها ستبقى متوارثة لدى أبناء الحرفيين أنفسهم أو الشغالين القدامى 

ويعتبر الحرفي محمد بن فرحات أن على الرغم من عدم إقبال الشباب على تعلم الحرفة إلاّ أنها لن تندثر لأنّها ستبقى متوارثة لدى أبناء الحرفيين أنفسهم أو الشغالين القدامى، نظرًا لأنّ التونسي لم يستغنِ عن الجبة التونسية التقليدية خصوصًا في المناسبات وخلال حفلات عقد القران. ولكن يتمنى الحرفي عودة الحرف والأنشطة المرتبطة بصناعة الجبة إلى سالف نشاطها، على غرار تربية دودة الحرير أو صناعة خيوط الحرير في تونس، وتوفير عدّة أنواع من الأقمشة المعتمد في هذه الحرفة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الدنقري" يعود بقوّة بين شباب تونس.. ما قصة هذا اللباس الأزرق؟

"مريول فضيلة".. أسطورة امرأة حاول فرنسي اغتصابها فتحوّل قميصها إلى رمز مقاومة