04-ديسمبر-2019

تتعدّد الروايات المحكية حول إنشاء قرية "الزريبة العليا" في زغوان (محمد أمين العباسي)

 

تعتبر قرية "الزريبة العليا" بولاية زغوان فسيفساءً التقت فيها الحضارات والثقافات على مرّ الزمان لتترك لهذه القرية موروثًا ثقافيًا ماديًا ورمزيًا نُحت على الرقعة الجغرافية للقرية، ونقش على جدرانها صور الحياة الدينيّة والمعماريّة والتّاريخيّة والاجتماعية. فما سرّ هذه القرية؟ وكيف ساهم الزمان والفضاء في تشكيل ملامحها الثقافيّة؟

اقرأ/ي أيضًا: كسرى.. زهرة الصخور الفاتنة التي تشكو الإهمال

بناء "الزريبة العليا" وقصة الإخوة الثلاث

بداية حسب تعريف المعهد الوطني للتراث، تعني كلمة "الزريبة" التحويطة أو المنطقة المسوّرة والصحن المكشوف "الحوش". ويرى عمر بالهادي، باحث في مجال التهيئة العمرانية والحضرية، أنّ علوّية القرية لها رمزيّة خاصّة إذ تدلّ على الواعز الدفاعي للموضع لدى البربر الذّين أنشأوا القرية، واختاروا التوطّن في قمّة التلّ للدفاع عن أنفسهم من الأخطار الخارجية، وهو ما نجده في كل القرى البربرية شمالًا وجنوبًا.

تذكر الروايات أنّ تأسيس قرى "الزريبة العليا" و"تكرونة" وجرادو" يعود إلى ثلاثة أخوة قدموا من المغرب الأقصى أسّس كل واحد منهم قرية في قمة من قمم المرتفعات الجبلية التي تعتبر تواصلًا طبيعيًا لجبل زغوان

تعمقنا أكثر في البحث لنكتشف ما تقوله الروايات التاريخيّة في تشييد قرية "الزريبة العليا"، فالتقينا الباحثة مريم المرزوقي التي روت أنّ تأسيس القرية ارتبط بمثيلاتها في نفس المجال الجغرافي أي قريتي "تكرونة" و"جرادو"، مبينة أن الروايات المتداولة تذكر أنّ تأسيس هذه القرى يعود إلى ثلاثة أخوة قدموا من المغرب الأقصى، أسّس كل واحد منهم قرية في قمة من قمم المرتفعات الجبلية التي تعتبر تواصلًا طبيعيًا لجبل زغوان.

حسب المعهد الوطني للتراث، يعود التواجد البشري في "الزريبة العليا" و"جرادو" و"تكرونة" إلى العهد اللوبي، إذ تؤكد الآثار المكتشفة بالمنطقة تتالي الحضارات عليها كالبربرية والبونية والرومانية والبيزنطية ثم العربية ونذكر منها فدان الزنان وبئر سيدي بلحسن الشاذلي وبئر القليعة والقصور وحنايا عين الباطرية وحمام الزريبة الذي ارتقت في الحقبة الرومانية إلى بلدية وتحصل مواطنوها على لقب مواطن لروما لتشبعهم بالحضارة الرومانية، وفق ذات المصدر.

 تعني كلمة "الزريبة" التحويطة أو المنطقة المسوّرة (زاهر كمون)

 

ويرجح جل المؤرخين، وفق المعهد أيضًا، ميلاد قرية الزريبة العليا إلى الغزو الروماني للبلاد التونسية أو إلى القرن الحادي عشر أثناء الزحف الهلالي على البلاد التونسية ويستدلون في ذلك إلى عادة البربر في الالتجاء إلى أعالي الجبال للفرار من الأجانب الغزاة عبر "قرى ملاجئ".

وتفيد الذاكرة الشعبية بأن إنشاء قرية الزريبة العليا قد يعود الى القرن السابع عشر عن طريق 3 أخوة قدموا من الساقية الحمراء من بلاد المغرب واستقروا في 3 مواقع جبلية مختلفة الزريبة وجرادو وتكرونة وابتنوا 3 بيوت فوق قممها وجعلوا لغة التواصل فيما بينهم بواسطة الدخان ولونه للتبليغ عن مكروه أو طارئ أو فرح. وفي رواية أخرى، اُنشأت القرية من قبل بعض القبائل القادمة من الساقية الحمراء وبلاد المغرب الأقصى مثل منصور وبن علي ومبارك والحاج حسين و قبائل قادمة من المغرب مثل البديوي والحمارنة، وذلك دائمًا وفق ما طالعناه في موقع المعهد الوطني للتراث.

توافد حضارات عديدة على القرية

وقد توافدت على هذه القرية، العديد من الحضارات، وعرف مجالها تتالي ذات الحضارات التي مرّت على البلاد التونسية حيث يعود تاريخ التوطن في هذا المجال إلى عصور ما قبل التاريخ وتعتبر الأدوات المصنوعة من الصوّان شواهد على تواجد الإنسان في هذه القرية وناحيتها. كما تواصل الحضور البشري منذ فجر التّاريخ، وهو كشفت عنه الأبحاث الأثرية من مقابر لوبية-بونية في كامل مجال جبل زغوان.

عرف المجال استقرار مجموعات من القبائل العربية والبدوية كأولاد سعيد وأولاد رياح في نهاية العصر الوسيط وبداية العصر الحديث الذين استقروا بالسهول المحاذية لمرتفعات الجبل

وتواصل التوطن البشري خلال العصر القرطاجي والروماني ليكون "حمام الزريبة"، أهم أثر في فترة الحضور الروماني بالبلاد التونسية. وتقول الباحثة مريم المرزوقي في أطروحتها: "لم تأت المصادر العربية التي تعرضت إلى فترة الفتوحات العربية الإسلامية لإفريقية على ذكر قرية الزريبة خلال القرون الأولى للعصر الوسيط. تعود بدايات ذكر هذه القرى في المصادر إلى العصر الحفصي الذي شهد حركية سكانية ووفود عدة قبائل لتعمير هذا المجال والمجالات الجبلية بشكل عام".

 "حمام الزريبة" هو أهم أثر في فترة الحضور الروماني بالبلاد التونسية (زاهر كمون)

 

وبالنسبة لمتساكني القرية، تذهب المرزوقي إلى أنّ تعمير هذا المجال الجبلي تمّ بواسطة مجموعات قبلية بربرية أمازيغية منذ العصور القديمة، وتواصل حضورهم وتدعّم بواسطة هجرات متتالية خلال العصر الوسيط خاصة خلال العصر الحفصي الذي عرف هجرات قبل أمازيغية/بربرية (مثل جبل نفوسة وجبل مطماطة). كما عرف هذا المجال استقرار مجموعات من القبائل العربية والبدوية كأولاد سعيد وأولاد رياح في نهاية العصر الوسيط وبداية العصر الحديث الذين استقروا بالسهول المحاذية لمرتفعات الجبل.

اقرأ/ي أيضًا: الإرث الأمازيغي في نابل.. عن الفخار وسرّ قوة "النابلية"

المكوّن المعماري والثقافي في "الزريبة العليا"

يدل نمط عيش متساكني قرية "الزريبة العليا"، على المكوّنات الثقافيّة الموجودة، ويتكوّن النسيج المعماري من مكوّنات طبيعيّة متمثلة في الطابع البربري في البناء، حيث تلتصق المساكن ببعضها كأنّها حصن متين وجدار منيع ضدّ الأعداء. وتحتوي على وحدات اقتصادية متنوعة ومنشآت مائيّة، ومسجد جامع، وزاوية، ومزارات تدور حولها الحياة الثقافية والاجتماعية لمتساكني القرية لتأوي هذه المعالم الأنشطة الدينية والروحية والاجتماعية.

استغلّ البربر المنشآت المائية القريبة من القرية من منابع وعيون مائية في أنشطتهم الاقتصادية وحياتهم اليوميّة مثل بئر سيدي بلحسن الشاذلي، وعين حمام الزريبة وعين الصابون

فبالنسبة للطابع المعماري، تتميز هذه القرية المعلقة في أعلى الجبل، حسب الباحث نوري بوخشيم، بطابعها الريفي وهي شبيهة بالقلعة الحصينة حيث يشكل موقعها مرصدًا حقيقيًا لجبال زغوان وخليج الحمامات والسهول المحيطة بمنطقتي زغوان والنفيضة أزقتها الصغيرة المبلطة التي تلتوي حول البيوت المتراصة والمتلاصقة بتدرج حيث تبدو وكأنها محفورة في الصخور. ويتحدث، في أطروحته التي اطلعنا عليها، على اعتماد الأهالي على الاستغلال المحكم للعناصر والمكونات الطبيعية للمكان في بناء مساكنهم كالحجارة والجير والرمل وتبليط أنهج القرية، وفق قوله.

أمّأ بالنسبة للأنشطة الاقتصادية، فهي تنقسم إلى وحدات زراعية وتجارية مثل زارعة القمح، والشعير، وتربية النحل والماعز ويتمثل النشاط الاقتصادي الأشهر في القرية في صناعة الحصير والحلفاء وقد كانت تزوّد العاصمة بالأحصرة في القرنين 18 و19. واستغلّ البربر المنشآت المائية القريبة من القرية من منابع وعيون مائية في أنشطتهم الاقتصادية وحياتهم اليوميّة مثل بئر سيدي بلحسن الشاذلي، وعين حمام الزريبة وعين الصابون.

وارتبط نمط الحياة بالقرية بالاحتياجات الأساسية، أي بالمقومات الأساسيّة للعيش إذ يوجد في وسط قرية الزريبة مسجد جامع يعود إلى القرن 17 وكتاتيب، ومقهى، ومتاجر ومقام زاوية يُنسب إلى سيدي عبد القادر الجيلاني شُيّدت خلال نهاية القرن 19.

 تحتوي الزاوية على كتّاب لتعليم الصبية (زاهر كمون)

 

وتذكر الباحثة في التراث مريم المرزوقي لـ"ألترا تونس" أنّ توثيق تاريخ بناء الزاوية باعتبارها معلمًا تاريخيًا تمّ بواسطة نقيشة موجودة إلى اليوم، مبينة أن مريديها ينتمون إلى الطريقة القادرية التّي انتشرت بالبلاد التونسية خلال العصر الحديث. وتحتوي الزاوية على كتّاب لتعليم الصبية وهي تجمع بالتالي بين دور التديّن الشّعبي والجانب التعليمي على حدّ قولها.

ويوجد أيضًا خارج القرية بعض المزارات أهمّها مزار سيدي إمحمد الفارسي، ومزار سيدي مفرج، ومزار سيدي الغرابلي، ومزار سيدي عبد المؤمن التي ذُكرت في مدونة القرى والمعالم التي دوّنها طلبة المدرسة الحربية بباردو خلال الربع الثاني من القرن 19.

لا شكّ أنّ الصورة التي تظل في أذهاننا عندما نتحدّث عن قرية "الزريبة العليا" هي الملامح الجغرافية والمجالية والمعمارية والدينيّة والاجتماعية التّي تكونت على امتداد قرون عبر مختلف الحضارات. ولنا أن نتساءل في الأخير: أما آن الاستثمار في الموروث الثقافي وصيانة الموقع ومعامله مهما كانت بساطتها وقدمها وتوظيفها بالخصوص في المجال السياحي؟

 

المراجع:

  • الموقع الإلكتروني للمعهد الوطني للتراث.
  • مريم المرزوقي، القرى المتطفلة في منطقة جبل زغوان: التخطيط والتحضر والعمارة، أطروحة دكتوراه في علوم التراث، 2019.
  • مريم المرزوقي، دراسة أثرية لقرية على قمة تل تكرونة، رسالة ماجستير في علوم التراث، 2013.
  • نوري بوخشيم، التخطيط الحضري والعمارة في جبل مطماطة، رسالة دكتوراه في علوم التراث، 2011.
  • محمد بن عثمان الحشائشي، العادات والتقاليد التونسية، تحقيق الجيلاني ابن الحاج يحيى، دار سراس للنشر، ط 1، 1994 وط 2، 1996.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جولة في رحاب تستور وعين تونقة ودقة: حينما تبوح حجارة المكان بأسرار التاريخ

مكثر.. هل تبقى المعالم الأثرية شاهدة على حضارات مرت من هنا؟