10-سبتمبر-2019

جواهر ورقية في أكداس "الفريب" قادمة من وراء البحار تجد طريقها في مكتبات المثقفين (مريم الناصري/أ.ف.ب)

 

سوسيولوجيا "الفريب" (بيع الملابس المستعملة) في تونس هي مجال خصب لدراسة شخصيّة التونسي الذي تربطه علاقة قديمة ووطيدة وأيضًا غريبة بـ"الفريب" حيث يقضي الساعات الطوال "مبربشًا" بين أكداس ومعروضات مستعملة وافدة من وراء البحار وخاصة من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا.

واقتحم "الفريب" حياة التونسيين منذ الاستقلال، إذ كانت الولايات المتحدة، في نهاية خمسينيات القرن الماضي، تمنح تونس إعانات وهبات منها أطنان من الألبسة المستعملة إلى جانب إعانة هامة للمطاعم المدرسية تتمثل في الحليب المبستر والزبدة والجبن والحبوب. وقد كانت التسمية الرائجة للألبسة الأمريكية، وإلى حدود قريبة، هي "الروبافيكيا".

باتت الكتب بمختلف اللغات الأوروبية وفي طبعات فاخرة وأنيقة من السلع اللافتة للأنظار المتوفرة في أغلب أسواق "الفريب" في تونس

ثم مع حلول الثمانينيات ودخول تونس غمار الانفتاح الاقتصادي وتخلي الدولة عن أدوارها الاجتماعية العميقة والذهاب الى أحضان الرأسمالية، تغير واقع "الفريب" ليصبح تجارة واضحة لها باروناتها ومصانعها وكبار تجّارها وأرقام معاملاتها المالية السنوية الضخمة.

وأصبحت أسواق و"نُصب الفريب" تمتدّ على كامل جغرافيا البلاد، في كل مدينة وقرية، ولا تخلو منها الأنهج والأزقة بالأحياء الشعبية والضواحي، وتطرح أغلبها على الزبائن معروضات متنوعة تضمّ أساسًا الألبسة والأحذية ولعب الأطفال.

ولكن بات "الفريب" في سنواته الأخيرة يؤمّن موادًا وسلعًا أخرى غير مألوفة مثل البلّوريات، والإلكترونيات من الموديلات القديمة، والتحف، والديكورات المنزلية والدراجات الهوائية للأطفال. ولكن باتت أيضًا الكتب بمختلف اللغات الأوروبية من السلع اللافتة للأنظار المتوفرة في أغلب أسواق "الفريب" في تونس.

فلا تخلو سوق من أكداس الكتب الموجّهة لجميع الشرائح العمرية، ومن اختصاصات متعددة منها ما يتعلق بالعلوم والآداب والعلوم الإنسانية وغيرها، وذك في طبعات فاخرة وأنيقة بات لها طالبيها من المثقفين والكتاب الذين تجدهم يتصلون بأصحاب محلات "الفريب" لمعرفة مواعيد فتح "البالة" حتى ينالوا ضالتهم من الكتب والمصنفات الأدبية.

"ألترا تونس" يغوص في هذا العرض في عالم بيع الكتب المستعملة القادمة من الخارج في تونس، عالم "فريب الكتب".

كتب تسرّبت مع لعب الأطفال

تنقلنا، في البداية، إلى "الحفصية" بالمدينة العتيقة حيث أقدم أسواق "الفريب" بالعاصمة وأكبرها، ولم تكن الكتب هي المهيمنة لكنها باتت موجودة ومكدّسة بأغلقتها الفاخرة والمزيّنة. قلّبت بعض الأكداس فكان أغلبها باللغة الفرنسية، لكني وجدت كتبًا باللغة الأنقليزية والألمانية وحتى الروسية، ووجدت أيضًا عددًا من المعاجم والروايات وكتبًا في التاريخ والدين المسيحي وأخرى للأطفال بديعة الإخراج.

لم تعد تخلو سوق "فريب" من أكداس الكتب الموجّهة لجميع الشرائح العمرية

 

سألنا صاحب أحد المحلات بـ"الحفصية" واسمه الأمجد عن مأتى الكتب وحضورها اللافت في السوق، فقال إن "بيع هذه الكتب نشاط جديد كنا نحتقره ولكن اكتشفنا أن لديه حرفاء ويوفّر الربح لنا". وأوضح لنا أن الكتب كانت في البداية تُفرض من طرف باعة الجملة إذ كانت "تتسرّب" داخل بضاعة لعب الأطفال لأنها تثقل ميزان البضاعة.

الأمجد (صاحب محل "فريب" في الحفصية): بيع الكتب هو نشاط جديد كنا نحتقره ولكن اكتشفنا أن لديه حرفاء ويوفّر الربح لنا

اقرأ/ي أيضًا: دكاكين الكتب القديمة في "الدباغين".. أرشيف لحفظ الذاكرة

وأضاف أن الباعة كانوا، في بادئ الأمر، يلقون بهذه الكتب في كدس الفضلات ثم في المخازن وذلك قبل الاتجاه إلى بيعها لاستعادة رأس مالها وتحقيق بعض الربح. وقال الأمجد لـ"ألترا تونس" إنه اكتشف أهمية سوق الكتب المستعملة بعد ملاحظته أن بعض الكتب المسرّبة في أكداس لعب الأطفال تُباع بسرعة ولها زبائن تسأل عن مواعيد فتح السلع الجديدة.

ويروي الأمجد مازحًا: "أنا لم أدرس كثيرًا في المدرسة ولكن أدرس جيدًا عيون المشتري وشعرت أن الكتب مهمة. وقد استعنت بصديق مثقّف أكد لي أن هذه الكتب مهمة وباهضة الثمن".

وأضاف أنه منذ اكتشافه لأهمية الكتب بدأ في طلبها من عند بائع الجملة وفسح لها المجال في دكّانه، موضحًا أنه ظل يبيعها بـ"العِين"، وفق تعبيره، أي دون دراية بالعناوين واللغة والإخراج الفني للكتب، وهو يقدّر أن زبائنه يشترون بضاعة ثمينة لكن لا يعلنون عن ذلك وإن كانت لهفتهم تكشفهم.

كتب تجد رواجًا رغم المنع القانوني

توغلنا، بعد حديثنا مع "الأمجد"، في سوق "الحفصية" ودلفنا إلى دكان فسيح مليء بشتى أنواع الألبسة لمختلف الأعمار، وجدنا نسوة يناقشن الأثمان مع صاحب المحل وكان هو يصرّ أنها ماركات عالمية ويقول لهنّ "ادخلن على الأنترنت وتثبّتن بأنفسكن". وكانت توجد في مكان ظاهر طاولة مكدّس عليها مئات العناوين من الكتب أغلبها باللغة الفرنسية.

 كتب تأتي من وراء البحار مع المادة الخام لـ"الفريب" 

 

سألنا "الصّانع" (مساعد صاحب المحل) عن مصدرها فذكر أنها "سلعة كندية"، وأضاف أن المصنع الذي يهيئ السلع لعرضها في السوق التونسية يجلب "الفريب الخام" من كندا مبينًا أن الكنديين يتخلصون أحيانًا من مكتبات بأكملها. وصاحب المحل، الذي التحق بنا بعد إتمام حديثه مع النسوة وهو يُدعى محمد علي متخرج من الجامعة مخيرًا العمل في مجال "الفريب" كباقي أفراد عائلته، أخبرنا أنه يطلب الكتب المستعملة مباشرة من أصحاب المصانع لأن باعة الجملة لا يحبذون بيعها.

وقال إن الكتب تأتي من وراء البحار مع المادة الخام لـ"الفريب" مضيفًا أن القوانين المنظّمة للإتّجار بـ"الفريب" تمنع تداول الكتب والجلود والأحذية والمواد المنزلية والفلاحية. وأوضح أن مصالح الديوانة التونسية تراقب مصانع "الفريب" وتجبر أصحابها على إتلاف هذه المواد الممنوعة أو إرجاعها للبلد الأصلي، لكنه أكد أن الانفلات في السنوات الأخيرة جعل هذه السلع تُروّج في الأسواق التونسية.

وأكد محمد علي، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أنه له زبائن قارّين من الأساتذة الجامعيين والكتّاب والطلبة فضلًا عن الزبائن العاديين اليوميين الذين يدفعون أموالًا محترمة من أجل بعض العناوين أو السلسلات الفاخرة.

يخبئ صاحب محل "الفريب" أحيانًا بعض العناوين لزبون بعينه، وأخرج لنا، لتأكيد كلامه، كيسًا بلاستيكيًا يضمّ سبعة مجلدات زرقاء كبيرة وفاخرة لموسوعة طبية كندية حجزها خصيصًا لأحد المكوّنين في علوم الصحة

وقال صاحب محل "الفريب" إنه يخبئ أحيانًا بعض العناوين لزبون بعينه، وأخرج لنا، لتأكيد كلامه، كيسًا بلاستيكيًا من تحت طاولة الكتب يضمّ سبعة مجلدات زرقاء كبيرة وفاخرة لموسوعة طبية كندية حجزها خصيصًا لأحد المكوّنين في علوم الصحة، وذكر لنا محدثنا أن ثمنها الحقيقي يتجاوز 1000 دينار لكنه سيبيعها بـ200 دينار فقط، كما أعلمنا.

كما أشار محمد علي إلى المشترين من أصحاب محلات بيع الكتب القديمة وباعة سوق الكتب بنهج الدباغين بالعاصمة من يتزودون من عنده أو من بعض المحلات الأخرى ليضاعفوا الأسعار ويربحون المال الوفير.

اقرأ/ي أيضًا: فيديو: بيت البناني.. مكتبة تراثية من عبق التاريخ

"كتب الفريب".. تحف من ورق تُباع بالميزان

وبعد جولتنا في "الحفصية"، قطعنا شارع المنجي سليم متوجهين إلى سوق الدباغين بحثًا عن تجار "كتب الفريب" الذين أدخلوا هذا النوع الجديد من الكتب لهذا السوق الذي كانت تنحصر مصدر بضاعته في السوق المحلية. هو عالم فسيح للكتب القديمة من صحف ومجلات وكتب مدرسية من اختصاصات مختلفة، يأتيه جامعو "الكتب التحف" المطبوعة منذ عقود.

يأتي إلى هذا السوق مترصدو "الأنتيكا" من الصحف التي كانت تُنشر زمن الاستعمار الفرنسي وخلال حكم البايات الحسينيين أو تلك الصحف القديمة الصادرة في المشرق العربي وأوروبا. قد تعثر على وثائق نادرة تهم شخصيات سياسية أو أدبية، أو جمعيات رياضية، أو أرشيف مؤسسات أو دور عبادة، لا أحد يقدر قيمتها التاريخية ولكنها تباع لمجهولين لتتسرب إلى قاعات المزادات ومروّجي "الأنتيكا" عبر الأنترنت.

تنتشر "كتب الفريب" بكثافة في "سوق الدباغين" (مريم الناصري/ألترا تونس)

 

توجهنا مباشرة إلى مكتبة الطاهر، خمسيني معروف ببيعه "كتب الفريب" ليروي لنا قصته مع هذا الصنف من الكتب قائلًا "كنت بائع كتب أفترش الرصيف صباح كل يوم مثل بقية باعة السوق، أنتظر الوافدين على السوق لبيع كتبهم وكنت أشتري هذه الكتب لأبيعها كي أعيش. ولكن انتبهت في يوم ما حينما كنت بسوق الحفصية لوجود كتب ذات جودة بين أكداس لعب الأطفال فاقتنيتها جميعها وبعتها بالسوق ونجحت التجربة فكررتها مرارًا وحصدت بعض المال ما مكّنني من تسوّغ دكان حوّلته إلى مكتبة جل كتبها من الفريب".

ويقول محدثنا إنه فهم مسالك هذه الكتب، وبات يتوجه مباشرة إلى المصانع التي تشتغل في مجال الألبسة المستعملة لشراء كميات هامة بالميزان مبينًا أن ثمن الكيلوغرام الواحد من "كتب الفريب" يتراوح بين 0.5 دينار (0.17 دولار) ودينار واحد (0.35 دولار).

ويضيف الطاهر أن محلّه يأتيه اليوم المثقفون بجميع أصنافهم من سياسيين ومحامين وغيرهم إضافة لتجار الكتب عبر الأنترنت وجامعي التحف الفنية الورقية. وأخبرنا أن من أشهر مبيعاته الأعمال الكاملة للكاتب الفرنسي فيكتور هيقو في نسخة مجلّدة ومذهبة بطريقة حرفية فريدة، ورواية "الزنبقة السوداء" للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما في نسخة نادرة مكتوبة يدويًا بحبر أزرق مبينًا أنه اقتناها جامع للتحف.

 من أشهر مبيعات مكتبة الطاهر في "الدباغين" الأعمال الكاملة للكاتب الفرنسي فيكتور هيقو في نسخة مجلّدة ومذهبة ورواية "الزنبقة السوداء" للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما في نسخة نادرة مكتوبة يدويًا بحبر أزرق

كما أضاف أنه باع أيضًا عشرة مجلدات ضخمة لدائرة المعارف الأنقليزية تعود الى القرن الماضي إضافة لمجموعة من الأناجيل النادرة وخرائط وصور مرسومة باليد تعود لكنائس مسيحية قديمة. ويشير محدثنا إلى أنه بات معروفًا لدى أساتذة اللغات بالجامعة التونسية وخاصة لدى أقسام الفرنسية والأنقليزية بكليات ومعاهد العاصمة حيث يأتيه الطلبة لاقتناء الروايات وكتب الحضارة.

بالنهاية، إن "كتب الفريب"، التي تقطع المسافات عبر البحار والمحيطات نحو تونس، ورغم تسرّبها غير القانوني للسوق المحليّة، خلقت مناخًا ثقافيًا ومعرفيًا فنّد مقولة أن التونسي لا يقبل على القراءة وأنّ علاقته سيئة بالكتاب الورقي. هي تحف ورقية مثلت أيضًا فرصة لقنّاصة "الأنتيكا" من الكتب لآجل إعادة ترويجها عبر مسالك محلية بل ودولية، ضمن بضاعة تأتينا مع الألبسة المستعملة ولعب الأطفال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشبكة العربية للأبحاث والنشر في تونس.. "نهدف لخلق حالة تكامل مع القارئ"

ضياع حقوق الكاتب التونسي.. مأزق للثقافة يبحث عن حل