06-يناير-2020

ضرورة تقديم مشاريع ثقافية بإسناد سياسي (Getty)

 

مقال رأي

 

من شروط الحرّية والديمقراطية هو إطلاق الحياة الثقافية على عواهنها وعدم تطويقها بالأيديولوجيا والسياسة وربطها بمرحلة تاريخية بعينها وصناعة الأصنام حولها، فهي فعل بشري يسكن الحرّية وتسكنه. وهي نهل من معين التاريخ والمراكمة الحضاريّة ومآثر الشعوب وخصوصياتها الإثنية والفنية والتواصليّة فيأتي الفعل الثقافي لمجتمع ما بملامح وتقاسيم مختلفة عن بقية المجتمعات وهو ما يصنع التنوّع الثقافي والمجتمعي على مرّ الحياة.

وعلّمنا التاريخ أن الجغرافيا الحقيقية للشعوب والحضارات هي جغرافيا الثقافة وأن الحروب التي عاشتها البشرية في السّابق هي حروب ثقافيّة في جوهرها وأن التكتّلات الاقتصادية الكبرى التي نعرفها اليوم قامت على قاعدة التشابه الثقافي.

هل يكفي أن يكون على رأس وزارة الشؤون الثقافية وزير موسيقي أو مسرحي أو شاعر أو سينمائي أو روائي أو رسّام؟

اقرأ/ي أيضًا: حتّى نعيد الحياة للمسرح المدرسي

وعلّمنا التاريخ أيضًا أن السياسيين الذين يقودون شعوبهم يعلمون علم اليقين أن الثقافة هي المنارة الدّالة لمعالم كلّ الطّرق، ويدركون جيّدًا أنّها المنطقة الأخطر التي تتطلب حذرًا بعينه فتراهم يستميلون نشطائها وحماتها والمدافعين الشّرسين عنها والفاعلين فيها أو يذهبون إلى تدجينها عبر سياسات التحكم المالي والإداري والتجاري وإنشاء المؤسسات التي تنفذ توجهات أولئك السياسيين.

ويعمل الساسة أيضًا على سلب الثقافة إرادتها بالمراقبة والتوجيه والاستمالات السياسية أو يبخسونها بالتهميش والإقصاء أو يغيّبونها أمام زحف الثقافات الأخرى فيضعف دورها المؤثر في المجتمع أو يشرذمونها بالانقسامات وخلق دوائر داخلها لا تؤدّي إلى بعضها البعض فيبرز قسم على حساب الآخر.

لذلك يحرص الساسة الذين يريدون البقاء في السلطة إلى تركيز وزارة للثقافة أو ما شابه تحت العديد من المسمّيات من أجل التحكّم في هذا المجال الحيويّ وقيادته وإدارته حسب هواهم السياسي وهوى أحزابهم وأيديولوجياتهم، في حين أنّ الثقافة كمؤسسة مجتمعيّة تدير نفسها بنفسها وأبناء الشعب هم من يحمون ثقافتهم ويستنطقونها إنتاجًا وصناعة وتجارة وترويجًا واعتزازًا وامتنانًا بتاريخها العريق. ولا توجد تقريبًا في أغلب المجتمعات الديمقراطية في العالم وزارة للثقافة بل لديها نسيج مدني متين يرعى الثقافة ويقوم بصونها وغرس قيمها لدى الأجيال المتعاقبة.

 تحوّل فعل "تونسة الثقافة" في أواسط الفترة البورقيبية إلى فعل سياسي بامتياز ذهبت فيه الثقافة في طريق موحشة وهي الإسناد السياسي للزعيم الحاكم وتمجيد النظام بمختلف أجهزته

ولم يكن لتونس تاريخيًا وزارة للثقافة أو مؤسسة رسمية ترعى الجانب الثقافي إلا مع بداية الاستقلال وتحديدًا مع حكومة الباهي الأدغم ببعث كتابة دولة للشؤون الثقافية في البداية لتتحوّل عام 1961 إلى وزارة تولّاها المثقّف الشاذلي القليبي. إذ اكتشف بناة الدولة التونسية الحديثة حينها أن الثقافة هي ما سيعيد للوطن ملامحه الحضارية التي سلبها إيّاه المستعمر على مرّ العهود، ورفعت دولة الاستقلال في ذلك الوقت شعار "تونسة الثقافة" في جميع أبعادها. ويبدو أن جلّ التظاهرات الإبداعية وأغلب المؤسسات التي تعنى بالشأن الثقافي الوطني بعثت تقريبًا في فترة الشاذلي القليبي الذي تولى هذه الوزارة لمدّة 13 سنة كاملة منها تسع سنوات متتالية.

لكن مع أواسط الفترة البورقيبية، تحوّل فعل "تونسة الثقافة" إلى فعل سياسي بامتياز ذهبت فيه الثقافة التونسيّة في طريق موحشة وهي الإسناد السياسي للزعيم الحاكم وتبرير وتمجيد النظام بمختلف أجهزته حيث الانصهار الغريب بين الحزب الحاكم والدولة. ونحت فترة زين العابدين بن علي منحى مختلفًا وهو إفراغ الثقافة من محتواها القيمي والرمزي وبولستها وجعلها فلكلورية بالمعنى السوسيولوجي للكلمة أي ثقافة غير منتجة.

لكن مع انبلاجة ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي،  بدأت الحياة الثقافيّة في استعادة عافيتها وبريقها الآفل لأنها وبكل بساطة استنشقت أوكسجين الحريّة وتوشّحت بنقائها، إذ مرّ على "وزارة الشؤون الثقافية" سبعة وزراء جميعهم من الحقول الفنية والابداعية وكأن بهذه الفترة التاريخية الجديدة التي تسمّى "الجمهورية الثانية" تستعيد بريق وصدقية تلك البدايات الأولى لتأسيس الدولة التونسيّة الحديثة بأن يكون على رأس وزارة الثقافة شخصيّة مثقّفة. لكن السؤال الذي يقفز ويطرح نفسه هنا هو: هل يكفي أن يكون على رأس وزارة الشؤون الثقافية وزير موسيقي أو مسرحي أو شاعر أو سينمائي أو روائي أو رسّام؟

أن يكون الوزير المعيّن بلا مشروع فذاك ما نعيبه على القادمين الجدد، والمقصود بالمشروع هو أن يكون الوزير الجديد للشؤون الثقافية مسكونًا بفكرة عليّة وجبّارة أمام التاريخ ويريد ترجمتها على أرض الواقع

اقرأ/ي أيضًا: الدبلوماسية الثقافية..نهج جديد في العلاقات الدولية

أعتقد أن الإجابة تتراءى رؤوسها من بعيد فقد خيض فيها مرارًا وتكرارًا فأن يكون وزير الشؤون الثقافيّة شخصيّة مثقّفة ومرموقة فذاك أمر محمود، ويذكرنا رمزيًا بالشخصيات المؤسسة التي دقّت الصواري الأولى في أرض الثقافة التونسية وكانت لهم مشاريع وأفكار خلاّقة واستنهضت همم المثقفين والنخب والفنّانين، وهم الشاذلي القليبي، ومحمود المسعدي، والبشير بن سلامة ومحمد اليعلاوي.

لكن أن يكون الوزير المعيّن بلا مشروع فذاك ما نعيبه على القادمين الجدد، والمقصود بالمشروع هو أن يكون الوزير الجديد للشؤون الثقافية مسكونًا بفكرة عليّة وجبّارة أمام التاريخ ويريد ترجمتها على أرض الواقع كأن يحوّل السينما إلى صناعة جاذبة للاستثمار أو هيكلة دور الثقافة بطريقة عصرية ودمجها مع المكتبات العمومية ونوادي الأطفال وجعلها أقطابًا جهوية ومحليّة للنوادي وللترفيه والفنون والاختراع أو تثمين الخارطة الأثرية التونسية بإنشاء شبكة جديدة من المتاحف العصرية الجاذبة للسياحة الثقافية.

وقد تكون هذه الفكرة ربط الصلة مع وزارة التربية ووزارة التعليم العالي حتى تنشأ الأجيال الجديدة على احترام ثقافتها وهويتها التونسية والتواصل السليم مع مخزونها الحضاري والتراثي، أو كسر الأسوار المعنوية العالية التي تفصل الجامعة التونسية عن الحياة الثقافية الواسعة وتخريط الجامعيين والباحثين والأكاديميين في مشاريع ثقافية وطنية لها علاقة بالترجمة، أو رقمنة الأدب التونسي، أو رسم معالم أنطولوجيات في مجالات الأدب والفنون. وطبعًا، فالانشغال بالمشروع لا يثني الوزير الجديد عن التسيير العادي للوزارة والمواصلة فيما خلّفه السابقون من أفكار خلاّقة.

حان الوقت أكثر من أي وقت مضى للذهاب حثيثًا في اتجاه ثورة ثقافية تساهم فيها الدولة بوزيرها وهياكلها ومؤسساتها

لكن الوزير صاحب المشروع وسلّة الأفكار لابدّ له أن يكون مسنودًا سندًا سياسيًا من رئيس حكومته، ومن المفترض أن يكونا قد تباحثا في المشروع الثقافي المقترح من الوزير قبل التعيين والاتفاق أدبيًا وأخلاقيًا بين الطرفين بخصوصه لأن الإسناد السياسي مهم في تقديري، فهو ركيزة معنوية يعود إليها وزير الثقافة المقترح خلال مراحل التنفيذ وخاصة عند اقتراح القوانين ذات العلاقة وطلب التمويلات اللازمة. ومن المفترض أن يعرض وزير الشؤون الثقافية المكلّف مشروعه الذي جاء من أجله على وسائل الإعلام وأمام المثقفين وأمام الرأي العام والالتزام به إلى آخر المدّة الوزاريّة.

لكن ما حدث في مرّات سابقة وخلال تشكيل حكومة الحبيب الجملي بداية جانفي/كانون الثاني 2020 من اقتراح الممثل القدير فتحي الهدّاوي على رأس وزارة الشؤون الثقافيّة أعاد إلى السطح جدلًا لم يحسم بعد حول جدوى تعيين رجل ثقافة أو فنّان من دون مشروع ثقافي ومن دون حزمة أفكار كبرى ترافقه إلى الوزارة.

لقد حان الوقت أكثر من أي وقت مضى للذهاب حثيثًا في اتجاه ثورة ثقافية تساهم فيها الدولة بوزيرها وهياكلها ومؤسساتها، وأيضًا يساهم فيها المجتمع المدني بماضيه وثقله والشخصيّات الفنية والأدبية والإعتبارية ليرسموا معًا حياة ثقافية تونسية تمتح من خزائن التاريخ وترنو إلى مستقبل أجمل ضمانة لنظارة ملمح هويّتنا. فالثقافة هي الرأس المال الرمزي والاحتياطي العاطفي والوجداني للشعوب التي تباغتها الهزائم على جبهات أخرى إذ، كما قيل، تبقى الثقافة بعد أن يفنى كلّ شيء.    

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن ثقافة "العيب" و"العار".. أو التطبيع مع العنف

في الحاجة إلى النسوية الراديكالية..