لما يقبل الإنسان على الدنيا صارخًا يستقبله الأهل وقد هيؤوا له شيئًا من العناية التي ترافق الرعاية الإلهية. عند ولادتنا، يكون لنا شأن عظيم عند أهالينا وترافق قدومنا طقوسًا تبعث أمل الحياة فينا. كلنا أتى البسيطة وقد أحاطت رموز الحياة بأنفاسنا وتلابيب ثيابنا، وأقحمتنا "القابلة" في صراع ضد الشرور، والسقم بتعابير وتعويذات وترديدات من جنس التحصين والتحسين.
وفي مجتمعنا التونسي التقليدي مهما اختلف الزمان والمكان، شدتنا تقاليد عند استقبال المواليد الجدد وبقيت عادة فينا أن نستهل المولود ذكرًا أو أنثى بطقوس هي حصيلة المخيال الجمعي المتراكم على مدى قرون، مخيال اقترن بثقافتنا المحلية التي نسجتها تعاقب الحضارات.
كلنا أتى البسيطة وقد أحاطت رموز الحياة بأنفاسنا وتلابيب ثيابنا وأقحمتنا "القابلة" في صراع ضد الشرور
ورغم تعدد الروايات عن طقوس استقبال المواليد، فإن محمد سعيد، الباحث في التاريخ الوسيط والتراث بقسم التاريخ بجامعة سوسة الذي التقاه مراسل "الترا تونس"، قد وجد في نص محمد صالح الرزقي (1874 – 1939) في كتابه "الأغاني التونسية" مادة تروي لنا بعمق، وفي مشهد مميز، دور القابلة في الإحاطة بالوالدة والمولود وما يرافقه من مراسم الاستقبال.
"من العادة الجارية أن يجعل تحت كرسي القابلة وقت الطلق إناء فيه مسمار وقرن فلفل حار شائح وشمعة وحقة ووقيد وجراب قماش من حرير أخضر اللون صغير الحجم به موسى، وخيط أحمر اللون طوله نصف ذراع فما دون وشيء من الكمون ويبخر مكان المنافسة بنوع من الخزامى"، هكذا حدثنا الرزقي في كتابه ولا يزال شيء من هذه العادات إلى اليوم قائمًا. ونلاحظ هنا ثلاثية حاضرة في مختلف الأزمان، وهي المولود والأم والقابلة فبِهم تتم أركان الطقوس المشار إليها.
اقرأ/ي أيضًا: بيض وسمك وضرب.. أغرب عادات الزواج في تونس
وقد عقب الباحث محمد سعيد قائلًا: "نحن إزاء طقوس استقبال المولود في المجتمع التقليدي والذي نعنيه بالمجتمع التقليدي هو ذاك الذي يسبق الثورة الصناعية والعلمية، وكانت عملية الوضع تتم في المنزل بحضور القابلة، فنحن إزاء نمط عيش أفرزها المجتمع وتعبر عن مراحل نمو المولود".
ونحن إزاء لحظة المخاض، قد نقف عند مسألة الخلق والولادة في اليوم الأول وهي "اللحظة الفارقة بين منح الحياة وإمكانية الموت وهو ما يعبر عنه في اللهجة التونسية بـ"خلاص الوحل"، وهي لغة تتكلم عما يختلج في الصدور وما يجيش في الأذهان " بتعبير محمد سعيد.
ونحن نعيش لحظة الولادة، توجد مجموعة من العناصر المادية، وهي ذات دلالات رمزية تختزن الوعي الجمعي "فالكرسي أحد وسائل الراحة عند الولادة كما كان يستعمل المسك بالحبل من قبل وكذلك البردعة، أما المسمار فهو يعبر عن القوة ويذهب الحسد، والفلفل بما يحمله من معنى الحرارة والانتصاب وقد أصر الراوي أن يكون شائحًا وحارًا".
قد نقف عند مسألة الخلق والولادة في اليوم الأول وهي اللحظة الفارقة بين منح الحياة وإمكانية الموت وهو ما يعبر عنه في اللهجة التونسية بـ"خلاص الوحل"
وهنا نلاحظ أن الطقوس تصاحب العملية العسيرة، وتحضر لمقاومة الخطر فتكون المقاومة بالعدة المادية والاستئناس بالرموز اللامادية، ولذلك تتآلف جميع العناصر لدفع الألم والشر فيجتمع "الفلفل والكمون والثوم وهي إحالة إلى عناصر المطبخ كما يحيل الوشق والخزامى على البخور وهي من أكسسوارات طقوس الفرح وطرد الأرواح الشريرة، وأما الشمعة فإنها تسرج بالوقيد عند الولادة إيذانًا بالنور والتفاؤل بالخير" حسب تعبير محمد سعيد. وهكذا يولد المولود بعد العسر فتقص سرته بالموسى وتربط بالخيط الأحمر فينطلق نحو الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: "سكّرتك بالشروليّة على كل بنية".. وللفتيان نصيب من التصفيح في تونس
ويذكر محمد صالح الرزقي في كتابه الأغاني "أما الكمون فتمضغه القابلة مضغًا جيدًا ثم ترشه على وجه المولود زاعمة أن الولد يكون بذلك الكمون صاحب حسن في ذلك، ثم إذا كان المولود ذكرًا ذبحوا دجاجة وإذا كان أنثى ذبحوا ديكًا. ودفعًا للعين، يضعون على السرير قشرة بيضة مخططة بالطول خمسة خطوط بالغنج وهو غبار المداخن فتكون معلقة بخيط ومعها خمسة أو سبعة أسنان من الثوم ثم يجعلون بين عين النفساء قطعة مستديرة من الوشق صغيرة جدًا".
ولم تخل هذه الرواية من تضمين دلالات راسخة في المخيال الشعبي للمجتمع التونسي التقليدي فـ"الكمون يتضمن معنى الجمال في اللهجة التونسية وهو من البهارات التي ترمز إلى الحسن ويستعمل ضربًا من الغزل، وهنا نلاحظ بلاغة راقية في توظيف التوابل لصالح المولود" مثلما أشار إليه في التفسير الباحث محمد سعيد.
وقد تتداخل هنا رمزية العدد مع الحيوانات والأشياء المستعملة، وكأننا أمام كون متحرك يصبو نحو الغيب ويتحرك ضمن ثنائيات متضادة فالدجاجة قبالة الديك، وبياض البيض مع سواد الغنج، والخمسة تتوازى مع السبعة. وإلى ذلك أشار الأستاذ محمد سعيد قائلًا: "البيضة تعتبر من أقدم الرموز الدينية وتشير إلى بداية النشء وتحمل معنى الخلق والخصوبة، أما تخطيطها بالأسود فتحمل دلالات الليل والنهار فالبياض مقابل الظلام، وتتدخل رمزية العدد بين خمسة وسبعة لتضفي قدسية الرقم سبعة ورموز التوازن والكمال الإلهي والإنساني في الرقم خمسة".
الكمون يتضمن معنى الجمال في اللهجة التونسية وهو من البهارات التي ترمز إلى الحسن ويستعمل ضربًا من الغزل
ويواصل الرزقي في كتابه الأغاني "ويوم السابع، تكون النفساء قد قامت من سريرها فألبست ثيابًا فاخرة ويستحسن أن تلبس النفساء ثيابًا حمراء أو فيها اللون الأحمر فترفع القابلة المولود بين يديها وتخرج من البيت هي والنفساء على الولولة.. وبيدها سيف قد سلته من غمده وهي "تعشق" (تردد أغنية "العاشق في النبي صليو عليه").. وتضع القابلة المولود على غربال قمح تفاؤلًا بأن يكون الولد فلاحًا أو البنت ذات بعل من أرباب الفلاحة".
يوم السابع، وهو اليوم السابع من تاريخ الولادة، نعيش مشهدًا مسرحيًا فرجويًا امتزجت فيه مظاهر الفرح والبهجة بروح الانطلاق نحو الحياة والتيمن بالعيش اليسير. وهو ما عبر عنه الباحث محمد سعيد مفسرًا دلالات ما جاء في النص قائلًا: "هذه الطقوس تحمل فكرة الحماية والتفاؤل والعيش الرغد والوجاهة والقوة ولها صلة بالفرح من خلال رمزية السيف والغربال، وفي غياب المادي يحضر الرمزي بكثافة".
لا تزال بعض الطقوس متداولة في عدة أسر تونسية ولعل الدلالات والرموز كانت القاسم المشترك الذي جعلها تستمر عبر قرون من الزمن
ولئن ذهب الزمن بمعظم هذه الطقوس في استقبال المواليد الجدد، فإننا لازلنا نرى في بعضها متداولًا في عدة أسر تونسية. ولعل الدلالات والرموز كانت القاسم المشترك الذي جعلها تستمر عبر قرون من الزمن، كما أن كل جهة تختص بطقوس متمايزة عن جهة أخرى حسب ترسخ الثقافات المحلية.
ويبقى "الذكاء البشري هو الذي ينتج الطقوس لتغطية النواقص التي تعرفها غرائز الانسان إذ نحن إزاء بعد تعويضي"، وذلك على النحو الذي ذهب إليه مالينوفسكي وبرونيسلاف في إيجاد تفسيرات مقنعة لوظائف الطقوس.
اقرأ/ي أيضًا:
"كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة
البنية الساحلية والطريزة الذهبية: "إذا البنيّة دبات وحبات اسأل أمها آش خبّات"