مقال رأي
أجساد نحيلة ومتوثبة ليافعين ومراهقين وشباب "بكابيشات" داكنة وجينزات زرقاء وأحذية رياضية ملونة تنتفض مع مساءات الشتاء الباردة من رحم العشوائيات وضواحي العاصمة والمدن التونسية الكبرى والقرى البعيدة الأكثر فقرًا والأكثر زحمة والأكثر همًّا والأكثر هشاشة.
أجساد ترفض الترويض وترفض أن تكون هامشًا إلى الأبد فتخرج متجمّعة مع توغّل الليل، متحدّية "نفيها" وكل أشكال الإجحاف الاجتماعي الذي توارثته عن الآباء والأجداد لأزمنة طويلة، لتلعب لعبة مشتهاة هي "لعبة شهر جانفي" أو ما اصطلح على تسميته بـ"لحظة جانفي الفارقة" مع مطلع كلّ سنة، من أجل الإيماء للسلطة السياسية وخاصة الحاكمة منها أن أمرًا دفينًا، قديمًا، غائرًا، مندسّاً في الجينات لابدّ من النظر إليه، لكن يبدو أنّه في كل مرّة "لا حياة لمن ينادى".
"لعبة جانفي"، التي يلعبها أصحاب الأجساد النحيلة من أبناء الشعب التونسي يبدو أنّها تحوّلت إلى علامة اجتماعية لمعاندة الشعب للسلطة
"لعبة جانفي"، التي يلعبها أصحاب الأجساد النحيلة من أبناء الشعب التونسي يبدو أنّها تحوّلت إلى علامة اجتماعية لمعاندة الشعب للسلطة، أيّ سلطة كانت، السواء في أزمنة الدكتاتورية أو في أزمنة الحرية.
اقرأ/ي أيضًا: أغنية "يا حياتنا"... ثورة جمهور الإفريقي على الفساد والظلم
وها قد بدأ اللعب، فمنذ الأيام الأولى لشهر جانفي/ يناير 2021 تحول ليل الضواحي إلى "طوفان من العنف الليلي"، إنّها لحظة عود الإنسان المدجّن إلى ذاته الأولى، إلى الإنسان الأصلي الكامن والغريب والمختبئ والمجبول أساسًا على العنف.
كلّما احتدمت المواجهات في عمق الليل مع قوات الشرطة المدججة بالغازات المسيلة للدموع والتي تمثل "العنف الشرعي"، أعود إلى كتبي دون غيرها لأفهم الأمر على نحو مغاير لما تقدّمه الرواية الرسمية لما يحدث في أزقة الضواحي وحارات القرى البعيدة، أو ما تقدّمه بلاتوهات "التوك شو" التي تتحرك في المستوى الأول للأحداث حيث تحل نفس الوجوه المحللة للأحداث فيبدو حديث جانفي للسنة الفارطة هو نفس حديث هذه السنة وذلك في انتظار جانفي آخر.
أتسمّر أمام قول المعلّم الكبير "هيغل" الذي يرى "أن كل شيء هو في حالة سيرورة وتغيير والعنف والصراع هما العنصر الثابت وسط سيرورة تاريخية متحرّكة لا شيء ثابت فيها.."، وهكذا يبدو المكوّن الأساسي للواقع هو جدلية العنف ونفيه، كن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: "هل السياسي الذي يقود البلاد أو الذي يطمح إلى قيادتها بالوسائل الديمقراطية على وعي بهذا العمق الفلسفي للأحداث الليلية أو حتى النهارية التي تحدث بالمئات يوميًا؟".
الإجابة هنا مدركة مسبقًا وجلية للعيان لأن السياسي في تونس يصل إلى السلطة والجراب خاو من المشاريع البديلة وخال من المعاول الحقيقية التي ستحفر عميقَا في جسد المجتمع لتزيل عنه الجراح القديمة وتحرره من اليتم.
السياسي في تونس يصل إلى السلطة والجراب خاو من المشاريع البديلة وخال من المعاول الحقيقية التي ستحفر عميقَا في جسد المجتمع لتزيل عنه الجراح القديمة
إن السياسي التونسي الجديد لا يستأنس بالجامعة كمؤسسة مجتمعية لها مهام أخرى غير تأهيل الكوادر والتقنيين للمجتمع واعتبارها المؤسسة الوحيدة المخول لها تقديم تشخيص علمي ودقيق للمجتمع مع رسم تصورات مغايرة تماهيًا مع ما حدث عند تأسيس دولة الاستقلال إذ تم إشراك الجامعة رغم حداثتها فاتخذ سنة 1962 قرار تأسيس "مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس (سيريس) وهي مؤسسة علمية صرفة خاضعة لإشراف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ومن مهامها الأساسية التي أنشأت من أجلها إسناد السياسي بالدراسات العلمية والتشخيص الدقيق. لقد حان الوقت أن نعود عودة حقيقية للجامعة ليس من خلال الأشخاص بل من خلال المؤسسات البحثية.
اقرأ/ي أيضًا: مدن الحدود الجنوبيّة لتونس: الإقصاء والعقاب (1/2)
إن ما يحدث ليلاً في الضواحي وفي عدّة مدن وقرى تونسية أخرى يجعلنا نفهم أن التونسيين يرغبون ضمنيًا في تغيير أحوالهم التي لم تتغير منذ أمد ففي قراءة نفسية للأحداث نستشف أن الشباب خرج متسلحًا بعدوانيته الطبيعية الأولى فقط مع قليل من الحجارة.
وقد ترافق تحركات الأجساد النحيلة في تلك الليالي الشتائية القاسية سرقات وخلع لمحلات تجارية وأجهزة الصرف الآلي..، كل ذلك يبدو أمرًا طبيعيًا بل واستتباع منطقي للأحداث خاصة عندما لا نخضعه إلى المنطق الأخلاقي والأمني والإيديولوجي والقانوني الزجري ونأتي به إلى دوائر معرفة غير نمطية وهي الفهم السوسيولوجي، نجد أن تلك الأجساد النحيلة قد نشأت وتكونت بيولوجيًا ضمن ثقافة الاستهلاك وتشربت قيم الفردانية التي أرساها رأس المال ومن بعده الثورة الاتصالية، فكلما حرم الجسد المستهلك من أدوات ابتهاجه حاول التعويض لنفسه مع أول فرصة تسنح له، في الليل كما في النهار.
فالجسد المحروم يتحرك دون وعي بحرمانه الفردي أو الجماعي وإعادة تشكيله تتطلب رؤية شاملة للجانب الأنثروبولوجي والمراكمة القيمية التي تنهض بها عادة مؤسسة المدرسة والأخذ دومًا بعين الاعتبار أن الأجساد تبقى دومًا كينوات غير مكتملة يمكن شحنها مجددًا.
في قراءة نفسية للأحداث نستشف أن الشباب خرج متسلحًا بعدوانيته الطبيعية الأولى فقط مع قليل من الحجارة
أمّا رمزية إشعال العجلات المطاطية فإن ظاهرها يبدو قبيحًا وعنيفًا وهو منع عربات وآليات قوات مقاومة الشغب من المرور والحد من حركتها تشفيًا في السلطة، لكن باطنها الهادئ هو الدفع بعجلة التاريخ نحو الأقصى المتاح والمتمثل في تغيير اجتماعي حقيقي يمس من حياة الفرد والمجموعة والدعوة لخلق سرديات جديدة تزيح هيمنة السياسي والديني على السرديات القديمة.
اقرأ/ي أيضًا: مدن الحدود الجنوبيّة لتونس: الإقصاء والعقاب (2/2)
إن الدخان المتصاعد ليلاً من المطاط قد يتسرب بعضه إلى خياشيم من يهندسون أيام التونسيين وهو لعمري ما تعكسه الحكمة المتخرجة من لا وعي الأجساد النحيلة المنتفضة تحت أجنحة الليل.
وما دام شهر جانفي هو شهر اللعب وخلق الرمزيات فها هي الأجساد النحيلة بحي سيدي حسين السيجومي بالضاحية الغربية للعاصمة التونسية تلاعب قوات الأمن في عمليات الكرّ والفرّ فتطلق عليهم وابلاً من الشماريخ التي عادة ما تطلق في الاحتفالات والأعراس فيتحول فضاء المسكون بالانتفاض إلى نوع من الاحتفال وهي رمزية أخرى، عفوية وبسيطة، لكنها عميقة فجانفي بات احتفالاً للقوارب المحطمة والمنسية على شواطئ المجتمع.
لقد بات الذهاب إلى "يقين التفكير" ضرورة ملحّة والبحث بجدية فيما يحدث وخاصة ما يريده المجتمع وما تريده الأجساد النحيلة العاشقة لليالي شهر جانفي
لقد حان الوقت أن نتخلص من "اليقين المزيّف" بأن الانتقال الديمقراطي في تونس يسير في مداراته الصحيحة ما دامت ماكينة الحرية تعمل على مدار السّاعة وما دامت الانتخابات نزيهة وشفافة وما دام التداول السلمي على السلطة يدهش التواقين إلى إنجاز ما أنجزت تونس.
وقد يتبدّى "اليقين المزيّف" أيضًا في الممارسة السياسية والبرلمانية التي تقدّم صورة "سينمائية" ملؤها التشويق والنجومية. كل ذلك لم يعد كافيًا. لقد بات الذهاب إلى "يقين التفكير" ضرورة ملحّة والبحث بجدية فيما يحدث وخاصة ما يريده المجتمع وما تريده الأجساد النحيلة العاشقة لليالي شهر جانفي وتفنيد مقولة "هيرقليطس": "الحرب هي كل الأشياء وحكمة كل الأشياء".
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: