حلّاق في باب سويقة، فناء منزل في المدينة العتيقة، سيارة أجرة أو سطح القمر. كلها أطر مكانيّة يمكن أن تحتضن شخصيات وأحداث مشوّقة تؤثّث قصصًا لكتّاب تونسيّين برعوا في فنّ القص واتخذوا منه وسيلة للتعبير عن واقع المجتمع التونسي في مختلف الحقب. كما اختار البعض الآخر هذا الفنّ ليسترسل في بحار الخيال ويطلق العنان لقلمه راسما في الأفق البعيد حكايا يختلط فيها العلمي بالخيال فتكون الصور والأحداث متفرّدة. فكيف ظهرت الكتابة القصصية في تونس؟ ماهي أهمّ مميّزاتها؟ ما أبرز العوامل التي ساعدت في تطورها؟ ومن هم أبرز أعلامها؟
- بدايات الكتابة القصصية في تونس
يرجع العديد من المؤرخين أنّ بداية الكتابة القصصيّة بدأت مع بداية القرن الماضي. أين ارتبط النصّ الإبداعي عمومًا والقصصي خاصّة بالأوضاع المترديّة التي كان يعيشها الشعب التونسي. فالنّص القصصي التونسي كان يعكس اليومي بكلّ تفاصيله. وقد كان صالح السويسي أوّل من نشر نصًا قصصيًا على أعمدة الصحف آنذاك. وهو ما يؤكد ارتباط تطور القصة التونسية بتطور الصحافة.
يلاحظ أغلب المهتمّين بتاريخ الفنّ القصصيّ في تونس، أنّ قوام الحراك الأدبي في تلك الفترة كان أساسًا النزعة الإصلاحيّة. ذلك أنّ هذا النوع الأدبي كان ضمن حراك سياسي قويّ يدعو إلى التنوير وتحرير العقول في سبيل البحث عن الخلاص من الجهل ومقاومة المستعمر.
بداية الكتابة القصصية في تونس بدأت مع بداية القرن الماضي أين ارتبط النص الإبداعي عمومًا والقصصي خاصة بالأوضاع المتردية التي كان يعيشها الشعب التونسي فالنص القصصي التونسي كان يعكس اليومي بكل تفاصيله
هذا الحراك جسّدته أساسًا جماعة تحت السور. وعلى رأسهم زين العابدين السنوسي وهو صحفي ومصلح تونسي وأحد أقطاب الأدب العربي المعاصر وقادته. كان سليل قضاة. تولّى رئاسة تحرير الرائد التونسي، أوّل جريدة رسميّة تونسيّة. وكان من رجال الإصلاح، وصاحب مؤلّفات عديدة.
إرساء روح وطنية وفكر عقلاني حر، إذاً، عبر أشكال أدبية مختلفة، منها القصة التي شكلت مطية لنقل الواقع والتركيز على شخصيات تحمل هموم التونسيين خلال بدايات القرن الماضي. وهي حركة ستمتدّ حتّى الثلاثينات مع جماعة تحت السور وخاصّة القاص علي الدوعاجي الذي ستكون القصّة وسيلته لنقد مجتمعه.
- جيل الثلاثينات: القَصُّ متمرّدًا
يعتبر علي الدوعاجي أب القصة التونسية كما سماه الأكاديمي والناقد توفيق بكّار. فقد أرسى هذا الكاتب أسلوبًا خاصًّا به ونحت طريقًا لم يسبقه إليه أحدٌ من قبل. كان الدوعاجي يَنْشُرُ قِصَصَهُ على أعمدة الصُّحُفِ. ونصوصه تعتبر نافذة يمكن للقارئ الولوج منها إلى واقع الثلاثينات المتردِّي آنذاك. هذا الواقع الذي لطالما نقله كاتبنا بإبداع دون السقوط في المباشرتيّة.
يعتبر علي الدوعاجي أب القصة التونسية كما سماه الأكاديمي والناقد توفيق بكّار. فقد أرسى هذا الكاتب أسلوبًا خاصًّا به ونحت طريقًا لم يسبقه إليه أحدٌ من قبل
لقد قدّم الدوعاجي مع جيل الثلاثينات ككرباكة والعريبي ملامح نسق أدبي متفرّد. فكتّاب فترة ما بين الحربين اختزلت نصوصهم أهميّة تلك الفترة وما تحمله من إشكاليات معقّدة كانت تنذر بخطورة ما سيقع في الحرب العالميّة الثانية.
لم تكن القصّة كنوع أدبيّ مهتمّة فقط بالقضايا الكبيرة بل ركّزت أيضًا على الإنسان في تفاصيله والمجتمع بمشاكله. إذ كان الدوعاجي من الكتّاب الذين طوّعوا أقلامهم للحثّ على النهضة وترك الأفكار البالية لا من خلال الوعظ بل عبر السخرية والنقد اللاّذع. وهو ما يمكن أن نلمسه في المجموعة التي نشرت بعد وفاته "سهرت منه الليالي".
لقد تواصل الحراك الأدبيّ للقصّة لتتبلور ملامحه ويصبح فنًّا مألوفًا قائمًا بذاته.
- للخيال نصيب: القصّ.. رحلة إلى القمر أيضًا
لا يمكن أن نستعرض تاريخ أعلام كتّاب القصة دون الحديث عن الطيب التريكي الذي شغل منصب رئيس تحرير جريدة "قوس قزح" الشهيرة على مدى أكثر من عقد. وقصّته سندباد الفضاء (1977) يعتبرها العديد من النقاد والمهتمين بفن القصّ من أهمّ المحطات. ذلك أنها وجّهت هذا الفنّ إلى الأطفال وطوّعت الخيال في سبيل تعزيز طموحات أجيال للتفوّق والوصول إلى القمر.
من الخيال إلى الواقعية، برز جيل جديد من الكتاب الذين انهمكوا في تطويع السرد لرصد تغيرات مجتمع خرج من كهوف الديكتاتورية إلى نور الثورة والحرية
إنّ ما يميّز قصّة "سندباد الفضاء" هو قدرة كاتبها على نسج أحداث شيّقة بلغة بسيطة ومنمّقَة في آنٍ. وقد لاقى النص نجاحًا باهراً أدّى إلى إعادة طبعه مرارًا. نفس النجاح تكرر مع بوراوي عجينة (1951) الذي كتب العديد من المجموعات القصصيّة لعلّ أبرزها ممنـوع التصوير (1982). وتحصّل على جائزة على جائزة أبو القاسم الشابي لعام 2006 عن مجموعته القصصية "لمسات متوحشة".
كان لفنّ القصّ مع جيل الثمانينات مكانة هامّة لم تتلخّص في الجوائز التي حصدها الكتّاب فقط بل في عودة القصّة كوسيلَة لمحاولة التوعية وتعرية واقع المجتمع. هذا ما فعله الكاتب حسن بن عثمان (1959) في مجموعَتِه "عباس يفقد الصواب".
من الخيال إلى الواقعية، برز جيل جديد من الكتّاب الذين انهمكوا في تطويع السرد لرصد تغيرات مجتمع خرج من كهوف الديكتاتوريّة إلى نور الثورة والحريّة.
- جيل جديد.. قصص متغيّرة
يتأقلم القصّ مع تغيّر الأحدَاث ويكون حاضرًا كمرآة تعكس تفاصِيل التونسي، وهو ما يتواصل اليوم مع جيل جديد من الكتّاب ممّن تمكّنوا من التعبير عن واقع تونسي متغير بعد أكثر من عقد من الثّورة
يتأقلم القصّ مع تغيّر الأحدَاث ويكون حاضرًا كمرآة تعكسُ تفاصِيل التُّونسِي. وهو ما يتواصل اليوم مع جيل جديد من الكتّاب كأيمن الدبوسي وطارق اللموشي وغيرهما ممّن تمكّنوا من التعبير عن واقع تونسي متغير بعد أكثر من عقد من الثّورة. فقد بدأ أيمن الدبوسي بكسر حاجز الصمت من خلال القصّة. وذلك عبر مجموعة "أخبار الرازي" التي سرد فيها ما يحصل خلف أسوار مستشفى الرازي. وقد أحدث هذا الكتاب ضجّة.
ههنا، يعود السرد -وفنّ القصّ بصفة خاصّة- ليحرّك المياه الآسنة. هذا ما فعله أيضًا القاص التونسي طارق اللموشي الذي أصدر مجموعتين قصصيّتين "ديمنسيا" وأنسومنيا"، وهي قصص رعب يطلق فيها اللموشي العنان لخياله ليرسم عوالم خاصّة به نالت إعجاب القرّاء. يمثّل كل من الدبوسي واللموشي جيلًا كاملًا من الكتّاب التونسيين الذين عوّلوا على القصّة لالتقاطِ أهمّ التغيرات التي طرأت على المجتمع التونسي.
من ثلاثينات القرن الماضي مرورًا بسبعينات الازدهار وتبلور ملامِح تيار أدبي تونسي، وصولًا إلى جِيل ما بعد الثورة التونسية، كانت القصة التونسية تختلف وتتطور بتطور المجتمع واهتماماته.