مقال رأي
مثّل قرار وزير الفلاحة والموارد المائية مؤخرًا باعتماد نظام حصص لتوزيع مياه الشرب، بما يعني عمليًا انقطاع المياه على مختلف المناطق بصفة ترتيبية من الساعة التاسعة ليليًا إلى الرابعة صباحًا، عنوان أزمة المياه في تونس المتراكمة منذ سنوات، والتي احتدّت مع ضعف التساقطات بما أدى لتدني قياسي في مخزون السدود.
بغضّ النظر عن مدى لزوم القرار في ذاته للتعاطي مع الأزمة، ربّما، ومن جانب توعوي بحت، كانت الحاجة لهكذا قرار صادم أمام العموم، باعتبار أن خطاب ترشيد المياه والتحذير من تفاقم الأزمة طيلة السنوات الماضية لم يحقق النتيجة المرجوّة. ولكن هل يدفع المواطن لوحده كلفة هذه الأزمة؟
يخطئ من يحصر معالجة ملف المياه في جانب إجرائي علمي بحت، بل هو يتجاوز ذلك إلى البعد الاقتصادي والتجاري والأيديولوجي على مستوى التشخيص والحلول
لا توجد علاقة ظاهريًا بين أزمة المياه والأزمة السياسية في تونس، إذ من الطبيعي أن عوامل تدني مخزون السدود مثلًا لا تستند لديمقراطية النظام أو سلطويته، إذ تستند لأسباب طبيعية بحتة. بيد أن العلاقة واقعًا ثابتة من بوابة حوكمة إدارة مؤسسات الدولة لملف أزمة المياه ومسؤوليتها السياسية في معالجته، والمقصود كل مؤسسات الدولة المعنية بالملف طيلة السنوات الأخيرة، دون الوقوف حقيقة على السلطة الحالية.
وحقيقة، يخطئ من يحصر معالجة ملف المياه في جانب إجرائي علمي بحت، يتجاوز البعد الاقتصادي والتجاري بل الأيديولوجي على مستوى التشخيص والحلول على حد السواء. مثلًا، يربط نشطاء بيئيون واشتراكيون أزمة المياه بالاستثمار الفلاحي القائم على الترفيع في إنتاجات الخضر والغلال في الأراضي السقوية، وذلك ضمن توجه اقتصادي تصديري بات اليوم في موضع الاتهام في علاقة بإضعاف المائدة المائية بالبلاد. يحذّر بذلك هؤلاء النشطاء بأن تونس تصدّر الماء وليس المنتجات الفلاحية فقط، لتأتي الدعوة لمراجعة المنوال الفلاحي التصديري. نفس المسألة تُثار في مثال الصناعة التصديرية للنسيج.
يربط نشطاء بيئيون أزمة المياه بالاستثمار الفلاحي القائم على الترفيع في إنتاجات الخضر والغلال في الأراضي السقوية، وذلك ضمن توجه اقتصادي تصديري بات اليوم في موضع الاتهام في علاقة بإضعاف المائدة المائية بالبلاد
بعيد الثورة، أبدى الرئيس السابق المنصف المرزوقي اهتمامًا واضحًا، في أكثر من مناسبة، بملف نقص المياه بما بيّن إرادة سياسية علنية للزوم معالجته قبل فوات الأوان، بيد أن ورشة التأسيس الدستوري أبطأت ورشات الإصلاح في عديد القطاعات، وفي مقدّمتها ملف المياه.
لاحقًا، ظلّ هذا الملف منحصرًا في مستوى ما دون اهتمام من أعلى السلطة، أي في مستوى الإدارة القطاعية الإدارية لا الاستراتيجية السياسية. وبات الملف بذلك غير ذي أولوية قصوى، وبالتبعية ظلّ نسق الإصلاحات والمشاريع بطيئًا مقارنة بسرعة الآثار الكارثية للأزمة. إذ يعدّ ملف المياه نموذجًا عن فشل السلطة في معالجة تشاركية، وناجعة، وموحّدة للأزمات المسجّلة في مختلف المجالات بالبلاد. وقد كان عنصر الماء باعتباره عنصرًا حياتيًا ووجوديًا، يستلزم ورشة عمل من بوابة مجلس الأمن القومي.
لا بأس من التذكير، في هذا الجانب، أن من المهام الرئيسية لمجلس الأمن القومي هي "حماية الثروات الطبيعية"، وهو يتولى تقييم التحديات الداخلية وتدابير التعامل مع التهديدات كالتداول في السياسات العامة والاستراتيجيات الوطنية في المجالات المتعلقة بالأمن القومي.
للأسف، غاب ملف المياه عن طاولة مجلس الأمن القومي، والحال أنه يضمّ "نظريًا" لجنة الأمن الغذائي والمياه وهي لجنة قارة يرأسها وزير الفلاحة وتضم في عضويتها 9 وزراء آخرين
للأسف، غاب ملف المياه عن طاولة مجلس الأمن القومي، والحال أنه يضمّ "نظريًا" لجنة الأمن الغذائي والمياه وهي لجنة قارة طبق قرار 30 أكتوبر/تشرين الأول 2017 المنظم للجان المجلس، يرأسها وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري وتضم في عضويتها 9 وزراء آخرين.
على المستوى الحكومي، غلب الاهتمام بمجلة المياه التي تم تقديم مشروعها للبرلمان عام 2019 وظلّت في رفوفه حتى تعليق أعماله، وهو مشروع أثار مخاوف من فتح باب الخوصصة، وبما يعنيه من سلعنة المياه.
وأما فيما يتعلق ببقية المسائل كوضعية السدود، والمجامع المائية، وترميم شبكة توزيع المياه، ظلت عناوين دورية كلما تم طرق ملف أزمة المياه، حبيسة حلول إدارية بحتة، خارج أي أفق استراتيجي معلن وواضح المعالم.
إن ورقة استراتيجية المياه لعام 2050 التي أعدتها وزارة الفلاحة قبل أربع سنوات، كان المفترض أن تمثّل مشروع إنقاذ وطني من بوابة مجلس الأمن القومي، وبما يفترض من اعتمادات مالية استثنائية وتسخير موارد الدولة لتحقيق مشروع الإنقاذ الحياتي، وذلك بدل الإبقاء على هذه الوثيقة مجرّد وثيقة علمية أنتجها الجهاز الإداري بدون رافعة سياسية.
فيما يتعلق بوضعية السدود والمجامع المائية وترميم شبكة توزيع المياه، ظلت عناوين دورية كلما تم طرق ملف أزمة المياه، حبيسة حلول إدارية بحتة وخارج أي أفق استراتيجي
وترتبط أزمة المياه عضويًا بعديد القطاعات والمجالات، لا تنحصر فقط بالأمن الغذائي أو الفلاحي، بل ترتبط، في العمق أيضًا، بالحراك الاجتماعي، بالنظر للاحتجاجات الصيفية الموسمية في المناطق التي تشهد غيابًا للمياه في شهور العام الأشد حرارة.
وهي احتجاجات تبيّن مخاطر أزمة المياه على المستوى المعيشي والحياتي. وإن عدا مشكل شحّ المياه، باتت مسألة الجودة تطرح نفسها بقوّة في السنوات الأخيرة، بعد ملاحظة تردّي جودة الماء الصالح للشراب الذي توفّره الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، وهو ما أدى لارتفاع قياسي في استهلاك المياه المعلّبة.
ففي هذا الجانب، تحتّل تونس المرتبة الرابعة عالميًا في استهلاك هذه المياه بمعدل 2700 مليون لتر عام 2020 بما يزيد عن ثلاثة أضعاف معدل الاستهلاك عام 2010. ويثير هذا النوع من المياه أسئلة مشروعة حول استحواذ شركات تجارية على موائد مائية مقابل معاناة مناطق برمّتها من شح كبير في المياه.
تحتّل تونس المرتبة الرابعة عالميًا في استهلاك المياه المعلبة بمعدل 2700 مليون لتر عام 2020 ويثير هذا النوع من المياه أسئلة مشروعة حول استحواذ شركات تجارية على موائد مائية مقابل معاناة مناطق برمّتها
وإن تردّي جودة الماء الصالح للشراب، وعدم القدرة على توفير المياه المعلّبة بسبب الغلاء، دفع عديد العائلات التونسية، في المقابل، لشراء مياه معلّبة مجهولة المصدر يقع بيعها في الأحياء الشعبية، وهو ما يطرح مسألة الرقابة على جودتها أيضًا.
تعكس بالنهاية أزمة المياه سوء إدارة السلطة لملف استراتيجي حيوي بات اليوم يمثل تهديدًا للأمن القومي، فلم يكن قرار قطع المياه لمدة 7 ساعات يوميًا إلا ناقوس إنذار أخير على مدى استفحال الأزمة الحياتية، في ظل الخشية من تمدّدها.
تعكس بالنهاية أزمة المياه سوء إدارة السلطة لملف استراتيجي حيوي بات اليوم يمثل تهديدًا للأمن القومي، فلم يكن قرار قطع المياه لمدة 7 ساعات يوميًا إلا ناقوس إنذار أخير على مدى استفحال الأزمة
ويظل السؤال، راهنًا، عن مدى استعداد أصحاب القرار السياسي لإيلاء هذا الملف الأولوية القصوى واقعًا وعمليًا، بعيدًا عن الخطابات الجوفاء. إذ أن الدولة التائهة هي الدولة التي لا تقودها قيادة ذات تفكير استراتيجي، وتعمل أجهزتها بدون خط ناظم خاصة في ظلّ مشكل الصلاحيات المشتتة بين الوزارات والقطاعات حول الملف الواحد.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"