27-مارس-2018

صناعة الكحل العربي صامدة أمام الماركات العالمية (getty)

في بهو منزلها الواقع على تخوم مدينة الجريصة من محافظة الكاف، تجلس مليكة على جلد خروف تدندن "مرض الهوى قتالة ومرض الهوى زاد عليّ.. والسكنى في الأجبال والخيمة تبات معلية... نلحق عليه ونبات هاي فوق حرام وزربية... نلحق على ريدي الغالي وما نخاف سيوفه كي تشالي". وتضع أمامها كانونًا يستعر فحمه إذ يستوي عليه إناء تلقي فيه نوى التمر وتقلبه على مهل، وحينما يكتسي مسحة من السّواد الفاتح، ترفعه عن النار وتلقي محلّه نوى الزيتون وتعيد الكرّة.

ولا تنقطع مليكة عن الغناء وهي تدقّ حجر الكحل أو الإثمد الذي تتحصل عليه من منجم الجريصة دقًا خفيفًا في مهراس نحاسي متوسط الحجم، وينساب صوتها الرقيق متناغمًا مع إيقاع المهراس الموزون. وتخلط مليكة فتات حجر الكحل، ونوى التمر، والزيتون، وعود القرنفل، وعشبة "صالح الأنظار" (نوع من عشبة البوصير) وتلقي بهم في هوة المهراس النحاسي، وتواصل الطحن والغناء.

ولمّا تتماهى مكّونات الخليط وقبل أن تتحوّل إلى مسحوق ناعم، تتوقّف مليكة عن الطحن وتضيف للخليط قليلًا من زيت الزيتون وتقلبه من جديد على موقد النار حتى يتحوّل لونه إلى أسود متجانس. من ثم تمرّ إلى مرحلة طحن كل المكونات وهي لا تتوقف عن الغناء إلا حينما ينقطع إيقاع الدق وتطبق يديها على المدقة في حركات دائرية للتأكد من أنّ المسحوق أصبح شديد النعومة.

وبعد مرحلة الطحن تنكبّ مليكة على غربلة مسحوق الكحل العربي بواسطة قطعة من القماش الرقيق ذات نسيج لا يمرّر إلا الكحل الناعم. وعقب الغربلة، تُجرّب السيدة الخمسينية الكحل بواسطة عود خشبي يسمّى "المرود" قبل أن توزع المسحوق في علب صغيرة مخصّصة له.

منتوج الكحل العربي في علب صغيرة كما تعده مليكة

موروث الأجداد ومصدر رزق

تقول مليكة لـ"الترا تونس" إنها ورثت صناعة الكحل عن أمّها التي ورثتها بدورها عن جدّتها، مشيرة إلى أنّها تمارس هذه المهنة منذ ما يزيد عن العشرين سنة. وتضيف أنّ منتوجها لا يزال يلقى رواجًا في صفوف نسوة مدينة الجريصة وبعض المدن المجاورة رغم غزوة أدوات الزينة العصرية، لافتة إلى أنّها تروّج لمنتوجها في الحمامات العامة. وتتابع بالقول إنها اضطرت في بعض الأحيان إلى الاستغناء عن استخدام حجر الكحل نتيجة لتعطل الإنتاج في منجم الجريصة، وعدم قدرتها على توفير هذا الحجر.

وتُسمى الجريصة بمجانة المعادن ذلك أنّه يستخرج منها فضلاً عن الحديد، الرّصاص والفضّة والمرتك أي أوّل أكسيد الرّصاص بالإضافة للإثمد أي حجر الكحل. وتصّر مليكة على مواصلة إنتاج مسحوق الكحل لأنه يوفر لها عائدًا ماليًا يمكّنها من مساعدة زوجها على المصاريف في ظل غلاء الأسعار الذي تشهده تونس.

تسمّى مدينة الجريصة في محافظة الكاف التونسية بمجانة المعادن لأنه يُستخرج منها الحديد والفضة والمرتك إضافة للإثمد أي حجر الكحل

وتؤكّد أنها ستورّث هذه الصناعة لبنتيها وتطمح لأن تكون صاحبة مشروع لصناعة الكحل يشغّل عددًا من الفتيات ويحظى بدعم الدولة، وفق قولها. ولم يفتها أن تشير إلى أنّ للكحل فوائد جمة تتجاوز الزينة إلى الحفاظ على سلامة العين ووقايتها من الأمراض.

بين الكحل التقليدي وكحل الماركات العالمية

لطالما جعلت المرأة منذ القدم زينتها وجمالها في أولوية اهتماماتها، وقد حرصت المرأة العربية خصوصًا على أن تتجمّل بمنتوجات طبيعية على غرار الكحل والحناء والسواك. ولئن حرصت المرأة في القدم على أن تستعمل "الكحل العربي" المصنوع منزليًا، إلا أنّها تجد اليوم نفسها وجهًا لوجه مع غزوة الماركات العالمية للكحل المصنّع إضافة للماركات المقلّدة.

وفي هذا الجانب، تتحدث أمل الخالدي عن تجربتها لـ"ألترا تونس"، تقول إنها جرّبت ماركات عالمية للكحل المصنع حديثًا على شكل مادة لزجة ولكنها تعود بعد كل تجربة إلى استخدام الكحل العربي. وتوضّح محدّثتنا أن الكحل الحديث يجعل عينها تتأثر وتذرف دموعًا تسيل على وجنتيها وتفسد "ماكياجها" في أغلب الأحيان. وتشير إلى أنها تعلّمت عادة استعمال الكحل العربي من أمها التي دأبت على شرائه من امرأة تعرض منتجها في حمام الحي.

ومن جهتها، تفضّل سارة عيسى الكحل المصنّع حديثًا وتقتنيه من الماركات العالمية لأنها لا تثق في طريقة صنع الكحل العربي. وتقول عيسى لـ"الترا تونس" إن الكحل الحديث يوفر خاصية الألوان المختلفة التي لا تتوفر في الكحل العربي، كما يمكّن الفتيات من الظهور بإطلالات مختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: المنشور 108.. عن انتهاك حرية اللباس في تونس

وقاية وعلاج مع تحذير!

تشير مسعودة اليعقوبي وهي امرأة مسنة أصيلة ريف الشمال الغربي إلى أنّ "الكحل كان زينة المرأة في القديم تستعمله لتبرز جمال عيونها، مبينة أن استعمال الكحل لم يقتصر على المرأة إذ كان يضعه الرجل أيضًا في بعض المناسبات على غرار عاشوراء". وتضيف اليعقوبي في حديثها مع "الترا تونس" أن الكحل العربي كان من بين الوصفات الخاصة بعلاج العيون والوقاية من الامراض التي تصيبها.

يضعه الرجل أيضًا في بعض المناسبات على غرار عاشوراء

وتبيّن أنّ هذا الكحل لم يكن يستعمل فقط في الحياة اليومية وفي الأعراس والمناسبات بل تجاوز ذلك إلى استعمالات أخرى على غرار الوقاية من الأمراض، لافتة إلى أنّ النساء قديمًا كنّ يكحّلن عيون الرضّع في تقليد متوارث يحمي الأطفال من الإصابة بالمرض، كما أنهنّ يعتقدن أنّ المادة السوداء ستحميه من حسد الناس وتجعل بصره حادًا، وتساعد العين على قذف المواد العالقة بها عبر ذرف الدموع متى لامسها الكحل.

وتتابع بالقول إن "عود القرنفل المستعمل في صنع الكحل العربي مفيد لتعقيم العين وتطهيرها"، مشيرة إلى أنّه من بين الطقوس المتوارثة تكحيل العين عند إصابتها بما يعرف بالشعيرة وهي بثرة تخرج في أصل حدقة العين أو دمل صغير يتكون في الجفن. وتضيف محدّثتنا، معدّدة خصائص "الكحل العربي" أنه يقوّي الرموش، ويطوّلها مما يزيد في قدرتها على حفظ العين من الأتربة وأشعة الشمس.

توجد مزايا للكحل العربي مثل تعقيم العين وتطهيرها إضافة لتقويته للرّموش ولكن توجد بعض الدراسات الطبية التي تحذر من تأثيره الضار على البصر بسبب نسبة الرصاص العالية

في الأثناء، تحذر بعض الدراسات التي أجريت في منطقة الخليج من خطر الكحل التقليدي على العين، وتأثيره الضار على البصر، لاحتوائه على نسبة عالية من الرصاص تتراوح ما بين 85 و100 في كل غرام من الكحل. وكانت الهيئة العامة للغذاء والدواء في المملكة العربية السعودية قد حذّرت من استعمال منتوجات من كحل الإثمد لاحتوائها على نسبة عالية من الرصاص. وأشارت إلى أن التعرض لنسب عالية من الرصاص يتسبب في خلل بالجهاز العصبي ووظائف الكلى والكبد والدم.

ولئن انتشرت أدوات التجميل الحديثة وتراجع دور الكحل العربي كمادة أساسية لزينة المرأة، إلا أنّه يظل جزءًا من عادات المرأة التونسية وموروثها الثقافي المتعاقب عبر الأجيال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"تشليط"، كي وممارسات أخرى.. رعب أطفال تونس

ضحايا الاغتصاب في تونس.. قصص الوجع الدائم