18-مايو-2023
قمح حبوب

كل المؤشرات الاقتصادية في تونس تومض بالأحمر وتنذر بخطر انهيار اقتصادي وشيك (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي

 

سنة 1972، قام عالم المناخ الأميركي إدوارد لورنز بمحاضرة بعنوان: "هل تؤدّي رفرفة جناح فراشة في البرازيل إلى إعصار في تكساس؟". طيلة عشرة سنوات، من 1961 إلى 1972، اشتغل إدوارد على تبسيط نظرية ميكانيكا الموائع "نافييه-ستوكس Navier-stokes"، وعبر جملة من التجارب، انتهى إدوارد إلى أن أي تغيير بسيط في الظروف الأولية لأي تجربة، ولو بمقدار 0.0000001، قد يؤدّي إلى تغييرات كلية في النتائج. ومن هنا كانت ولادة فكرة "تأثير الفراشة"، أو ما يسمى فيزيائيًا بالارتباط الشديد للنتائج بالأسباب الأولية: النموذج المؤسس لنظرية الفوضى. 

يوم 14 أفريل/نيسان 2023، في جهة حفوز من ولاية القيروان، توفي لاعب كرة القدم السابق نزار العيساوي متأثرًا بجراحه بعد أن قام بإضرام النار في جسده يوم 10 أفريل/نيسان ذاته، نتيجة اتهامه بالإرهاب من قبل السلط الأمنية، على خلفية شجار جمعه مع أحد تجار الخضار الذي قام بالترفيع في سعر الموز، بعد أن سبق وسعرته الحكومة بـ 5 دينارات للكيلوغرام الواحد.

رغم المأساة المتجذّرة في تونس يواصل قيس سعيّد التعنّت والمكابرة ليقول في لحظة شعبوية "نرفض إملاءات صندوق النقد الدولي وبإمكاننا التعويل على قدراتنا الذاتية"

رغم المأساة المتجذّرة في متن مرثية "القضية التونسية"، يواصل رئيس السلطة السياسية في تونس "قيس سعيّد" التعنّت والمكابرة ليقول في لحظة شعبوية قاصرة بمناسبة ذكرى وفاة الرئيس السابق الحبيب بورقيبة "نرفض إملاءات صندوق النقد الدولي، وبإمكاننا التعويل على قدراتنا الذاتية". لتقفز الحشود القيسية طربًا كلٌّ يغني على هواه: السيادة الغذائية، القدرات الذاتية، الحلول البديلة، الأخوة العربية، المعسكر الشرقي، البريكس (1)... إلى غير ذلك من هلاميات الزمن الغابر. 

 

  • صورة عامة للاقتصاد التونسي: 

على امتداد أكثر من 50 سنة من الانفتاح أو الليبرالية "المُتَوْنَسَة"، ارتكز الاقتصاد التونسي على أربعة ركائز (هشة إلى حد ما): السياحة الكمية الرخيصة، الصناعة التحويلية التصديرية ذات القدرة المضافة المتدنية، الفلاحة الموجهة للتصدير المستنزفة للمياه وقطاع خدماتي محدود نوعيًا من ناحية الجودة والقيمة العلمية.

يعد الاقتصاد التونسي في حالة تبعية شبه مطلقة للخارج إذ تعتمد المعادلة الاقتصادية التونسية على تغطية الواردات وما تحتاجه البلاد من مواد أساسية وكماليات بما تجنيه من عملة صعبة من الصادرات

وهو ما جعل الاقتصاد التونسي مرتبطًا وفي حالة تبعية شبه مطلقة للخارج، إذ تعتمد المعادلة الاقتصادية التونسية على تغطية الواردات وما تحتاجه البلاد من مواد أساسية وكماليات بما تجنيه من عملة صعبة من الصادرات. هذا فضلًا عن التفاوت البين-مناطقي والجهوي الذي ترتب عنه تفاوت اجتماعي وجهوي حاد. 

 

صورة
(المصدر: المعهد الوطني للإحصاء)

 

  • الإنتاج الفلاحي: من لا يزرع... يحصد

من نافل القول ومن البديهي حسب الرسم البياني أعلاه أن الاقتصاد التونسي تطغى عليه الصفة الخدماتية بامتياز، كميًا على الأقل، إذ أن نوعية وجودة هذه الخدمات، ومدى قيمتها التكنولوجية، تطرح أكثر من نقطة الاستفهام ليست موضوع هذا النص.

سجلت نسب الإنتاج الفلاحي ومدى قدرته على تغطية الطلب الداخلي تراجعًا على مدى العقدين الأخيرين مقابل ارتفاع الصادرات الفلاحية، ما يجعل الفلاحة التونسية أمام معضلة تلبية حاجيات السكان الغذائية وتوفير العملة الصعبة 

كنا قد أشرنا إلى أن أحد الخطوط العريضة التي صيغت حولها العملية الاقتصادية التونسية هو "تغطية الواردات بالصادرات". نعرض في الجدول التالي آخر الأرقام حول بعض المنتجات الأساسية ومدى قدرة المنظومة الإنتاجية على تغطيتها: 

المواد 

نسبة الاستهلاك الوطني

نسبة الإنتاج 

نسبة التوريد 

نسبة الاكتفاء الذاتي

السكر  (2)

360 ألف طن

160 ألف طن (93% منها موردة خام ويقع تحويلها في تونس)

200 ألف طن

44 %

القمح الصلب 

12 مليون قنطار (3)

3 مليون طن (تقديرات 2023)

9 مليون طن

25 %

 

 يذكر أن السفارة الأميركية بتونس كانت قد أعلنت عن وصول باخرة بحمولة قدرها 25 ألف طن من القمح الأميركي الصلب "لمساعدة الشعب التونسي في مواجهة نقص الإمدادات الناتج عن الغزو الروسي لأوكرانيا". سجّلت السفارة عبر بلاغها أكثر من نقطة ديبلوماسية أهمها التوصيف السياسي للحرب بين أوكرانيا وروسيا. أثار البلاغ موجهة استياء من المتابعين للشأن العام، بينما اختفت فجأة حمى السيادة الوطنية من على جبين السلطة. 

 

 

من جهة أخرى، باعتبار النمو السكاني الإيجابي للتونسيين وتطور نمط الاستهلاك الوطني كمًّا ونوعًا، سجلت نسب الإنتاج الفلاحي (الموجه للاستهلاك الداخلي) ومدى قدرته على تغطية الطلب الداخلي تراجعًا على مدى العقدين الأخيرين،  مقابل ارتفاع الصادرات الفلاحية، ما يجعل الفلاحة التونسية أمام معضلة تلبية حاجيات السكان الغذائية وتوفير العملة الصعبة في ظل أزمة المالية العمومية الهيكلية و"المستدامة". 

 

صورة
(المصدر: دراسة غذاؤنا-فلاحتنا-سيادتنا (4))

 

كما يظهر من الرسم أعلاه، لم تمر خمسون سنة قبل أن تستنزف أسطورة "تغطية الواردات بالصادرات"، وتستنزف معها الموارد المائية للبلاد عبر زراعات مستنزفة للماء والتربة. على سبيل الذكر، بلغت قيمة صادرات القوارص سنة 17.4 مليون دينار، فيما قام الديوان التونسي للتجارة بتوريد ما قيمته 150 مليون دينار من القهوة سنة 2020. يذكر أن ما تستهلكه برتقالة واحدة من الماء يناهز الـ80 لترًا، في بلد يعاني الجفاف حيث نصيب الفرد أقل من 400 لتر. 

 

  • الطاقة... لمن استطاع إليها سبيلًا؟ 

على مدار السنوات ما بين 2015 و2017، احتج طيف واسع من التونسيين في الشوارع مطالبين بكشف اللثام عن ملف الطاقة والشركات النفطية بالجنوب. ملف لطالما أسال لعاب التونسيين الطامعين في الجنة النفطية. رغم قيام وزير الطاقة في حكومة الحبيب الصيد، منجي مرزوق، بنشر عقود الشركات النفطية، لم تهدأ أفئدة التونسيين، بل تحولت إلى اعتصام الكامور الذي خاضه شباب ولاية تطاوين لمدة أكثر من 3 سنوات (2018-2021)، إلى أن انتهى الفاصل الاحتجاجي بمراوغة حكومية ويأس المعتصمين بعد اعتقال منظمي الاعتصام. وبعد أكثر من تحذير، قررت كل من شركتي إيني وشال، في مارس/آذار 2021، بيع حصصها ومغادرة تونس. 

تعيش تونس على وقع طلب متزايد على الطاقة مقابل النقص المتزايد للاحتياطات وتعمق عجزها الطاقي بنسبة 72% سنة 2022 بالمقارنة مع سنة 2021 بتكلفة بلغت 9.6 مليار دينار

من جهة أخرى، تعيش تونس على وقع طلب متزايد على الطاقة مقابل النقص المتزايد للاحتياطات، حيث بلغ نسبة العجز قرابة الـ 6 ملايين طن من النفط المكافئ سنة 2019. يمثل الغاز الطبيعي 97% من إنتاج الكهرباء، 38% منه فقط إنتاج محلي في تناقص مستمر، في حين يتم استيراد 45% من الغاز الطبيعي الموجه لإنتاج الكهرباء، ولا تتجاوز الطاقات البديلة نسبة 3% أغلبها من مزارع الرياح (5). 

بعد أن كانت في حدود الـ 9% سنة 2000، بلغت نسبة التبعية الطاقية في تونس الـ 54%. "يعود هذا النقص إلى التراجع الكبير في الإنتاج الوطني للمحروقات(6)". في ذات السياق، تجدر الإشارة إلى أن مخزونات تونس انخفضت بنسبة 8% سنة 2022 مقارنة بـ 2021 لتستقر عند عتبة الـ 4.8 ملايين طن من النفط المكافئ، ويتعمق العجز الطاقي بنسبة 72% سنة 2022 (بالمقارنة مع سنة 2021)، بتكلفة بلغت 9.6 مليار دينار، طبعًا "الدوفيز" الذي لا تنتجه مع الأسف "مواردنا الذاتية". 

 

  • أزمة المالية العمومية: باقية وتتمدد  

من خلال لازمة شعبوية، حبّرت الصحف الأجنبية والمحلية ما جاء على لسان قيس سعيّد في ذكرى وفاة الزعيم بورقيبة: "قيس سعيّد يقول لا لإملاءات صندوق النقد الدولي". لا ندري إن كان هو ذاته الذي أصدر مرسومي مالية متتالين 2022 و2023 على فرضية قرض بقيمة 2 مليار دولار، أو حتى اتفاق يكون فاتحة  للأسواق المالية العالمية.

ربما يتناسى قيس سعيّد أو يجهل أن الجزء الطاغي على العجز في الميزانية هو شح الموارد بالعملة الصعبة: إما لسداد الديون السابقة وفوائدها أو توفير احتياجات البلاد من طاقة ومواد أولية والكماليات التي تحول بعضها إلى ضرورات

تعرف المالية العمومية أزمة هيكلية تتعمق سنة بعد سنة وناهز عجزها 11 مليار دينار، أي ما قيمته 7.6% من الناتج الداخلي الخام سنة 2022 (قرابة الـ22% من ميزانية 2023).

 

                                                                    (المصدر: وزارة المالية)

 

في ذات الخطاب المشحون بهرمونات الشعبوية، أشار سعيّد إلى التعويل على القدرات الذاتية، لتنطلق الحشود القيسية كعادتها في التهليل لـ"القرار المبارك". ربما يتناسى سعيّد أو يجهل أن الجزء الطاغي على العجز في الميزانية، وبالتالي سداد الدين العمومي، هو شح الموارد بالعملة الصعبة: إما لسداد الديون السابقة وفوائدها، أو توفير احتياجات البلاد من طاقة ومواد أولية والكماليات التي تحول بعضها إلى ضرورات كالسيارات في ظل تهالك أسطول النقل العمومي وتردي خدماته. تمثّل القروض والهبات الأجنبية النصيب الأكبر من احتياطي العملة الصعبة والذي يقدّر حسب آخر أرقام البنك المركزي بـ 22141 مليون دينار (95 يوم توريد)، تليه تحويلات التونسيين بالخارج التي بلغت قيمتها 9468.4 مليون دينار، ثم السياحة بـ 4200 مليون دينار.

الخطب الجوفاء المثخنة بالعنتريات لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون حلًا للأزمة، وإنما لا بدّ من مراجعة شاملة للبراديغم الاقتصادي التونسي بأيادٍ متمرسة وبقيادة سياسية متبصرة وواقعية مع العمل الفعلي المستمر

لا يتطلب استنتاج الوضع الصعب الذي تمر به البلاد خبرة واسعة في الاقتصاد، إذ أن كل المؤشرات تومض بالأحمر وتنذر بخطر انهيار اقتصادي وشيك، وهو ما تردد على لسان جوزيب بوريل، الناطق باسم الديبلوماسية الأوروبية، وغيره من المراقبين داخليًا وخارجيًا. إلا أن الخطب الجوفاء المثخنة بالعنتريات لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون حلًا للأزمة، وإنما مراجعة عامة وشاملة للبراديغم الاقتصادي التونسي بأيادٍ متمرسة وبقيادة سياسية حكيمة، متبصرة وواقعية، مع العمل الفعلي المستمر، قد تحمل بوادر الانفراج. 

مع الأسف، لا توجد أي ملامح لكون السلطة القائمة قد اهتدت لهذه المفاتيح، بل إن المشهد السياسي يذكر المتابع بمشهد القارب في رائعة المخرج داود عبد السيد، عندما يكون الممثل محمود عبد العزيز، في دور الشيخ حسني الضرير، يوحي للشيخ الضرير أيضًا، بأنه يقوم بجولة في قارب مقيد في الميناء، والشيخ منتش بالفسحة الوهمية، طالبًا التمثل وعدم الابتعاد. 

 

  • المصادر والمراجع: 

(1): تحالف مجموعة الاقتصادات الصاعدة: البرازيل، روسيا، إيران، الصين وجنوب افريقيا

(2): حسب أرقام مدير عام الديوان التونسي للتجارة أثناء برنامج ECO9 على قناة التاسعة بتاريخ 20 سبتمبر 2022. 

(3): أرقام سنة 2022 حسب مدير التدقيق الداخلي نزار العياري خلال مداختله بإذاعة شمس أف أم بتاريخ 5 أوت 2022. 

(4): دراسة: فلاحتنا، غذاؤنا، سيادتنا

(5): ياسمينة الأمين. قطاع الطاقة في تونس: فهم وتحليل من منظور الانتقال العادل. مبادرة الإصلاح العربي. تاريخ الاطلاع 16 أفريل 2023. 

(6): من حوار مصطفى الحداد مع جريدة لابراس بتاريخ: 26 جوان 2022

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"