17-ديسمبر-2018

الأديب والمفكر والسياسي التونسي محمود المسعدي

الترا تونس - فريق التحرير

 

"الأدب مأساة أو لا يكون".. مقولة علقت بأذهان الكثيرين وكتبها ذات يوم الكاتب والمفكر والسياسي التونسي محمود المسعدي الذي خلّد اسمه في تاريخ تونس والعالم العربي كأديب ملتزم بقضايا بلاده وواقعها وآمن أن الأدب جدّ والتزام وإحدى أهم وسائل إثبات الذات وتأصيل الكيان.

كانت أغلب دروس محمود المسعدي محاضرات تحدث خلالها بغزارة عن رسالة الأدب وجوهره

ولد محمود المسعدي في منطقة تازركة بولاية نابل في 28 جانفي/ كانون الثاني 1911. بدأ تعليمه في كتاب القرية أين أتمّ حفظ القرآن ليزاول إثر ذلك تعليمه الابتدائي في قربة. وأنهى دراسته الثانوية في المعهد الصادقي سنة 1933. وفي العام ذاته التحق بجامعة السوربون بباريس ودرس اللغة العربية وآدابها ليتخرّج سنة 1936.

لم يتمكن المسعدي بسبب الحرب العالمية الثانية من إتمام رسالته الأولى التي حملت عنوان "مدرسة أبي نواس الشعرية" ورسالته الثانية التي كانت بعنوان "الإيقاع في السجع العربي" والتي نشرت لاحقًا باللغتين العربية والفرنسية.

قام محمود المسعدي بالتدريس الجامعي في كلّ من فرنسا وتونس وكان من أكثر المربين تميزًا. ودرّس في معهد كارنو والمعهد الصادقي قبل انتدابه للتدريس في مركز الدراسات الإسلامية في باريس عام 1952. وكانت أغلب دروسه محاضرات تحدث خلالها بغزارة عن رسالة الأدب وجوهره بطريقة تقوم على الجدّ والحزم والتخاطب بعيدًا عن الابتذال وترك بصمة عميقة في نفوس تلاميذه الذين كانوا أول من يقرأ مقالاته التي كان ينشرها في مجلّة المباحث.

اقرأ/ي أيضًا: توفيق بكار.. عراب النقد الأدبي الذي أوصى خيرًا باللغة العربية

مسيرة محمود المسعدي الأدبية المميّزة لفتت انتباه عميد الأدب العربي طه حسين ودفعته إلى الإقرار أنه احتاج أن يقرأه ثلاث مرات

وبالتزامن مع مسيرته كأستاذ، فرض المسعدي اسمه كأحد أهم الأدباء على الصعيد العربي من خلال عدد من الأعمال والمؤلفات التي لاقت رواجًا كبيرًا على غرار "حدث أبو هريرة قال" و"السد" و"مولد النسيان" وغيرها، والتي اهتم فيها بمعالجة المنزلة الإنسانية.

مسيرة محمود المسعدي الأدبية المميّزة لفتت انتباه عميد الأدب العربي طه حسين ودفعته إلى الإقرار أنه احتاج أن يقرأه ثلاث مرات إذ قال حسين في محاضرة ألقاها في تونس سنة 1957 إنه قرأ السد مرتين واحتاج إلى قراءة ثالثة.

ولكن الكتابة والتعليم لم يبعدا محمود المسعدي عن اهتمامه والتزامه بالقضايا الوطنية إذ التحق بالنضال النقابي إلى جانب الزعيم فرحات حشاد فكان سنده الثقافي في المعركة النقابية والتحررية. تقلّد عدة مسؤوليات في نطاق حركة التحرّر الوطني وتولى رئاسة الجامعة القومية لنقابات التعليم. كما كان أمينًا عامًا مساعدًا للاتحاد العام التونسي للشغل من سنة 1948 إلى غاية 1954.

شارك المسعدي كذلك في المفاوضات التونسية الفرنسية التي كان مآلها الاستقلال الداخلي سنة 1955. وبعد الاستقلال تمّ انتخابه عضوًا في البرلمان من عام 1959 إلى 1981 ليترأسه من 1981 و1986.

مسيرة المسعدي تواصلت وتمّ تعيينه وزيرًا للتربية القومية ثمّ وزيرًا للثقافة من 1973 إلى 1976. ولعلّ بصمته تجلّت بشكل خاص وواضح وخلّفت أثرًا كبيرًا في المرحلة الأولى من بناء الدولة وتأسيس جيل متميّز في المرحلة الأولى لتونس بعد الاستقلال.

كان لمحمود المسعدي باع كبير في ما سمي بـ"العصر الذهبي" للتعليم في تونس

فقد كان لمحمود المسعدي باع كبير في ما سمي بـ"العصر الذهبي" للتعليم في تونس. فقد ساهم في إرساء نظام تربوي أفضى إلى خلق جيل متميّز ظهرت بعده رجالات ساهمت في قيادة البلاد وإطارات إداية قادت دفتها. وقام في هذا الإطار بعديد الإصلاحات فأصبح التعليم مجانيًا وإجباريًا. وتمّ التخلي عن التعليم التقليدي المتمثل في التعليم الزيتوني أساسًا والتوجه نحو تعليم عصري بات مصعدًا اجتماعيًا مكّن أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة من تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.

تجربة المسعدي في إصلاح المنظومة التربوية لاقت نجاحًا باهرًا قبل أن يقع تغييرها مع بداية حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهي تجربة اعتبر وزير التربية السابق ناجي جلول في أحد حواراته أنها "كانت مرحلة تأسيس للنظام التعليمي ومرحلة كفاح ضد الأمية ونشر المدارس وأنها قد كلّلت بالنجاح".

محمود المسعدي، الذي غادرنا في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2004، هو إذًا علم من الأعلام التونسية التي كانت لها بصمة في أكثر من مجال، فكان مساهمًا في خلق رجالات دولة وأستاذًا تشبّع على يديه مئات الطلبة بالأدب وجوهره ومدى التزامه بالإنسان وأديبًا ذات صيت كبير في العالم العربي. ولعّلنا اليوم بأمس الحاجة للاستئناس بتجربة المسعدي في الإصلاح التربوي حتى تنهض البلاد مجددًا من مستنقع الفقر والأمية الذي بدأت تغرق فيه من جديد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فرحات حشاد.. زعيم وطني أحب الشعب وناضل من أجل تحريره

الطاهر بن عمار: موقّع وثيقة الاستقلال الذي غُيبت بصماته