في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 الماضي أصدرت محكمة المحاسبات تقريرها الخاص بتمويلات الحملات الانتخابية الرئاسية والتشريعية لسنة 2019 وتمويل الأحزاب. وكغيره من التقارير أبرز وجود العديد من الإخلالات والتجاوزات، لا سيما فيما يتعلّق بتمويل الحملة الانتخابية، وعدم الإفصاح عن مصادر التمويل، واستعمال أموال مشبوهة غير مصرّح بها في الحملات الانتخابية. الأمر الذي يستوجب تنفيذ العقوبات التي أقرّها القانون الانتخابي.
العديد من الأحزاب والجمعيات ترى أنّ مثل تلك الانتهاكات ترقى إلى مستوى الجريمة، وتقضي بضرورة تسليط عقوبات ونزع صفة النائب عن العشرات من النواب الحاليين. كما طالبت العديد من الأحزاب والمنظمات بالتسريع في النظر في المخالفات التي ضبطتها محكمة المحاسبات في تقريرها، وعدم التباطؤ في المتابعة القضائية. أو أنّه لا فائدة أو جدوى من إصدار تقارير تكشف جرائم، ثم لا تقع محاسبة مرتكبيها خاصة مع وجود عدّة دعاوى سابقة تقدمت إلى النيابة العمومية تتعلق بتجاوزات كبرى لعدّة سياسيين وأحزاب خلال الحملات الانتخابية السابقة وإلى اليوم لا نتيجة لها.
العديد من الأحزاب والجمعيات ترى أنّ هناك انتهاكات مسجلة ترقى إلى مستوى الجريمة، وتقضي بضرورة تسليط عقوبات ونزع صفة النائب عن العشرات من النواب الحاليين
تجاوزات مالية كبيرة
وتعمل محكمة المحاسبات أولًا على التأكد من أنّ كل الأفراد المترشحين أو القائمات المترشحة قد أودعوا الحسابات الخاصة بحملاتهم خلال الآجال القانونيّة التي تمّ تحديدها بـ45 يومًا انطلاقًا من تاريخ الإعلان عن النتائج النهائية. ثم التأكد من مصداقية المعطيات الواردة في الحسابات الموجودة، والتثبت من المعلومات المسجلة في الموارد والنفقات.
وقد كشفت المحكمة خلال عمليتها الرقابية حول انتخابات 2019 أنّ 347 قائمة مرشحة للتشريعية لم تُقدّم حساباتها، ولم تلتزم بمبدأ الشفافية الذي أقرّه القانون الانتخابي، كما لم تلتزم 23 قائمة تشريعية بنشر مختصر لحساباتها بجريدة يومية، وينسحب الأمر ذاته على 8 مرشحين للانتخابات الرئاسية.
محكمة المحاسبات: أكثر من 100 قائمة لم تلتزم بضوابط مسك الحساب، و13 قائمة لم تصرح ببعض الأنشطة، و51 قائمة لم تودع موارد نقدية في الحسابات البنكية، و17 قائمة لم تقدم كشوفاتها البنكية
وبيّنت القاضية فضيلة القرقوري خلال الندوة الصحفية لتقديم التقرير، أن هذه المخالفات تستوجب تنفيذ عقوبات أقرّها القانون الانتخابي، مشيرةً إلى أنّ المحكمة قد شرعت في إعداد تقارير ختم التحقيق بخصوص 203 قائمة لم تقدم حساباتها وتم إصدار 107 قرارات ابتدائية بشأن تسليط عقوبة مالية على القائمات الانتخابية التي لم تلتزم بالإيداع .
كما كشفت محكمة المحاسبات أنّ أكثر من 100 قائمة لم تلتزم بضوابط مسك الحساب، و13 قائمة لم تصرح ببعض الأنشطة، و51 قائمة لم تودع موارد نقدية في الحسابات البنكية، و17 قائمة لم تقدم كشوفات بنكية تغطي كل العمليات التي مرت بالحساب البنكي.
كما أن المرشح للانتخابات الرئاسية نبيل القروي أبرم عقدًا مع مؤسسة أجنبية بقيمة 2.85 مليون دينار، وتم التأكد من تحويل 427.5 ألف دينار منها إلى حساب بالخارج غير مصرح به لدى البنك المركزي لزوجته، تم الإنفاق منه على الحملة الانتخابية. إلى جانب العديد من التجاوزات الأخرى التي ارتكبتها مجموعة من الأحزاب على مستوى الدعاية الحزبية خلال الحملات الانتخابية.
اقرأ/ي أيضًا: مراقبة تمويل الأحزاب.. الملف الشائك
وقد أعلنت جملة من الأحزاب، في بيان مشترك لها، اعتزامها تقديم قضية عدلية كرد فعل عمّا جاء في تقرير دائرة المحاسبات من خروقات فادحة شابت العملية الانتخابية، لتتبّع كلّ ما سيكشف عنه البحث.
وقد شمل البيان كلًّا من حركة "تونس إلى الأمام" و"حزب العمال" و"الحزب الوطني الديموقراطي الاشتراكي" و"حزب القطب" و"التيار الشعبي" و"اتحاد القوى الشبابية" و"حزب حركة البعث" و"الاتحاد العام لطلبة تونس" و"اللجنة الوطنية لمناضلي اليسار"، ومجموعة من المستقلين.
أعلنت جملة من الأحزاب اعتزامها تقديم قضية عدلية كرد فعل عمّا جاء في تقرير دائرة المحاسبات من خروقات فادحة شابت العملية الانتخابية
كما انتقدت هذه الأحزاب والشخصيات الوطنية "صمت منظومة الحكم والنيابة العمومية حيال تقرير دائرة المحاسبات، بمّا يؤكّد وفق البيان، تورّط المنظومة الحالية ومحاولتها التستر على الجريمة الانتخابية التي تعرّض لها الشعب التونسي والتي تظهر نتائجها وأهدافها ما وصلت إليه البلاد من فساد. مذكرة بأنّ تقارير سابقة كشفت بدورها عن مصادر الأموال الضّخمة التي صرفت والمنتفعين بها. واعتبرت أن هذه الفضيحة الانتخابية تعد انتهاكاً للسيادة الوطنية، وتهديداً للأمن القومي لتونس، علاوة على ما فيها من تزييف لإرادة الشعب وتعفين للديموقراطية في تونس على محدوديتها وهشاشتها.
وبيّنت أنّ "التدخل الخارجي والتمويل والدّعم الإعلامي والمالي اللامحدود الذي تحصّلت عليه أحزاب وشخصيات بعينها من شبكات ولوبيات خارجية، غايته تحقيق أهداف استراتيجية لدول ولوبيات وأجهزة مخابرات في تونس، من خلال تصعيد هذه الجماعات والأحزاب والشخصيات التي أوصلت البلاد إلى الإفلاس وستؤدي قريباً إلى الوصاية الأجنبية.
ودعت ذات الأحزاب والشخصيات الوطنية، الموقعة على البيان، كلّ القوى الديموقراطية ومكونات المجتمع المدني والجمعيات ذات الصلة بمراقبة الانتخابات إلى التحرك بجدية إزاء هذه "الفضيحة/الجريمة"، واتخاذ ما يلزم من القرارات السياسية والإجراءات القضائية والعملية.
وقد دعا العديد من النشطاء النيابة العامة إلى التحرك بشكل عاجل لتتبع المخالفين للقانون الانتخابي وقانون الأحزاب. خاصة وأنّ تقرير محكمة المحاسبات صدر سنة بعد إعلان النتائج النهائية للانتخابات. كما أنّ القانون الانتخابي اقتضى سقوط بعض الجرائم الانتخابية بالتقادم إثر انقضاء ثلاث سنوات من تاريخ إعلان النتائج النهائية للانتخابات.
وقد أفادت القاضية بمحكمة المحاسبات فضيلة القرقوري، أنّ الدوائر القضائية المختصة التابعة لمحكمة المحاسبات والتي لا تقل عن 14 دائرة، تعهدت بالقضايا المتعلقة بالمخالفات المرتكبة خلال الحملات الانتخابية لاستحقاقات 2019، انطلاقًا من مخرجات تقرير المحكمة بخصوص تمويل تلك الحملات.
وأوضحت، في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية)، أن الدوائر القضائية المختصة التابعة لمحكمة المحاسبات، تتولى إعداد تقرير ختم التحقيق في المخالفات المالية خلال الحملة الانتخابية وتوجيه مراسلة في الغرض للجهة المعنية سواء كان حزبًا أو قائمة ائتلافية أو مترشحًا.
اقرأ/ي أيضًا: بين الخطايا والسجن.. تعرّف على تفاصيل المخالفات الانتخابية
وأشارت، في هذا الخصوص، إلى الصعوبات التي تواجهها المحكمة أثناء عملية التبليغ، ذلك أن عديد المراسلات تعود لعدم دقة عنوان المعني أو تغيير محل سكناه، فضلًا عن رفض البعض الآخر استلام المراسلة بما يُطيل آجال التقاضي، مؤكدة ضرورة اطّلاع الجهة المعنية على فحوى التقرير والإجابة عنه في ظرف شهرين.
وبخصوص الدعوات إلى تنفيذ مخرجات تقرير محكمة المحاسبات حول المخالفات المسجلة أثناء الحملة الانتخابية، بينت القاضية فضيلة القرقوري أن المحكمة ملزمة باحترام آجال التقاضي المنصوص عليها في القانون الانتخابي، مجددة الدعوة إلى اختصار هذه الآجال بالنسبة للقضاء المالي والقضاء العدلي.
دعا العديد من النشطاء النيابة العامة إلى التحرك بشكل عاجل لتتبع المخالفين للقانون الانتخابي وقانون الأحزاب، خاصة وأنّ تقرير محكمة المحاسبات صدر سنة بعد إعلان النتائج النهائية للانتخابات
من جهته، كتب فاروق بوعسكر، قاضٍ باحث ونائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، أنّ "القضاء الجزائي الانتخابي في تونس بقي يراوح مكانه بسبب بطء الإجراءات الذي انعكس سلبًا على تأخر صدور الأحكام الباتة والنهائية والرادعة للمخالفات الانتخابية الخطيرة".
وتابع في ذات السياق: "أصبح الإحساس بعدم العقاب هو المهيمن في المادة الانتخابية خاصة في بعض الجرائم الخطيرة على غرار جريمة الإشهار السياسي والقيام بالدعاية الانتخابية بالإدارة والمؤسسات العمومية والتربوية والجامعية ودور العبادة، وخرق الصمت الانتخابي، وبث ونشر نتائج سبر الآراء خلال الفترة الانتخابية، وتقديم التبرعات النقدية أو العينية قصد التأثير على الناخب، وتدليس التزكيات في مطالب الترشح للانتخابات الرئاسية".
كما أضاف بوعسكر أن " التفكير يتّجه في هذا الإطار نحو إرساء نظام تقاضٍ خاص بالحملة الانتخابية بآجال تتماشى مع خصوصية المسار الانتخابي وإسناد صفة مأموري الضابطة العدلية لأعوان مراقبة الحملة بصريح عبارة القانون الانتخابي، وما يترتب عن ذلك من تمتيع المحاضر التي يحررونها بالحجية القانونية بعد تلقيهم التكوين الضروري لذلك تحت إشراف قضاة النيابة العمومية، وإحداث خلية للفصل السريع في الجرائم الانتخابية طيلة المسار الانتخابي وخاصة في بعض المسائل التوقيفية على غرار شبهات تدليس التزكيات التي يتوقف عليها البت في الترشحات للانتخابات الرئاسية".
اقرأ/ي أيضًا: لماذا لم يقع حلّ الأحزاب التي لم تكشف مصادر تمويلاتها؟
رابح الخرايفي، الباحث في القانون الدستوري وعضو الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية، أفاد من جهته لـ"الترا تونس" بأنّ "تصريح النيابة العمومية ممثلة في المحكمة الابتدائية صرّحت بالقول إنّه "لم يقع إشعارنا". يعني دائرة المحاسبات وفق القانون ينبغي أن تحيل نسخة من التقرير إلى النيابة العمومية في القطب القضائي".
رابح الخرايفي لـ"الترا تونس": يكمن المشكل في عدم وجود جدية من أي طرف يدعو إلى مكافحة الفساد أو إلى تطهير الساحة السياسية والانتخابية، سواء الهيئات أو المنظمات، وحتى النيابة العمومية في حد ذاتها متقاعسة
وتابع القول: "النيابة حسب تصريحها لم تتلقَّ نسخة من التقرير. وبالتالي فإن المحكمة تقاعست ولم تنجز المحمول عليها"، مستطردًا أن "لا أحزاب ولا جمعيات قدّمت شكوى، يعني كل ذلك بقي مجرد كلام. وذلك ناجم عن جهل بإجراءات القانون الجزائي".
وأردف الخرايفي، في ذات الصدد، أن "المشكل يكمن في عدم وجود جدية من أي طرف يدعو إلى مكافحة الفساد أو إلى تطهير الساحة السياسية والانتخابية، سواء الهيئات أو المنظمات، وحتى النيابة العمومية في حد ذاتها متقاعسة، لأنّ القانون يخول لها أن تثير الدعوى من تلقاء نفسها"، مرجحًا وجود "تقاعس وخوف وتردد، أو جهل أو ربما هناك منتفعون من عدم التقاضي"، وفق تقديره.
كما أضاف أنّ "آجال سقوط الدعوى مقدّرة بثلاث سنوات. فعلى الأقل، الأحزاب المدانة والأشخاص المدانون يمنعون من الترشح مجددًا. والنائب الذي يدان يُحرم مستقبلًا من الترشح لأي انتخابات"، مستدركًا القول إنه "من غير الممكن اليوم سحب عضوية نواب، لأنّ ذلك سيفضي إلى انتخابات سابقة لأوانها، على اعتبار أنّه إذا تمّت الإدانة فإنّها لن تشمل الأفراد فقط بل الحزب برمته".
وتابع القول: "وإذا تمت إدانة شخص من الحزب الذي قام بتجاوزات، لن يتم تعويض مكانه بالبرلمان بشخص آخر من نفس الحزب المدان، لأنّ المشكل يتعلّق بالحزب برمته، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى انتخابات سابقة لأوانها وهذا غير ممكن لأنّ الدولة غير جاهزة سياسيًا ولا جاهزة ماليًا"، مضيفًا: "على الاقل إذا تمت إدانة الأحزاب أو أفراد في بعض الأحزاب يقع حرمان تلك الأفراد مستقبلًا من الترشح وتدقيق أكثر في تلك الأحزاب التي ارتكبت تجاوزات، أي أن المسألة تتعلقّ بالمستقبل بالأساس وليس بالوقت الحالي".
اقرأ/ي أيضًا:
ماذا كشفت محكمة المحاسبات بعد مراقبتها لحملتيْ سعيّد والقروي في انتخابات 2019؟
محكمة المحاسبات وانتخابات 2019: رصد للتمويل المُقنّع عبر الجمعيات