يفرض القانون الانتخابي في تونس ضرورة التزام الحملات الانتخابية بجملة من الاجراءات والضوابط لعلّ أهمها شفافية مصادر التمويل وطرق صرف الأموال المرصودة لها. وأناط إلى البنك المركزي مهمّة الإشراف على عملية فتح الحسابات البنكية، واتخاذ الاجراءات اللازمة بمعية وزارة المالية بما يحول دون التمويل الأجنبي للانتخابات.
ورغم ذلك، تسجل الهيئات الرقابية خلال مراقبتها للحملات الانتخابية لا سيما التشريعية جملة من الخروقات أهمها عدم التزام الأحزاب بإيداع تصاريحها المالية في الآجال، أو ثبوت تلقي تمويلات أجنبية مجهولة المصدر أو تمويلات مُقنّعة عبر الجمعيات. وهو ما أثبتته محكمة المحاسبات إثر رقابتها للحسابات المالية ووثائق الإثبات لـ 1159 قائمة أودعت حساباتها في الآجال القانونية وذلك من أصل 1506 قائمة ترشحت للانتخابات التشريعية لسنة 2019.
أكد تقرير محكمة المحاسبات حول رقابة انتخابات 2019 توظيف العمل الجمعياتي لفائدة الحملات الانتخابية سواء في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية
ودائمًا ما تخصّص محكمة المحاسبات في أغلب تقاريرها الرقابية جزءًا متعلقًا بتداخل المال الجمعياتي في العمل السياسي وفي العملية الانتخابية، مع الإشارة إلى تنديد عديد الأحزاب بتوظيف العمل الجمعياتي لغايات انتخابية باعتباره تحايلًا على الناخبين ومحاولة للتلاعب بخياراتهم، مع التشديد أن هذه الظاهرة لا تضمن تكافؤ الفرص بين أحزاب تلتزم بالقانون وأخرى يتقاطع عملها مع العمل الجمعياتي.
اقرأ/ي أيضًا: مراقبة تمويل الأحزاب.. الملف الشائك
ويمنع الفصل الرابع على الجمعيات في المرسوم المنظم لها (المرسوم 88 لسنة 2011) "أن تجمع الأموال لدعم أحزاب سياسية أو مرشحين مستقلين إلى انتخابات وطنية أو جهوية أو محلية أو أن تقدم لهم الدعم المادي". ونصّ الفصل الثامن من نفس المرسوم على أنه "لا يمكن أن يكون مؤسّسو ومسيّرو الجمعيّة ممن يضطلعون بمسؤوليات ضمن الهياكل المركزيّة المسيّرة للأحزاب السياسية".
ودائمًا ما توصي محكمة المحاسبات بضرورة اعتماد التدابير الكفيلة بتلافي مخاطر الترويج المباشر وغير المباشر من الجمعيات للمترشحين أو الأحزاب خلال مختلف المحطات الانتخابية.
نبيل القروي و"عيش تونسي".. الجمعيات في خدمة الحملات
توصلت المحكمة خلال عملية الرقابة على انتخابات 2019 من خلال مقارنة البيانات التي تحصلت عليها من مركز "إفادة" بين أعضاء الهيئة المديرة للجمعيات وقوائم أعضاء القائمات التشريعية إلى وجود 400 مترشحًا للانتخابات التشريعية ينتمون إلى هياكل تسيير جمعيات وما يمكن أن ينجر عن ذلك من تداخل بين العمل الجمعياتي والعمل السياسي، على النحو المسجّل، مثلًا، لحالة قوائم ائتلاف "عيش تونسي" المرتبطة بجمعية بنفس الاسم المُحدثة عام 2018.
أكدت محكمة المحاسبات تسجيل تمويلات أجنبية مجهولة المصدر محوّلة إلى جمعية "خليل تونس" التي شارك في أنشطتها المترشح للرئاسيات نبيل القروي
وذكرت المحكمة أنّها تولت توجيه استبيان بتاريخ 24 مارس/أذار 2020، إلى 64 جمعية تم اختيارها على أساس مبالغ التمويلات الأجنبية التي تحصلت عليها في إطار برامج التعاون الدولي، خلال الفترة الممتدة بين 2015 و2019 ، قصد الوقوف على مدى التزامها بأحكام مرسوم الجمعيات والقانون الانتخابي. ولكن قامت 30 جمعية فقط بالإجابة على استبيان المحكمة، في حين امتنعت ثلاث جمعيات عن الإجابة. وتبيّن أن 13 جمعية تحصلت على تمويلات أجنبية تطورت مبالغها بين سنتي 2017 و2019 وارتفعت مواردها الأجنبية من 9.165 ألف دينار إلى 19.862 ألف دينار.
وذكر التقرير أن المترشح للانتخابات الرئاسية نبيل القروي، شارك في عدد من أنشطة جمعية "خليل تونس" التي روج لها عبر برنامج تلفزي بقناة "نسمة" الخاصة، مبينّة أن مشاركة مترشح للانتخابات الرئاسية في إنجاز الأعمال الخيرية من شأنه أن يخفي حملة انتخابية سابقة لأوانها لفائدته.
وأضاف أيضًا أنه تم الوقوف على تمويلات أجنبية مجهولة المصدر محوّلة إلى جمعية "خليل تونس" التي شارك في أنشطتها المترشح نبيل القروي عن طريق منصة Eurogiro، وذلك في غياب أي تنصيصات تتعلق بهوية المانح. وبلغت هذه التمويلات خلال سنوات 2017 و2018 و2019 ما قدره على التوالي 21.097 ألف دينار و57.955 ألف دينار و20.587 ألف دينار، بما يخالف أحكام الفصل 99 من قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال.
أرقام حول التداخل بين الجمعيات والأحزاب في انتخابات 2014
بالعودة لانتخابات 2014، وهي الأولى بعد إصدار الدستور، كشفت محكمة المحاسبات، وقتها، أنّ حجم التحويلات لفائدة الجمعيات خلال الفترة من جوان إلى سبتمبر 2014 بلغ 8.075 ألف دينار مقابل 3.879 خلال نفس الفترة لسنة 2013. وشهدت سنة 2014 تكوين 1292 جمعية مقابل 1745 خلال 2013، ولم يواكب تطور عدد الجمعيات وحجم تمويلها تدعيم الرقابة عليها. وسجلت المحكمة عدم تقيد بعض الجمعيات بأحكام المرسوم عدد 88 خصوصًا الإفصاح عن المساعدات الأجنبية. كما رصدت وجود عدد من المرشحين للانتخابات واصلوا مباشرة مهامهم كرؤساء جمعيات خلال الفترة الانتخابية.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا لم يقع حلّ الأحزاب التي لم تكشف مصادر تمويلاتها؟
من جهتها، أفادت الإدارة العامة للجمعيات والأحزاب أن 282 جمعية فقط من ضمن ما يزيد عن 18 ألف جمعية التزمت بواجب نشر المعلومات المتعلقة بمصادر تمويلها، وفق ما ورد في تقرير محكمة المحاسبات. ولم يقع إعلام الإدارة المذكورة وذلك رغم توفر معطيات لدى مصالح الديوانة حول 96 عملية توريد مُنجزة عام 2014 في شكل هبات أجنبية لفائدة جمعيات بقيمة إجمالية قدرها 793.843 ألف دينار.
كما تولت محكمة المحاسبات إجراء رقابة على العمليات المالية للحسابات البنكية لعدد من الجمعيات التي تلقت تمويلًا أجنبيًا خلال عام 2014 للتأكد من مدى التزامها بأحكام الفصل الرابع من المرسوم عدد 88 الذي يحجر على الجمعيات جمع الأموال لدعم الأحزاب أو المترشحين المستقلين.
ماهي توصيات محكمة المحاسبات؟
جدّدت محكمة المحاسبات، في تقريرها الأخير، تأكيدها ضرورة إيلاء أهمية خاصة لمسألة حوكمة الجمعيات التي تتحصل على موارد أجنبية والرقابة عليها، بما يضمن مشروعية مواردها وحسن استعمالها في الأهداف المخصصة لها، وتفادي التداخل المباشر وغير المباشر بين الحياة الجمعياتية والحياة السياسية.
أكدت محكمة المحاسبات ضرورة إيلاء أهمية خاصة لمسألة حوكمة الجمعيات التي تتحصل على موارد أجنبية والرقابة عليها
كما أكدت مجددًا ضرورة أن يتضمن القانون الانتخابي والنصوص القانونية التي تنظم الحياة السياسية والحياة الجمعياتية أحكامًا من شأنها أن تضمن الفصل بين الجانبين، حتى ينأى كلّ منهما عن كلّ ما من شأنه أن يشوب تصرفه من تحصيل موارد وتأدية نفقات إلى أعمال غير شرعية.
ويظلّ السؤال بالنهاية عن مآلات الخروقات التي سجلتها محكمة المحاسبات، وبالخصوص إنفاذ القانون عبر إتمام التحقيقات اللازمة وتطبيق العقوبات الواردة في القوانين ذات العلاقة ومنها بالخصوص القانون الانتخابي.
اقرأ/ي أيضًا: