28-أغسطس-2018

لباس مثقل بدلالاته الأيديولوجية انتشر في تونس بكثافة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي

كنت بمشربة إحدى الكلّيات التونسية العريقة أنتظر بعض الطلبة من نشطاء الحركة النّقابية الطلاّبية، كان يرتدي أحدهم جمّازة "دنقري" زرقاء، بدا حضوره مثيرًا وجذّابًا بلباسه، وكان الجميع في المشربة منشدّ لـ"الدنقري" التي يلبسها الشباب لرمزيتها ودلالاتها الأيديولوجية والأنثروبولوجية.

وهذه ليست المرة الأولى التي أرى فيها طالباً يفخر بـ"الدنقري" التي يلبسها، فمنذ أسابيع التقيت طالبًا آخر في المكتبة الوطنية يرتدي هذا اللباس الأزرق الساحر، كما شاهدت فتاة تونسية تجرب هذا اللباس في إحدى المغازات بأسواق مدينة تونس العتيقة. إنها عودة "الدنقري" لدى الشباب التونسي عمومًا والطالبي خصوصًا. فما هي قصة هذا اللباس الأزرق النيلي المتداول في تونس منذ النصف الأول من القرن العشرين؟

بات يلقى لباس "الدنقري" انتشارًا واسعًا بين الشباب في تونس وهو لباس مثقل بدلالاته الأيديولوجية والأنثروبولوجية وقد كان اللباس المفضل لشرائح اجتماعية أو قطاعية معينة

لباس يظهر في تونس ويختفي حسب الظروف التاريخية والاجتماعية لكنّه حيّ لا يموت، وقد عرف "الدنقري" طفرته الذهبية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، حيث كان اللباس المفضل لشرائح اجتماعية أو قطاعية بعينها مثل عملة أرصفة الموانئ والبحّارة والفلاّحة و"الكرارتية" (سائقو عربات الحمار) و"الباندية" (الفتوّة) ومثقفي اليسار التونسي. لم يكن لباسًا لعامة الناس، وقد كان ممنوعًا داخل مؤسسات التعليم وعلى موظفي الدولة، ولكن هو لباس لأشخاص ألمعيين لهم كاريزما في محيطهم عادة.

اقرأ/ي أيضًا: في اليوم الوطني للباس التقليدي.. 8 أزياء تقليدية تونسية مميزة

ثبت أن "الدنقري" من أصول صينية وقد راج خلال الثورة الثقافية الصينية التي قام بها الزعيم الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ في عشرينيات القرن العشرين إبان الإطاحة بالحكم الإمبراطوري، وهو يرمز للتفاني في العمل "من أجل الصين الشعبية الإشتراكية العظمى". وقد راج "الدنقري" في العالم وخاصة في أوروبا الشيوعية ووصل إلى تونس خلال أيام الاستعمار ضمن أطر التّجارة وتبادل السلع مع الصين.

حاول "الترا تونس" الدخول في تفاصيل قصة "الدنقري" وحضوره في تونس وعودته القوية هذه الفترة لدى مختلف الأوساط الاجتماعية:

"الدنقري" رمز للقوة والرجولة.. والنضال الأيديولوجي أيضًا

التقينا الطالب أيوب العسكري الذي يدرس بقسم الفلسفة بكلية 9 أفريل بتونس وهو أيضًا نقابي طلابي، وقد أكد لنا أنّ بعض طلبة اليسار التونسي يرتدون "الدنقري" داخل الجامعة ويصرون على ارتدائه خلال التظاهرات النقابية والسياسية. فـ"الدنقري"، حسب رأيه، هو رمز للنضال الأيديولوجي وإحياء للحركة الشيوعية العالمية، وأضاف أن عديد الطالبات التونسيات يرتدين "الدنقري" وتفخرن بذلك لأنه سليل الثورة الماوية في الصين بالنسبة إليهنّ.

الطالب أيوب العسكري: الدنقري هو رمز للنضال الأيديولوجي وإحياء للحركة الشيوعية العالمية وهو سليل الثورة الماوية

كما التقى "ألترا تونس" بعد جولة في السوق المركزية بالعاصمة المعروف لدى التونسيين بـ"المرشي سنترال" البائع الوحيد الذي يلبس "الدنقري". كان يتغزل بحبات الخوخ المنضّدة بعناية على خشب "النصبة"، وكانت الأزرار القماشية لجمازة "الدنقري" مفتوحة. قال لنا إن الباعة القدامى ممّن لا يتنازلون أبدًا عن كسوة "الدنقري" توفّى أغلبهم، وأضاف أن "المرشي" فقد رونقه مع غياب هذا اللباس لدى الباعة. ويعتبر البائع أن الدنقري هو رمز للرجولة والعمل والجدية والقوة وهو لا يتنازل عن لبسه حتى وإن بلي القماش فحينها يزداد جمالًا وبهاءً، وفقه.

وعبر وساطة أحد الأصدقاء، توجهنا إلى مقهى "علي بابا" بالعاصمة" أين التقينا رضا ولد مجيد وهو "باندي" (فتوّة) يسكن بمدينة أريانة ويعشق لباس "الدنقري" ويلبسه في الحرّ كما في المطر. كان شخصًا لطيفًا وهادئًا، وقد تحدث عن كسوة "الدنقري" بمحبة فائقة فذكر أن والده كان "خضّارًا" و"باندي" شهير بمدينة الكاف وقد ورث عن والده هذا العشق.

اقرأ/ي أيضًا: "الزندالي.. نشيد السجون التونسية".. حفر في ثقافة الهامش

وأفادنا رضا ولد مجيد بأنه يملك مجموعة كاملة من كساوي "الدنقري" وبألوان مختلفة لكن يبقى اللون الأزرق النيلي هو أبهى الألوان بالنسبة إليه، وهو يرتديها حسب المناسبة وكذلك حسب المناخ. وأشار محدثنا أن "الدنقري" يعطي "وهرة لمولاه" (هيبة لصاحبه) خاصة إذا كان معه "زنّار" (الكوفية الفلسطينية).

وأضاف رضا أن البنية الجسدية تتدخل أيضًا في الموضوع إذ ليست الأجساد كلها تتناسب مع "الدنقري" حسب قوله، خاتمًا حديثه معنا بالقول إن هذا اللباس الأزرق هو من أعراف عالم "الباندية" فهو رمز للقوة والفحولة والرجولة والاستبسال في العراك، وذكر أن أشهر "الباندية" الذين يعرفهم ويعرف سيرهم كانوا يرتدون "الدنقري" من أمثال علي شورّب و"الشنوفي" و"القحة".

رضا ولد مجيد: "الدنقري" لا يناسب كل الأجساد وهو من أعراف عالم "الباندية" فهو رمز للقوة والفحولة والرجولة والاستبسال في العراك

وكان لنا أيضًا لقاء في ساحة محمد علي مع المنجي الجويني، وهو معلم مدارس ابتدائية ونقابي يساري، كان يرتدي جمّازة "الدنقري" وقد كانت زرقتها صافية وهو دليل على جدّتها، وتظهر من جيبها الأيسر العلوي علبة سجائر "الكريستال". كان "سي المنجي" فخورًا بلباسه، وقد أكد في حديثه لنا أنّ اليسار في تونس اختار أن يلبس "الدنقري" ليس من باب الأناقة بل لرمزيته قائلًا "الدنقري هو لباس العمال في العالم ونحن دومًا متضامنون مع العمال أينما كانوا".

أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة التونسية رمزي المحواشي: الدنقري بات لباسًا تقليديًا تونسيًا

توجهنا للحديث عن "الدنقري" نحو أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة التونسية رمزي المحواشي الذي أكد أن اللباس والأكل هما من صميم الرصيد الثقافي لأي مجتمع، مشيرًا بأن هناك أكلات أو ألبسة بعينها تتحول إلى رموز لارتباطها بأحداث أو زعامات.

وأفاد أن "الدنقري" صنع من القطن الخاص خصيصًا لعمّال الصين بداية القرن العشرين بمدينة " دنجيري " وكان بأمر من قائد الحزب الشيوعي الصيني وأب الثورة الثقافية الصينية ماو تسي تونغ. ويشير بأن هذه المسائل هي التي تشحن القماش القطني الأزرق البسيط برمزية النضال الأيديولوجي من جهة وبساطة العمال وهدوئهم من جهة ثانية.

أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة التونسية رمزي المحواشي: الدنقري هو جزء من الذاكرة الجمعية التونسية ويجب المحافظة عليه مثل الألبسة التقليدية 

وعن عودته للأسواق وواجهات المحلات التونسية منذ الأشهر الماضية إلى اليوم، اعتبر أستاذ الأنثروبولوجيا لـ"الترا تونس" أن الدنقري هو جزء من الذاكرة الجمعية التونسية والذاكرة الحيّة التي لا تموت قائلًا: "شخصيًا أعتبره لباسًا تقليديًا تونسيًا، فالتونسيون يرتدونه منذ قرن من الزمن وبالتالي وجب المحافظة عليه تماما كالجبّة والبرنوس والكدرون والشاشية والسفساري واللحفة".

ويصادق الأستاذ في الجامعة التونسية على اعتبار أن رمزية الدنقري تكمن في ارتباطه بأزمنة وبأحداث وبشخوص أحيانًا تكون محلية، وأنه يحيل على مجموعة من القيم منها قيم الرجولة والقوة والنضال السياسي والنقابي.

يبقى، في الأثناء، ارتداء لباس "الدنقري" من العادات التونسية الأصيلة التي تتجاوز طفرات الموضة العابرة أو التأثر بشخصيات طبعت الواقع الاجتماعي وعرضتها السينما أو الدراما التلفزية وذلك نحو الارتباط بالتاريخ الثقافي لتونس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

البنية الساحلية والطريزة الذهبية: "إذا البنيّة دبات وحبات اسأل أمها آش خبّات"

صناعة الأواني الخشبية: عادة قديمة وتجارة تزدهر في المواسم الكبرى