22-أغسطس-2023
التكرار في اللهجة التونسية

وزير مالية سابق: حالة الترقب والغموض والضبابیة وعدم الثقة في المستقبل ھي عنوان المرحلة (صورة توضيحية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

جاءت أرقام المعھد الوطني للإحصاء حول تراجع نسبة نمو الاقتصاد التونسي إلى 0.6% لتؤكد غیاب سیاسات عمومیة قادرة على انتشال الوضع الاقتصادي من حالة الركود وبوادر الانكماش التقني، وفي الحقیقة ما أتى به معھد الإحصاء لیس إلا ترجمة للوضع الذي یعیشه المواطن التونسي في الآونة الأخیرة من ارتفاع غیر مسبوق في الأسعار وفقدان المواد الأساسية أو ندرتھا وغیاب معالجة واقعیة للمشاكل الیومیة على مستوى الخدمات العمومیة، وإذا كانت الظرفیة الدولیة مساھمة في ھذه الوضعیة وخاصة تعطیل آلة الإنتاج في البلاد، إلا أن سیاسة السلطة التنفیذیة للرئیس أو للحكومة لا تعطي مساحة كافیة لنظرة مستقبلية موحدة على مستوى الخطاب أو فاعلة على مستوى الإنجاز.

أرقام المعھد الوطني للإحصاء حول تراجع نسبة نمو الاقتصاد التونسي إلى 0.6% جاءت لتؤكد غیاب سیاسات عمومیة قادرة على انتشال الوضع الاقتصادي من حالة الركود وبوادر الانكماش

یقول الخبير المحاسب والمختص في الاقتصاد أنیس الوھابي في تصریح لـ"الترا تونس"، إن نسبة النمو في الثلاثي الثاني لم تكن متوقعة بالنظر إلى المؤشرات التي ترجّح تحقیق نسبة نمو في حدود 1.8%، وھو انخفاض یمكن اعتباره مفاجئًا، فحتى النسبة المتوقعة ضعیفة، ویمكن وصفھا بنسبة كارثیة، وفق قوله، "فھناك قطاعات تعرف نموًا مثل قطاع النسیج وقطاع المیكانیك وھناك قطاعات تعرف تراجعًا كبیرًا مثل قطاع الفلاحة وقطاع الصناعات الغذائیة بالإضافة إلى المواد المنجمية والبترول والغاز والفسفاط، وھذا الانخفاض تواصل منذ السنة الفارطة بحدّة أكبر، والمعروف أن تعطل إنتاج الفسفاط راجع لعدم قدرة الدولة على حل المشاكل في الحوض المنجمي، أما الغاز والبترول فھناك مشاكل كارثیة قادمة فحتى 30% تقريبًا التي كنا ننتجھا تتجه إلى التراجع بسبب التوقف عن الاستكشاف والبحث منذ سنوات عدیدة.. بإمكانيات الاستكشاف التي نملكها الیوم، ستكون نتائجھا ومردودیتھا بعد عشر سنوات". 

ویضیف الوھابي أن "المشكل لیس في تحقیق انخفاض في النمو، فمن المنتظر أن یكون الثلاثي الثالث أحسن حالًا بفضل عائدات السياحة لكن المشكل في التوجه العام وھو الأھم في الاقتصاد، فإذا لم تر الحكومة النقص في إنتاج المحروقات والتحكم في المیزان التجاري نتیجة التعقیدات الإداریة في التورید، فإن المستقبل سیكون أسوأ" وفق تقديره.

أنیس الوھابي لـ"الترا تونس": حتى إذا حقق الاقتصاد التونسي نسبة نمو في حدود 2%، سیعتبر في مرحلة انكماش، لأنه نمو لا یحقق الثروة

  • مخاوف الانكماش

وحول دخول الاقتصاد التونسي في مرحلة انكماش یقول الوھابي إنه حتى مع تحقیق نسبة نمو في حدود 2%، یعتبر الاقتصاد في مرحلة انكماش، أي أنه نمو لا یحقق الثروة، فعند الزیادة مثلًا في الأجور یمكن أن یصل النمو إلى 2% المتوقعة منذ بدایة السنة، مشیرًا إلى أن الاقتصاد یشتغل منذ سنوات بمحرك نمو واحد ھو الاستھلاك، وتم استعماله بشكل مفرط في مصاريف الدولة أكثر من مداخیلھا، وھو ما یمكن وصفه بالمقاربة التونسیة التي تشغل محركات النمو الأخرى عبر الاستھلاك الذي بلغ منتھاه لأن المالیة العمومیة عاجزة الیوم.

أما المحرك الثاني وھو التصدیر فقد ظل یشتغل بشكل إيجابي مستغلًا العودة بعد أزمة فيروس كورونا، أما المحرك الثالث أي الاستثمار، فیمكن اعتباره معطلًا تمامًا، فالوضع العام لا یشجع على الاستثمار والأرقام تقول إنه في حدود 10% بالمقارنة مع الناتج الداخلي الخام، وھذا إشكال كبیر، وفق قوله، مضيفًا: "كي تستعید نسق الاستثمار علیك أن توفر مناخًا لذلك ویجب أن تكون الدولة قادرة على إنجاز استثمارات كبرى وتكون جالبة للاستثمارات الأجنبیة، وكل ھذه العوامل غیر متوفرة وھو ما یثیر المخاوف" حسب تعبیره.

أنیس الوھابي لـ"الترا تونس": لا سیاسة عمومیة واضحة تنطق بھا الحكومة وھو ما یرجح أن تتواصل إلى آخر السنة مشاكل التزود بالمواد الأساسیة ومشاكل تردي الخدمات العمومیة

ویشدد الوھابي على أن أكبر مشكل الیوم ھو غیاب الرؤیة الواضحة، فالضبابیة تخیّم على مستقبل الاقتصاد التونسي فلا نعرف كیف سیتم تغطیة عجز المیزانیة وما ھي سیاسة الدولة الاقتصادیة لاستعادة النمو وما ھي أولویات الدولة؟ فالخطاب السیاسي إما لا یتكلم بالمرة أو أنه یتحدث عن الشركات الأھلیة والاقتصاد الاجتماعي والتضامني ومقاومة الفساد وأنه يمكن عن طریقھما إخراج تونس من الأزمة، فلیس ھناك سیاسة عمومیة واضحة تنطق بھا الحكومة وھو ما یرجح أن تتواصل إلى آخر السنة مشاكل التزود بالمواد الأساسیة ومشاكل تردي الخدمات العمومیة، أما على المدى المتوسط والبعید فالوضع یبدو غیر واضح تمامًا وفق تقدیره.

تعاني تونس منذ مدة أزمة اقتصادية تأخذ في كل مرة أبعادًا مختلفة نتیجة لعجز السلطة في كل مرة عن إدخال اصلاحات تعید الثقة إلى الفاعلین الاقتصادیین وتحرك مستویات الإنتاج الاستهلاك، وزاد في تعقید الوضع غیاب أي تصور للحكومة الحالیة سواء من خلال تجربة رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن التي وضعت بیضھا كله في سلة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لضمان تمویلات للمیزانیة، الاتفاق الذي أصبح على ما یبدو من الماضي، أو من خلال التعيين الجدید لأحمد الحشاني الذي لا یعرف عنه تجارب سابقة في مجال الاقتصاد أو المالیة والأھم من كل ھذا، عدم تقدیم برنامجه لمعالجة المشاكل المتراكمة التي یعاني منھا الاقتصاد التونسي. في المقابل، یتحدث رئیس الجمھوریة عن التعویل على الذات وتعطیل مفتعل من الإدارة للمشاریع وربما ذھابه ضمنیًا في التخلي عن التعاون مع صندوق النقد الدولي على الأقل في المرحلة الحالیة.

أنیس الوھابي لـ"الترا تونس": أكبر مشكل الیوم ھو غیاب الرؤیة الواضحة، فالضبابیة تخیّم على مستقبل الاقتصاد التونسي فلا نعرف كیف سیتم تغطیة عجز المیزانیة وما ھي سیاسة الدولة الاقتصادیة لاستعادة النمو؟

  • الثقة المفقودة

في ھذا السیاق، یقول وزیر المالیة السابق سلیم بسباس في تصریح لـ"الترا تونس"، إن الإطار العام السیاسي لدیه دور في استعادة الثقة، فالأداء الاقتصادي إجمالًا مبنيّ على استباق المستقبل، وكلما كان ھناك أمل لدى الفاعلین الاقتصادیین، كان ھناك إقبال على الاستثمار وخاصة تفعیل مشاریع الاستثمار، مشیرًا إلى أن ما نشھده الیوم هو تردد لدى الفاعلین الاقتصادیین للقیام باستثمارات ھامة یمكن أن تدفع النمو. كما أن استرجاع عافیة المالیة العمومیة یمكّن الدولة من استعادة دورھا الفعال في الاستثمارات العمومیة، فعادة ما یتبع القطاع الخاص الدولة، لأن ركود الاستثمارات العامة یلیه آلیًا ركود في الاستثمارات الخاصة وحتى الخارجیة. مشددًا على ضرورة توضیح وجھة تونس حول طریقة استرجاع التوازنات المالیة وتأثیرھا المباشر على مستوى الطلب العمومي وعلى مستوى الإیفاء بالتزاماتھا وتعھداتھا لدى المستثمرین الخواص، فحالة الترقب والغموض والضبابیة وعدم الثقة في المستقبل ھي عنوان المرحلة، وفق تعبیره.

سلیم بسباس (وزیر مالیة السابق) لـ"الترا تونس": هناك تردد لدى الفاعلین الاقتصادیین للقیام باستثمارات ھامة یمكن أن تدفع النمو لأن ركود الاستثمارات العامة یلیه آلیًا ركود في الاستثمارات الخاصة

وحول آفاق الانكماش والركود، یضیف سلیم بسباس أن الأداء الاقتصادي مرتبط بالنمو فالاقتصاد التونسي انكمش بصفة حادة سنة 2020 أثناء أزمة كوفید 19 وھو إلى حد الآن لم یستدرك ما خسره في تلك الفترة "حیث تنقصنا نقطة نمو للوصول إلى مستوى 2019، وكلما كان ھناك تآكل للثروة الاقتصادیة، كانت ھناك مؤشرات سلبیة على مستوى التضخم ذلك أن كمیة الأموال تكون أكبر من إنتاج الخیرات وھو ما یعیشه المواطن من تراجع قدرته الشرائیة وحتى بالنسبة إلى تنافسیة المؤسسة".

وأضاف الوزير السابق أن ھذا التراجع سوف یؤثر على أداء الدینار في المعاملات مقارنة بأسعار الصرف العالمیة، وسیترتب عنھا تأثیر على التوازنات المالیة الخارجیة من میزان الدفوعات والمیزان التجاري، فنسبة النمو تبقى ھي المؤشر المركزي الذي یعكس الصورة الحقیقیة للاقتصاد، فكلما تحسن النمو، أثر ذلك إیجابًا على المؤشرات الاقتصادیة الأخرى، وإذا تواصلت النسبة إلى آخر السنة فستكون أقل من التقدیرات التي جاءت في المیزان الاقتصادي أي 1.8% وأقل من النسبة المقدرة من قبل صندوق النقد الدولي وھي 1.6% حسب تقديره.

سلیم بسباس لـ"الترا تونس": تراجع نسبة النمو سیؤثر على أداء الدینار في المعاملات مقارنة بأسعار الصرف العالمیة، وسیترتب عنھ تأثیر على التوازنات المالیة الخارجیة من میزان الدفوعات والمیزان التجاري

وھذا الطرح، تتفق حوله كل التحالیل الاقتصادیة التي تتقاطع في مجملھا حول عجز الاقتصاد التونسي في المرحلة السابقة والحالیة على إنتاج الثروة نتیجة تراجع قطاعات ھامة واستراتیجیة مثل الفلاحة التي بدا تأثیرھا واضحًا على ارتفاع أسعار عدید المواد الاستھلاكیة، مقابل تردد الدولة في اتخاذ خیارات واضحة على مستوى معالجة أزمة میزانیة الدولة إما بتوقیع اتفاق مع صندوق النقد الدولي أو البحث عن بدائل إلغائھا تمامًا كتصريح وزیر الاقتصاد سمیر سعیّد حين قال بصریح العبارة إنه لا بدیل عن صندوق النقد الدولي. إنّ ربط انتعاشة المالیة العمومیة بالنمو الاقتصادي یدعم قدرات الدولة في التورید وخاصة نیل ثقة الفاعلین الدولیین في قدرة البلاد على الإیفاء بالتزاماتھا، غیر أن تواصل انحدار الاقتصاد یطرح أسئلة حارقة حول مدى قدرة المجتمع التونسي على تحمل حالة الغلاء وتردي الخدمات العمومية ومدى نجاح روایة السلطة التنفیذیة في لإقناعه بالمؤامرة التي تحاك ضده بعیدًا عن القراءة العقلانیة.