25-يناير-2023
 صور أحداث قفصة 1980

يؤكد المسلحون الذين قاموا بعملية قفصة 1980 بأن هدفهم هو تحرير تونس من "الاستبداد البورقيبي ومناهضة الفقر والتهميش" (Getty)

 

عاشت تونس خلال فترة السبعينيات على وقع العديد من الأحداث التي شحنت الجو السياسي العام بالبلاد وخلفت العديد من الاضطرابات التي تحولت فيما بعد  لمحطات تاريخية هامة وفارقة في تاريخ الجمهورية.

وقد شهدت تونس في 5 فيفري/شباط 1972 انتفاضة طلابية جاءت كرد على المحاكمات التعسفية التي تعرض لها بعض الطلبة وهيمنة الدستوريين على اتحاد الطلبة، أما في سنة 1974 فقد أمضى الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على وثيقة الاتحاد مع ليبيا في مدينة جربة وسرعان ما تراجع عنها بإيعاز من زوجته وسيلة بورقيبة والهادي نويرة وهو السبب المباشر لتوتر العلاقات الليبية التونسية آن ذاك.

وفي سنة 1975، عمد بورقيبة إلى تغيير الدستور وتنصيب نفسه رئيسًا مدى الحياة فيما شهدت تونس سنة 1978 انتفاضة شعبية بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل جوبهت بحلول أمنية قمعية أسقطت مئات القتلى وآلاف الجرحى.

كل هذه الوقائع بالإضافة إلى تشكل "الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس" التي تتكون من عناصر من تيار المعارضة اليوسفية وصراع الأجنحة لخلافة بورقيبة كانت أسبابًا مباشرة لـ"أحداث قفصة 1980"، التي خلفت خسائر بشرية ثقيلة سقط خلالها 18 مدنيًا و41 عون أمن وحرس فيما أصيب عشرات آخرين وقد كانت بذلك نقطة فارقة في تاريخ تونس نتجت عنها تداعيات سياسية واجتماعية جذرية.  

 

 

  • أحداث قفصة.. أي دور لليبيا والجزائر؟

بقول الجامعي وأستاذ التاريخ عميرة علية الصغير أن عملية قفصة المسلحة وقعت في الليلة الفاصلة بين 26 و27 جانفي/يناير 1980 وهي نتيجة لتبعات إلغاء اتفاقية الاتحاد بين تونس وليبيا سنة 1974 التي أمضاها الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والرئيس الليبي معمر القذافي وقد قام بتنفيذها مجموعة مسلحين عددهم 60 مسلحًا دخلوا الأراضي التونسية عن طريق أقصى جنوب الحدود الجزائرية وكانوا قادمين من طرابلس.

أستاذ التاريخ عميرة علية الصغير لـ"الترا تونس":  عملية قفصة المسلحة وقعت في الليلة الفاصلة بين 26 و27 جانفي 1980 وقام بتنفيذها مجموعة مسلحين عددهم 60 دخلوا الأراضي التونسية عن طريق أقصى جنوب الحدود الجزائرية وكانوا قادمين من طرابلس

وأفاد الصغير في حديثه لـ"ألترا تونس" أن هذه المجموعة هاجمت مراكز الشرطة والحرس وثكنتين بمدينة قفصة وتمكنوا من السيطرة على ثكنة "سيدي أحمد التليلي" ثم وجهوا دعوة لأهالي قفصة للانضمام للثورة المسلحة والإطاحة بالنظام البورقيبي ظنًا منهم أن العملية ستتحول لثورة عارمة تنطلق من قفصة إلى سائر مناطق البلاد لكن السكان لم يستجيبوا لنداء التمرد ففشلت المجموعة وبتدخل قوات الأمن والجيش وقع القبض على القائد العسكري لهذه العملية.

ويضيف أستاذ التاريخ أن القائد العسكري لمجموعة الستين مسلحًا هو أحمد المرغني وتتكون مجموعته من 26 شخصًا وهم من تمكنوا من الاستيلاء على الثكنة العسكرية أما المجموعة الثانية فكان يقودها بلقاسم الكريمي وعبد الجليل الساكري والمجموعة الثالثة كانت بقيادة حسين نصر العبيدي وعبد الرزاق النصيب والمجموعة الرابعة كان يقودها العربي الورغي والخامسة بقيادة نور الدين الدريدي والسادسة بقيادة عز الدين الشريف الذي تورط في محاولة الانقلاب التي جدت في ديسمبر/كانون الأول 1962 والمعروفة بمحاولة انقلاب لزهر الشرايطي وتم الحكم عليه غيابيًا بعشر سنوات سجن مع الأشغال الشاقة.

أستاذ التاريخ عميرة علية الصغير لـ"الترا تونس": العملية المسلحة كانت لقيت دعمًا ماديًا وعسكريًا من معمر القذافي وكذلك دعمًا من النظام الجزائري الذي سهل تنقل المجموعة المسلحة وعمد إلى عدم إعلام السلطات التونسية بما يحدث

ولفت عميرة علية الصغير إلى أن هذه المجموعة أقرت واعترفت أنها تابعة لتنظيم يسمى "الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس" التي تتكون من القوميين واليوسفيين، نسبة للأمين العام السابق للحزب الحر الدستوري الجديد صالح بن يوسف، كما ثبت أن العملية كانت لقيت دعمًا من رئيس ليبيا معمر القذافي والدعم المالي والعسكري من صندوق الدعم العربي وهو صندوق ممول من الدولة الليبية بالإضافة إلى وجود دعم من النظام الجزائري الذي سهل تنقل المجموعة المسلحة والتستر عليها وعمد إلى عدم إعلام السلطات التونسية بما يحدث على الرغم من أنهم مروا من التراب الجزائري للدخول لتونس، وفق روايته.

 

 

وأكد المتحدث أن الدولة الليبية سخرت جزءًا من قنوات الراديو خاصة منها إذاعة قفصة التي كانت تبث من ليبيا للدفاع عن المجموعة المسلحة التي اعتبرتها مجموعة قومية ثائرة ضد الفقر والظلم والنظام البورقيبي أما الجزائر فسهلت العملية بسبب العلاقة المتوترة بينها وبين تونس حينها، وفقه.

أستاذ التاريخ عميرة علية الصغير لـ"الترا تونس": يؤكد المسلحون الذين قاموا بعملية قفصة 1980 بأن هدفهم هو تحرير تونس من "الاستبداد البورقيبي ومناهضة الفقر والتهميش"

يقول أستاذ التاريخ إن "أحمد المرغني، القائد العسكري للعملية، كان قد فر وألقي القبض عليه في ضواحي حامة قابس يوم 6 فيفري/شباط، فيما استسلم عز الدين الشريف القائد السياسي للعملية وقد وقعت محاكمة المسلحين في 27 مارس/آذار 1980 وصدرت ضدهم أحكام بتهمة التمرد والثورة والخيانة في حين أنهم يؤكدون بأن هدفهم هو تحرير تونس من الاستبداد البورقيبي ومناهضة الفقر والتهميش لبناء دولة ديمقراطية وقد حكم على 11 عنصرًا منهم بالإعدام وتم تنفيذ الحكم بالسجن المدني بباب سعدون يوم 17  أفريل ضد كل من "عبد الحكيم الغضباني" و"محمد علي النواشي" و"عبد الرزاق سليم نصيب" و"عمار المليكي" و"عبد المجيد الساكري" و"العربي الورغني" و"عبد الرؤوف الهادي صميدة" و"أحمد المرغني" و"عز الدين الشريف" و"محمد صالح المرزوقي" و"نور الدين الدريدي" و"محمد الجمل" و"الجيلاني الغضباني" و"محمد الحميدي" كما تم الحكم غيابيًا على كل من "عمار ضو بالنايل" و"عمارة ضو مميطة" وبالأشغال الشاقة المؤبدة على كل من "لطيف مبارك شنيطر" و"حسن العبيدي" و"سعد الوافي" و"النوري الوهابي" و"العكرمي الميناقي" وخمسة أشخاص آخرين.

ويشير المتحدث إلى أن المجموعة التي نفذ فيها حكم الإعدام يجهل أهلهم وذويهم أي معلومات عنهم لكن بالبحث في الموضوع بعد الثورة وتحديدًا سنة 2012 وقع التعرف عليهم في قبر جماعي بمقبرة الغربة بالعاصمة.

أستاذ التاريخ عميرة علية الصغير لـ"الترا تونس": المجموعة التي نفذ فيها حكم الإعدام لم يٌعرف عنهم شيء لكن بعد الثورة سنة 2012 وقع التعرف عليهم في قبر جماعي بمقبرة الغربة بالعاصمة

  • تونس وتبعات رفض دعوات الوحدة

لا يخلو تاريخ تونس المعاصر من بعض الهزات التي زعزعت حكام البلاد, ولئن تختلف قراءات المؤرخين والمعاصرين لهذه الأحداث بصفة عامة فهناك شبه إجماع على تفاصيلها وطبيعتها وأهدافها ومن يقف وراءها على غرار أحداث قفصة التي يمر على ذكراها سنة 2023، 43 سنة.

أحداث قفصة أسالت الكثير من الحبر خاصة وأنها كانت تهدف لوضع حد للنظام البورقيبي لكن هذه الحادثة لم تبح بكامل أسرارها وقد اعتبر الكاتب المنصف بلحولة في تقديمه لكتابه "شهادة للتاريخ عن أحداث قفصة المسلحة سنة 1980" أن التاريخ يكتب من خلال المراجع والدراسات ولكن يكتب أيضًا بالشهادات الحية المستقاة من الفاعلين فيها أو المقربين منها وهي الأكثر مصداقية.

من أسباب هجوم قفصة هو رجوع بورقيبة عن اتفاقية الوحدة مع ليبيا لكن ما نلاحظه هو أن تونس كانت محاصرة بالأفكار القومية من كل جهة فالرئيس الجزائري بومدين كان قد عرض على بورقيبة سنة 1973 اتحاد البلدين وهو ما رفضه أيضًا

ولا يختلف اثنان تقريبًا في أن من أسباب هجوم قفصة هو رجوع الرئيس الحبيب بورقيبة عن اتفاقية الوحدة مع ليبيا لكن ما نلاحظه هو أن تونس كانت محاصرة بالأفكار القومية من كل جهة فالرئيس الجزائري الهواري بومدين كان قد عرض على الحبيب بورقيبة سنة 1973 اتحاد البلدين لكن بورقيبة رفض، قائلًا "إن الجزائر بلد ضخم بصحرائه ونفطه وغازه وشعبه وأنا أخاف على تونس أن تبتلعها معدة الجزائر".

ويرى عميرة علية الصغير أن "تونس صمدت أمام محاصرتها بالقومية من كل جانب لأنه منذ استقلت سنة 1956 استطاعت القيادة الوطنية أن تضمن الحماية لسيادتها وحدودها في ترابط وعلاقة صداقة مع دول الجوار بالإضافة إلى اتفاقيات مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا لحماية البلاد"، وفقه.

كما اعتبر أستاذ التاريخ أن المكسب الذي حققته تونس ليس فقط حماية الحدود من جيرانها وخاصة من معمر القذافي الذي نفذ العديد من المحاولات لقلب النظام بل استطاعتها ضمان حمايتها وتوجيهها لمجهودها المتواضع من إنتاجها القومي ومداخيلها للتعليم عوض توجيهه للتسليح والجيوش لأنها لو وجهت مجهودها للتسلح لن تستطيع مجابهة لا ليبيا ولا الجزائر نظرًا للمداخيل الكبرى التي يحققونها من الطاقة الغاز والنفط وكان من الواضح أنها كدولة تعتمد على علاقات صداقة مع الدول ولم تكن معادية لا للجزائر ولا لليبيا.

 

صور أحداث قفصة 1980

من صور أحداث قفصة 1980  (Getty)

 

 

  • "تغير طفيف في النظام البورقيبي لم يأت أكله"

أطلقت المجموعة المسلحة على نفسها تسمية "جيش التحرير التونسي" وقامت بإرسال بلاغ للوكالة التونسية الرسمية قالت فيه "تدخل جيش التحرير التونسي في الذكرى الثانية لمجزرة 26 جانفي/يناير 1978 وهي نقطة الانطلاق لحركة ستؤول إلى تحرير البلاد من دكتاتورية الحزب ومن هيمنة الاستعمار الجديد" وفي يوم 27 جانفي/يناير نشرت وكالة الأنباء التونسية خبر الهجوم المسلح في بيان مقتضب، قالت فيه إن "مجموعة مسلحة قامت صباح الأحد عند الساعة الثانية بشن هجوم مسلح على مدينة قفصة مستخدمة أنواعًا من الأسلحة المختلفة وقد انقسمت إلى ثلاثة أقسام حيث توجهت مجموعة منها إلى ثكنة الجيش وأخرى إلى مركز الشرطة وأخرى إلى ثكنة الحرس الوطني وقد جاء المسلحون من الحدود الجنوبية الغربية".

وقد كان لهذه العملية جملة من التداعيات على الحياة السياسية والاجتماعية في تونس فقد تم تعيين مدير الأمن العمومي زين العابدين بن علي الذي يعتبره بعض المؤرخين عنصرًا مهمًا في تسهيل أحداث قفصة بتستره عن المعلومات التي وردت عليه بخصوص المجموعة المسلحة خاصة وأنه كان من بين المقترحين لحكومة الوحدة بين تونس وليبيا كما عملت الحكومة على محاولة إيلاء أهمية أكبر للمناطق الداخلية خاصة منها مدينة قفصة.

الكاتب والباحث محمد ذويب لـ"الترا تونس": أغلب المسلحين كانوا متبنين للفكر القومي ومعمر القذافي كان آن ذاك رافعًا للواء القومية العربية فسهر على تدريبهم وتمويلهم

ويؤكد الكاتب والباحث محمد ذويب أن" الحبيب بورقيبة لم يعد ماسكًا لزمام الحكم في تونس سنوات الثمانينيات وكانت شؤون البلاد تدار من قبل أطراف أخرى على غرار زوجته وسيلة بورقيبة والوزير محمد المصمودي"، مشيرًا إلى أن التغييرات الطفيفة التي تم إقرارها لم تأت أكلها.

ولفت محدث "ألترا تونس" أن أحداث قفصة أدت لأزمة دبلوماسية مع ليبيا وكانت هذه الأزمة تخدم الجزائر آن ذاك لإبطال أي مشروع وحدة بين الدولتين ولكي تظل دائمًا الدولة المحور في المغرب العربي خاصة في ظل وجود أزمات بين النظام الجزائري والليبي وبالتالي عمدت الجزائر عدم إعلام النظام البورقيبي بدخول الكومندوس الذين دربوا في ليبيا ودخلوا عبر الجزائر.

كما أشار إلى أن أغلب المسلحين كانوا متبنين للفكر القومي ومعمر القذافي كان آن ذاك رافعًا للواء القومية العربية فسهر على تدريبهم وتمويلهم كما لفت إلى أن موقف الاتحاد القومي للفلاحين من تلك الأحداث كان مساندًا للحكومة التونسية وقد ورد في التقرير الأدبي للمنظمة الفلاحية لسنة 1981 أن "الفلاحون هبوا كرجل واحد لمساندة أعمال النجدة والحد من أثار الاعتداء ونددوا بالتدخل الأجنبي ضد تونس للنيل من كرامتها وحرمتها".

إن المتمعن في الأحداث التاريخية التي مرت بها تونس يستعيد مقولة العلامة ابن خلدون "إن التاريخ في ظاهره لا يزيد على الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق" فمن الضروري التمعن في أسباب ونتائج بعض المحطات التي مرت بها البلاد لتفادي كل الصفحات المظلمة.   

 

صور من محاكمة المتورطين في أحداث قفصة 1980

صور من محاكمة المتورطين في أحداث قفصة 1980