29-يوليو-2019

وفاة الباجي خلقت تفاعلًا كبيرًا في تونس وخارجها (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

 

تداولت في بعض مواقع التواصل مؤخرًا صورة لرئيس مجلس النواب و رئيس الجمهورية المؤقت الحالي محمد الناصر وهو يزاول مهامه في أول يوم عمل له في قصر الرئاسة بصفته الجديدة، صورة تلخص في جانب من جوانبها عمق الإرادة والإيمان التونسيين بأهمية مؤسسات الدولة واحترام القانون.

لكن يمكن القول إن الذي رحل عنا يوم الـ25 من جويلية/ تموز 2019 هو أيضًا له فضل في وجود هذه الصورة، أحدهم قال إنه إذا اعتبرنا أن مرحلة الباجي قائد السبسي سيئة في مجملها فيكفيه أنه "لم يقترب من الدستور وتعامل مع ثغراته في حدود الممكن واحترام خيار الشعب في الديمقراطية". لكن الملفت للانتباه أن الرئيس التونسي الراحل كان إلى وقت قريب قبل وفاته رئيسًا عاديًا يزاول مهامه له ما له وعليه ما عليه، لكن وفاته قد أحدثت شيئًا أشبه بالرجة في قلوب التونسيين، صاحب سيارة أجرة كان قد حدثني وكأنه يشتكي همه "أنا لا أتفق مع الباجي في أي شيء.. لكن منذ وفاته شعرت بكآبة غريبة.. وكأني فقدت عزيزًا أعرفه".

هذا المقال لا يمجد رئيس الجمهورية الراحل ولا يحاكمه و إنما يحاول أن يناقش عمق الأسباب التي دفعت آلاف المواطنين إلى الخروج في الحر القائض من أجل وداع رئيسهم، كما يعالج من خلال شخصية السبسي "المثيرة للجدل" أي شخصية للرئيس التونسي قد يحبذها التونسيون.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا كتب الرئيس الراحل عن نفسه وعن عائلته في مذكراته؟


تعودت الشعوب العربية منذ عشرات السنين على صورة قاتمة للرئيس العربي، ذلك الرئيس الذي يتكلم برسمية شديدة ويمشي برسمية شديدة، لا يضحك ولا يتحدث الدارجة ولا يلبس غير البدلات الرسمية. في تونس ومنذ سنة 2014 حاول الباجي قائد السبسي كسر هذه الصورة القاتمة التي لا تزال عالقة في أذهان التونسيين حتى بعد  تسع سنوات من الثورة. 

كسر الباجي هذه الصورة في الخطابات الطويلة، في التصريحات، في التعامل مع الصحافة وحتى مع ضيوف الدولة. مواقف كثيرة وتصريحات غريبة وكلمات قالها السبسي ظلت عالقة في أذهان التونسيين فيها المضحك وفيه المحرج وفيها الذي يحتوي على قدر كبير من الذكاء وكلها كانت لتمرير رسائل. من الرئيس الشيخ.

برهان بسيس لـ"ألترا تونس" (أحد المقربين من الرئيس الراحل): السبسي بحكم مزاجه وسنه بالإضافة إلى زاده المعرفي كان يمثل ظاهرة لافتة لشيخ متقدم في السن

برهان بسيس، أحد المقربين من الرئيس التونسي والقيادي السابق في حزب نداء تونس قال إن السبسي بحكم مزاجه وسنه بالإضافة إلى زاده المعرفي كان يمثل ظاهرة لافتة لشيخ متقدم في السن لا تزال ذاكرته على درجة كبيرة من القوة، برهان أضاف في تصريح لـ"ألترا تونس" أن "الصفات التي تتميز بها شخصية السبسي جعلت منها شخصية ناجحة في أن تنال صفة الرئيس المرح بالإضافة إلى أنها تشكل مبحثًا في عالم العلوم السياسية يمكن أن نجد فيه شخصية رئيس الوزراء البريطاني ونستن تشرشل الذي كان يتميز بأسلوب النكتة في جميع خطاباته".

عرف رئيس الوزراء البريطاني بمزاجه المرح حتى في أحلك فترات بريطانيا، حتى أنه تميز بإطلاق النكت حتى في المناسبات الرسمية وكان يعتمد على الإضحاك في كسب ود نواب مجلس العموم والجماهير حتى أنه في إحدى المرات كان يخطب في البرلمان عن حرية المرأة والقوانين الخاصة بالنساء فحمل على المرأة حملة شعواء فصاحت إحدى الحاضرات "لو كنت زوجي لوضعت لك السم في القهوة". فأجاب فورًا "ولو كنت زوجك لشربته فورًا".

السبسي أيضًا كان يتميز بروح النكتة وقدرة كبيرة على استيعاب الموقف وتدارك الأمر وهي حسب العديد من علماء الاجتماع الشخصية المحبذة لدى التونسيين حتى أنه في إحدى الخطابات أخطأ في اسم الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند ذاكرًا اسم رئيس سابق، صدم الجميع فالتف قائد السبسي إلى الرئيس الفرنسي وقال "أنا أعرف الذين من جيلي" فضحك حينها الرئيس الفرنسي كثيرًا. كما أنه في أحد المؤتمرات الصحفية رن هاتفه فتجاهله، وعندما أصر المتصل، أخرج السبسي هاتفه من جيبه وقال متحدثًا للهاتف "ألا تيأس"، وهو موقف أضحك جميع الصحفيين الحاضرين في القاعة حينها.

اقرأ/ي أيضًا: عن تسمية الأحزاب.. أو مانيفاستو استغلال "تونس"

يفسر بوجمعة الرميلي، القيادي السابق لحزب نداء تونس وأحد المقربين من السبسي أيضًا، أن خبرة الباجي قائد السبسي وتجربته الكبيرة في الدولة التونسية جعلت مهمته الرئاسية سهلة، وفق تقديره. وأضاف في تصريح لـ"ألترا تونس"، أن "خبرة الباجي أعطت له أريحية فكرية وسياسية في الحكم"، إضافة إلى أنه يتعامل مع جهاز عمل فيه لثلاث فترات ما يجعله خال من الأسرار بالنسبة له إضافة إلى نقطة القوة الأخرى وهي أنه اقتنع بفكرة الديمقراطية".

بوجمعة الرميلي (القيادي السابق لحزب نداء تونس) لـ"ألترا تونس": خبرة الباجي قائد السبسي وتجربته الكبيرة في الدولة التونسية جعلت مهمته الرئاسية سهلة

وفاة الباجي خلقت تفاعلًا كبيرًا في تونس وخارجها ووحدت مشاعر الحزن لدى جميع ألوان الطيف السياسي ودفعت بآلاف المواطنين إلى الخروج في الحر الشديد والوقوف على جنبات الطريق خلال جنازته لوداعه. هذا التفاعل اندهش له البعض وفسرع آخرون بـ"أن هناك فرقًا بين رئيس مفروض على الشعب ورئيس منتخب" في مقارنة بين قائد السبسي وبن علي سابقًا. لكن بسيس له تفسير آخر ويرى أن "المجتمع التونسي رغم تجربة الانتقال الديمقراطي إلا أنه لا يزال متأثرًا بثقافة الأب وسلطة الأب والنموذج الباتريمونيالي للرئيس". وتابع قائلًا "الباجي جسد للتونسيين كل خصائص الأب، رجل طاعن في السن، له علامات الأب، انفلات في الخطاب وغير ذلك".

الباجي الذي كان في كل تصريحاته مثيرًا للجدل اتجه عقب فوزه في الانتخابات في سنة 2014 إلى بناء توافق للحكم، وخلقت وفاته وحدة جعلت جنازته تعج بخصومه السياسيين فموكب الـتأبين مثلًا حضر فيه كل من الرئيس الأسبق فؤاد المبزع والرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي، إضافة إلى رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على تونس بعد الثورة وهم حمادي الجبالي، علي العريض، مهدي جمعة، الحبيب الصيد ويوسف الشاهد.

فؤاد غربالي (باحث في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": الباجي قائد السبسي شخصية منغرسة أنثروبولجيًا في مجتمعها

في هذا السياق، فؤاد غربالي، الباحث في علم الاجتماع، يقول لـ"ألترا تونس" إنه "لا يمكن مع حالة التعاطف والحزن التي شهدناها في تونس أن نقول إن هناك شخصًا كان يشغل منصب رئيس جمهورية قد توفي، بل إن رمزًا من رموز تونس قد توفي"، مبينًا أن "أحد نقاط قوة الباجي أنه لخص مراحل كثيرة في الدولة التونسية مرحلة الاستعمار، مرحلة بناء الدولة، مرحلة الثورة، كما يمكن القول إنه شخصية منغرسة أنثروبولجيًا في مجتمعها، يحفظ القرآن والشعر، يتقن اللغة العربية بطريقة جيدة، يتكلم الفرنسية بطلاقة ويمتلك شخصية قوية بكل تناقضاتها وهذه صفات يشترك فيها نسبة كبيرة من التونسيين ما دفع بهم إلى مناداته "بجبوج" و هو نوع من التعبير عن الحب".

 

اقرأ/ي أيضًا:

قائمات النهضة البرلمانية.. الغنوشي على رأس "تونس 1" وصدام بين التنفيذي والجهات

ماهي مواقف الكتل النيابية من منشور" منع النقاب" بالمؤسسات العمومية؟