في صبيحة الأحد والإثنين لمّا كانت خيوط الشمس تبزغ بين الجدران وتتخلل الأنهج والأحياء تنكشف آثار النيران في الأحياء والأزقة والطرقات في أنحاء عديدة من المدن، وتندثر هنا وهناك مخلفات الحجارة وتنبعث في الأرجاء آثار الدخان وتتخلل أنوفنا رائحة الغاز المسيل للدموع، كانت الجموع تتساءل عما أشعل شهر جانفي/يناير البارد.
وكانت أمواج الحجاج تتلاطم بين مؤيد ومستنكر، وبين مستكين ومستهجن، وبين صوت صامت وآخر صائح، وانقسم القوم في التوصيف فهذا يردف عبارة شغب والآخر يقول احتجاج.
أمام المقرات الأمنية تتجمع الأمهات باكيات والرجال في حيرة بعد أن تم الاحتفاظ بأبنائهم ممن شاركوا في الأحداث تحت ستار الليل. ويتكرر المشهد هنا وهناك في أنحاء عديدة، والتبس المجرم بالبريء واختلط الحابل بالنابل فكان الضغط لأيام ثلاث شديدة على البلاد.
في مدينة سوسة الساحلية اندلعت شرارة التحركات الليلية بمنطقة سويس سيدي عبد الحميد في ليل مظلم بارد فتسلح شباب بالحجارة والعصيّ في مشهد شبيه بأحداث ما بعد مباراة كرة قدم
وفي مدينة سوسة الساحلية اندلعت شرارة التحركات الليلية بمنطقة سويس سيدي عبد الحميد في ليل مظلم بارد فتسلح شباب بالحجارة والعصيّ في مشهد شبيه بأحداث ما بعد مباراة كرة قدم، وتوسعت في ليال موالية في محيط الملعب الأولمبي المغلق منذ سنة لإعادة البناء والصيانة لتشمل حي بوحسينة وحومة الوادي وكوشة البيليك والقلعة الصغرى.
اقرأ/ي أيضًا: الأحياء الشعبية التونسية: على هامش الدولة (1/2)
وتطوّر الأمر ليلة السبت ليقع اقتحام فضاء تجاري خاص بحومة الوادي ونهب محتوياته، وتم بالتوازي مع ذلك خلع مؤسسة بنكية واتلاف محتوياتها، ممّا دفع الليلة الموالية ( ليلة الأحد) إلى ارتفاع وتيرة التحركات في كل من ولايتي سوسة والمنستير لتشمل كل من القلعة الكبرى وطبلبة وقصر هلال والوردانين وجمّال وأحياء بمدينة المنستير. وشهدت هذه المناطق خاصة عمليات كرّ وفرّ وإيقافات في صفوف شباب تتراوح أعمارهم بين 14 و21 سنة.
وكما اخترقت أصوات الألعاب النارية والصياح والتصفير صمت الليل، تعالت فوهات قاذفات القنابل المسيلة للدموع لتفريق الحشود الغاضبة وكسرت السكون الصيحات المتعالية للمواطنين في شرفات المنازل، داعين إلى التهدئة والكفّ عن الفوضى العارمة.
كانت محاور الأحداث في جل الأماكن تجمع بين شباب أغلبه من القصّر في مواجهة قوات أمنية لضبط النظام وحصر الاحتجاجات وحماية المنشآت
وتنقل مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام من هنا وهناك هذه المظاهر وتشتّتت المواقف حسب ما أملته الخلفيات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية المختلفة. لكن هناك إجماعًا على أن تخريب المنشآت واقتحام المستودعات البلدية قد شوّه كل جميل في المدن.
كانت محاور الأحداث في جل الأماكن تجمع بين شباب أغلبه من القصّر في مواجهة قوات أمنية لضبط النظام وحصر الاحتجاجات وحماية المنشآت، وبين هؤلاء وأولئك تتعالى الأصوات خلف الحواسيب وفي المنابر الإعلامية لتبرير ما يحدث أو تجريمه.
في ولاية المنستير، أفادت وكالة الجمهورية أنها أعطت الإذن بالاحتفاظ ليلة الأحد بـ78 شخصًا، منهم 5 أشخاص احتُفظ بهم من أجل جرائم حق عام لا علاقة لها بالأحداث الحاصلة بذلك التاريخ، في حين احتُفظ بالبقية من أجل ارتكابهم جرائم خطيرة مثل محاولة القتل العمد نتيجة إلقاء الزجاجات الحارقة على عون أمن قد أصيب بإصابات بالغة الخطورة، إضافة إلى جرائم الاعتداء المدبر على الجولان ورمي المواد الصلبة على المباني والسرقة وخرق حضر الجولان في حالة طوارئ وخرق تدابير الحجر الصحي والإضرار عمدًا بملك الغير .
وقد أكد مساعد وكيل الجمهورية المكلف بالاستمرار أن الاحتفاظ طال فئات عمرية مختلفة تتراوح بين 14 سنة و25 سنة ثلثهم من الأطفال، علمًا وأن وكيل الجمهورية بالمنستير قد أعطى تعليماته بعدم الاحتفاظ بالأطفال وبضرورة استدعاء أوليائهم وتسليمهم لهم.
كما شدد على أن الأطفال المحتفظ بهم قد ضبطوا بحالة تلبس في جرائم خطيرة ولم يحضر أولياؤهم، وتعذّر تسليمهم وسيقع تقديمهم للعدالة للمحاكمة وفق مانسب لهم من جرائم وطبق ما تفرضه مجلة حماية الطفل في أسرع الآجال .
اقرأ/ي أيضًا: الأحياء الشعبية التونسية: على هامش الدولة (2/2)
كما أضافت وكالة الجمهورية بالمنستير أن عدد الأذون بالاحتفاظ ليوم السبت قد بلغ 17 شخصًا فقط أغلبهم شاركوا في الوقائع وضُبِطوا بحالة تلبس وسيقع تقديم الجميع للعدالة بعد استكمال الأبحاث الأولية مع مراعاة آجال الاحتفاظ المنصوص عليها بالفصل 85 من مجلة الإجراءات الجزائية.
أما في سوسة فقد تجاوز عدد المحتفظ بهم 180 شخصًا حسب تصريح جابر الغنيمي الناطق الرسمي بالمحكمة الابتدائية بسوسة 1، وقد طالت الإيقافات شبانًا من عدة مدن بالولاية.
حاولنا التقصّي أكثر حول ما جدّ من أحداث وتحركات ليلية، فكان لـ"الترا تونس" لقاء مع الناشط بالمجتمع المدني سفيان الفقي فرج الذي تجشم مخاطر الصدامات الليلية ليعاين ما حصل في مدينة القلعة الكبرى من ولاية سوسة ويقدم تحليله الاجتماعي لما حدث هناك قائلًا: "من منطلق الواجب والفضول قمت بتغطية الأحداث وطمأنة المواطنين القابعين بين جدران منازلهم، وقد مكنتني تجربتي في المجتمع المدني ومهنتي كمدرس من إتقان فن الاستماع إلى الناس والتواصل معهم في شتى الحالات ومكنتني تلك المهارات من التواصل مع هذا الشباب الذي يمكن توصيفه بـ"الغاضب" و"المبادر بالتصعيد" ولا يمكن لي وصفهم بالمحتجين استنادًا إلى الشهادات التي أخذتها منهم رغم درجة التشنج التي شهدتها بينهم".
سفيان الفقي (ناشط بالمجتمع المدني): خروج عدد من الشباب للشارع ليلًا هو خروج غير هادف وغير مبني على مطالب، جاء نتيجة الكبت والضغط الاجتماعيين
وواصل سفيان الفقي قائلًا: "الشهادات التي جمعتها تتلخص في أن هذا الخروج للشارع خروج غير هادف وغير مبني على مطالب، جاء نتيجة الكبت والضغط الاجتماعيين.
ويضيف لـ"الترا تونس": سألت أحدهم "لماذا تحدث الشغب؟" فيجيب "نحب قانون الزطلة يتنحى وما نراش ضرورة في دخول الشاب للحبس" ويقول آخر: "أنا أمارس مهنة الوشم ولا أرى بدًّا من إقرار الحجر الصحي الشامل".
واستدرك الناشط بالمجتمع المدني القول إن: "المشترك بينهم هو النقمة الشديدة على الوحدات الأمنية والرغبة الجامحة في مواجهتها ، و قد لاحظنا في القلعة الكبرى أن هؤلاء الشبان لم يقتحموا منشآت اقتصادية أو مباني خاصة أو عامة خلال ليلتي السبت والأحد الفارطين. و هذا حسب رأيي يستحق دراسة اجتماعية معمقة. كما وجب تحليل الأحداث في المدن المجاورة حالة بحالة. فالخروج بدافع التصادم مع الأمن لا غير وممارسة فعل الصدام والتصعيد لابد من أن يؤخذ بعين الاعتبار".
اقرأ/ي أيضًا: حي التضامن.. بصيص نور خافت وسط ظلمة التهميش
وأضاف محدث "الترا تونس": "التصعيد صدر من حيّ سيدي دردور في اتجاه مركز البريد ومنطقة "القصر" (حي وسط المدينة). و قد رافقت هذه المظاهر دعوات للكف عن الشغب من العقلاء في أحياء المدينة الذين حاولوا بشتى الوسائل منع انتشار عمليات قطع الطرق كما قام العديد من الأهالي حراسة المحلات التجارية من الخلع والسلب والنهب".
سفيان الفقي: المشترك بين المتظاهرين هو النقمة الشديدة على الوحدات الأمنية والرغبة الجامحة في مواجهتها
ويتابع سفيان القول إن "الدوافع النفسية لممارسة العنف لابد من أن تتم دراستها بشكل معمق"، معتبرًا أن "ما ساهم في هذا التصعيد بعض الأخطاء الأمنية في التعامل مع هذه المظاهر من بينها الإطلاق العشوائي للقنابل المسيلة للدموع في الأحياء وتضرر بعض المنازل من ذلك"، ومنوهًا بأن المعالجة الأمنية لم تكن في الليلة الثانية كسابقتها إذ اتسمت بضبط النفس"، وفق تقديره.
في المقابل، لا تزال المواقف حول الأحداث الأخيرة تتواتر من منظمات حقوقية وناشطين، فيما صدر الموقف الرسمي متأخرًا، إثر اجتماع رئيس الحكومة مع القيادات الأمنية العليا لوزارة الداخلية، الذي أكد من خلاله هشام المشيشي رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالنيابة أن "أعمال النّهب والسرقة والاعتداءات على الممتكات الخاصة والعامة لا تمت بصلة للتّحركات الاحتجاجية، والتعبيرات السلمية التي يكفلها الدستور والتي نتفهّمها ونتعامل معها بالحوار الجاد والبحث، بالتعاون مع الشركاء الاجتماعيين، عن الحلول الكفيلة بالاستجابة لتطلّعات التونسيين".
وشجب مشيشي كل دعوات الفوضى التي تروج على صفحات التواصل الاجتماعي لبث الفوضى والاعتداء على المؤسسات الدستورية، مؤكّدًا أنه ستتم مجابهتها والتصدي لها عبر القانون"، حسب تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا: