19-فبراير-2020

غوص في عالم "النصّابة" أو باعة الرصيف في تونس (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

تغرق كلّ الأنهج المحاذية للسوق المركزية بالعاصمة أو "المارشي سنترال" كما يحلو للعاصميين تسميته، والأخرى القريبة من محطّة الميترو بـ"ساحة برشلونة" ومحيط "ساحة المنجي بالي" وأيضًا تلك الموجودة على تخوم "شارع الحبيب بورقيبة" في أمواج لا متناهية من "النّصب" المتحرّكة على عجلتين أو طاولات أو"البسطات" التي تفترش الرصيف وجزء من الطريق وما جاوره.

وتبيع هذه "النصب" سلعًا متنوّعة من الألبسة، والأحذية، والسّجائر، والأدوات المنزلية، ولعب الأطفال، والعطور المقلّدة، والأدوات المدرسيّةّ، والفواكه الجافة والشوكولاتة، وجلّها سلع صينية مهرّبة ضمن مسالك عالمية لشبكات التهريب، وتحتل التجارة الموازية في تونس، للتذكير،ما يقارب 40 في المائة من الاقتصاد الوطني وفق أرقام تزيد أو تنقص بقليل.

تغرق كلّ الأنهج المحاذية للسوق المركزيّة بالعاصمة أو "المارشي سنترال" كما يحلو للعاصميين تسميته، والأخرى القريبة في أمواج لا متناهية من "النّصب" المتحرّكة على عجلتين أو طاولات أو"البسطات"

وهذا المشهد الجارف والمتمدد والمغمور بالصخب وضجيج الباعة والخانق لحركة مرور السيارات والمترجّلين ينطلق من أماكن بعينها بالعاصمة أهمها "سوق سيدي بومنديل "، و"نهج الجزيرة" بكل تفريعاته، و"سوق الصباغين"، ومنطقة "الخربة" جنوبي شرق المدينة العتيقة.

اقرأ/ي أيضًا: سيجارة البين (Pine).. سيّدة شفاه الفقراء والكادحين

إذ تنطلق من هذه الأماكن في الصباحات الباكرة أسراب "النّصب" وتتسارع خطى "النّصابة" حثيثة لحجز أماكنها على الأرصفة. ويندلع، في أغلب الأحيان في عمق هدوء الصباح العاصمي، عراك وصراخ من أجل مكان استراتيجي سرعان ما يفوز به "النّصاب" الأقوى والأقدم والأكثر سطوة.

ثم توظب إثر ذلك السّلع على "النصبة" أو "البسطة" لتنطلق الحناجر في دعوة المارّة للاقتراب والشراء قبل انطلاق مواعيد حملات الشرطة البلديّة التي تباغت هؤلاء الباعة العشوائيين بعد التاسعة صباحا لتبدأ عمليات كرّ وفرّ مفزعة، ولكنها مدهشة جماليًا إذ يعجز أعتى المخرجين السينمائيين عن تنفيذ هذه المشاهد لسرعتها وعفويتها والأحاسيس الفائضة منها التي تختلط فيها الشجاعة بالخوف.

وأنت تتجوّل في هذا السوق المتحرّك، تلتقط أذنك لهجة محلّية بعينها وهي تلك المتداولة في أغلب أرياف ولايات الوسط الغربي التونسي، تحديدًا ولايات سيدي بوزيد والقيروان والقصرين، مما يوحي بتجانس ما بين أولئك الباعة أو خيط رفيع يجمعهم.

وعندما تقترب أكثر من هذا العالم، تكتشف أنّ أغلب "النصابة" لم يتجاوزوا سنّ العشرين، وعندها تأتي الإجابة الواضحة والقاسية عن أسئلة لطالما تداولناها تتعلّق بظاهرة التسرّب المدرسي. إذ تسجّل المدرسة التونسية سنويًا رقمًا مخيفًا بأكثر من 100 ألف تلميذ يغادر مقاعد الدراسة من مختلف المستويات التعليمية دون تناول وزارة التربية بعد لهذه الظاهرة الخطيرة بالشكل المطلوب.و يتحوّل عديد "المتسرّبين" إلى "نصابة" بالعاصمة والمدن الكبرى، ويسهل استقطابهم وانصهارهم سريعًا في دوائر المافيات الصغيرة المرتبطة بالتهريب في ظل هشاشة وضعهم النفسي والاجتماعي.

 يتحوّل عديد "المتسرّبين" من الدراسة إلى "نصابة" بالعاصمة والمدن الكبرى (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

ففي هذه السوق الهامشية، ترى شبابًا يغادر بهاء عمره مكرها فتتحطّم أحلامه الكبيرة المستحقّة وراء "نصبة" أو "بسطة" لتنتهي في النهاية "هباء منثورًا " مع أول هروب لأوّل هجوم يقوم به أعوان الشرطة البلدية، فتبدأ مع ذلك مغامرة حياتية سابقة لأوانها لكن باطنها مغمور بأحاسيس قاسية ومشاعر المهانة والغربة في وطن لا يبالي بشبابه. وقد أثبتت احصائيات تونسية ودولية أن 58 في المائة من الشباب التونسي يشتغل في الهامش الذي نجد داخله جزءًا لا بأس به ينخرط مكرهًا في ما يسمّى بـ"الاقتصاد الرمادي" وما تعلّق به من مخاطر.

وعندما تتعمق أكثر في هذا العالم الذي يقيم في دوائر التجارة الموازية وترى حجم السلع وتنوّعها التي تغصّ بها الأنهج المذكورة، ومدى تدفّق آلاف الزبائن المقبلين بنهم، ودون طرح أسئلة عن مأتى تلك السلع ومدى سلامتها، تستحضرك مباشرة الأرقام المخيفة حول حجم الأموال المتداولة التي قدّرت مرابيحها خلال سنة 2018 بـ 2 مليار دينار وهو مال يتحرّك خارج التداول القانوني والرسمي للدولة لتجني ثمراته قلّة قليلة متنفّذة.

وإذا نظرنا من جانب اجتماعي صرف، تختفي وراء كل "نصبة" أو "بسطة " قصص وحكايا تدمي القلب وتليّن الصخر، وهذا هو المنحى الذي نحاه "ألترا تونس" من خلال تجواله في هذه الأنهج الصاخبة بالألم والسلّع، وأيضًا من خلال تأمل وجوه النصّابة والوقوف على تغريبتهم في وطنهم.

أحمد (اسم مستعار): قد أعود يومًا إلى الجبل

التقينا "أحمد" (اسم مستعار) وكان فتى في أوج يفوعته بعينين شهلاوين ويرتدى دجينزًا ممزقًا مجاراة لتقليعات الموضة، كان نحيفا كقلم هو أصيل أرياف مدينة سبيبة من ولاية القصرين، تسرّب حديثًا من مستوى السنة التاسعة أساسي بعد أن أخفق مرّتين. وكانت نصبته مكوّمة بأدوات منزلية بلاستيكية زاهية الألوان وصوته الجميل ينبعث وسط صخب بقية الباعة وهو ينادي "كل شيء بدينار يا مدام".

 تبدأ عذابات أحمد (اسم مستعار) اليومية من أنداده الذين ينافسونه في هذه المهنة وأحيانًا من الزبائن الذين لا يتوانى بعضهم على سرقته إذا لم يكن منتبهًا بما فيه الكفاية عدا عن مباغتات الشرطة البلدية

سألته عن مأتى السلع، فردّ بأنّه لا يعرف مبينًا أنه يتسلّمها فقط في الصباح الباكر من أحد أصحاب المخازن بـ"الخربة" ليتنقل بها إلى حدود "المارشي سنترال" حيث تبدأ عذاباته اليومية من أنداده الذين ينافسونه في هذه المهنة، وأحيانًا من الزبائن الذين لا يتوانى بعضهم على سرقته إذا لم يكن منتبهًا بما فيه الكفاية، عدا عن مباغتات الشرطة البلدية التي قد تعصف بأحلامه بالمدينة.

يقول أحمد بلهجته الريفية "نايا جيت من سبيبة مع ولاد عمي وهنا تفرّقنا نخدمو صنّاع عند جماعة جلامة (نسبة إلى مدينة جلمة من ولاية سيدي بوزيد) عندهم سنين في السوق. نهار نصورو الخير والبركة، ونهار يبدا شايح ما نصورو شي. وبعد نهار من الوقفة والخوف من البلدية، نزيدو نتسلفو الفلوس من عند العرف باش نتعشو ونخلصو كرانا".

وعندما استأنس أحمد لأسئلتي، روى أن ظروف عائلته بسبيبة صعبة للغاية فأمّه تشتغل بقطاع الفلاحة "يمّا تخدم عند النّاس بالنّهار في سواني التّفاح"، وهو يعتبر نفسه عائل إخوته الثلاثة بعد رحيل والده منذ سنة ونصف. ويضيف أحمد أنّ حلمه بالثروة الذي غامر من أجله في المدينة يبدو تحققيه مستحيلًا في هذا البحر من "النّصب" خاتمًا حديثه معنا "ممكن نرجع للجبل".

"سليم" (اسم مستعار): يلعن الفقر!

"سليم" (اسم مستعار) هو "نصّاب" آخر التقيناه، شاب أسمر طويل بقبّعة رياضيّة توجد "نصبته" الخشبيّة قبالة محل "كافيتيريا" في محيط السوق المركزيّة، ويبدو أنه قد اختار هذا المكان عمدًا لأنّه يبيع قدّاحات متنوعة تحمل شعارات أندية كرة قدم أوروبية، وسجائر صينية الصنع من مختلف الماركات وعلب مباسم للتّخفيف من نيكوتين السجائر، إذ يظهر أن أغلب زبائنه من رواد هذه "الكافيتيريا".

أغلب "النصّابة" هم "صنّاع" عند أباطرة التهريب (رمزي العياري/ألترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا: "موهّر فرار".. ما معنى أن تكون "فرار" في تونس؟

سليم هو أصيل منطقة "وادي الزرقاء" من ولاية باجة لم يحالفه حظ النجاح في الباكالوريا، فخيّر العمل بالسوق في انتظار فرصة للتكوين المهني أو المشاركة في إحدى المناظرات الأمنية.

يروي أنّه جاء للسوق عن طريق وساطات عائلية، ومباشرة اشتغل في مجال السجائر قائلًا: "نا بيدي مانيش عارف منين يجي الدّخان، المعلم إلي نخدم عندو ما يعرف شيء كان السلعة تتباع ونحاسبوه على الصوارد (النقود)". ويضيف أنه من خلال إطلالته على عالم السوق، اكتشف أن أغلب "النصّابة" هم "صنّاع" عند أباطرة التهريب والوسطاء الكبار، وأن قلّة قليلة منهم من تملك رأس مال وتدير تجارتها بنفسها.

يدرك سليم خطورة السوق وما يحفّ بها، لكن وجد نفسه، حسب اعتقاده، مكرهًا على العمل مع المهربين في هذه السوق غريبة الأطوار، فهو يرى أن أحلامه تتهاوى الواحدة تلو الأخرى: "كنت نحلم باش نولّي أربيتر (حكم) كرة قدم لكنّ نعلبو (يلعب أب) الفقر".

"نصّاب" أمام مغازة يعمل بها

أمّا الطاهر (اسم مستعار)، فكان يضع طاولة مستطيلة بسيقان حديدية أمام إحدى الدكاكين بنهج "شارل ديغول" الشهير يبيع أغطية رأس نسائية متعددة الألوان، وهو كهل نحيف يتبادل رشفات القهوة السوداء مع صاحب المغازة التي "ينصب" أمامها لأكتشف بسرعة أن طاولة الطاهر هي امتداد للمغازة ذاتها.

الطاهر (اسم مستعار):  أنشأنا "النصبة" حتى ننقذ تجارتنا التي نعيش منها جرّاء زحف "الجّلامة" و"الباندية" على نهجنا وغلق أبواب الرزق أمامنا

يذكر محدثّنا أنه "صانع" في هذه المغازة منذ أكثر من عقدين، "أنشأنا هذه –النصبة- حتى ننقذ تجارتنا التي نعيش منها جرّاء زحف "الجّلامة" و"الباندية" على نهجنا وغلق أبواب الرزق أمامنا"، ويضيف محدثنا "عرفي كان باش يطردني خاطر ما عادش ثمة مدخول، فولّيت (أصبحت) نخدم عندو قدام الحانوت وكان ما نعملش هكا نموت بالجوع أنا وعايلتي".

وتدخّل صاحب المحل في الحديث، ليؤكد لنا أن أصحاب المحلات "يعيشون حروبًا يوميًا مع النصابة" مضيفا أنهم استنفذوا معهم كل الحلول القانونية وشخصيًا: "ما لقيت حتى حل كان نعمل نصبة كيفهم وحتى بقية الحوانت عاملين كيفي ...لقد أنقذنا تجارتنا بطريقتنا".

تكسّرت أحلامنا وغلبتنا المدينة

التقينا أيضًا، خلال جولتنا، بـ"سمير" (اسم مستعار) وهو شاب في العشرينيات من العمر يبيع الشوكلاطة بأنواعها على "نصبة" بعجلات هوائية، وتبدو خلفه مباشرة لافتة مكتوب عليها "سينما الحمرا"، وتلك قصة أخرى تروي معاناة هذه القاعة الثقافية من النصّابة والسوق.

اقرأ/ي أيضًا: لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع

قدم هذا الشباب من مدينة "جلمة" ليلتحق بشقيقه وبأبناء عمومته بحثًا عن الثروة وتنميتها، وهو الآن يشغل "نصبة" على الرصيف يعمّرها من ماله ليفهم كيف تدار أمور السوق، وهو يؤكد لنا أن الشباب والرجال الذين يقفون وراء "النصب" الذين تطاردهم البلدية يوميًا: "وراهم عايلات ومطيشين، يخدمو صناع عند الكبار، عايشين في الحضيض متاع المدينة".

"لطفي" (اسم مستعار) هو الآخر من مدينة "جلمة"، عمره 17 سنة ترك محفظته ودفعت به عائلته ألى أتون السوق مع أحد الأقارب من أصحاب المحلات بـ"سوق بومنديل".

 يفترش الشاب الصغير الرصيف باسطًا بين الناس مواد تنظيف مهرّبة ومواد منزلية، لكن وبعد أشهر من العمل ندم على مغادرة الدراسة لأنه تيقن أن السوق صعبة والطريق الى الثراء ليس هيّنًا، وأنه قد يقضي عمره "صانعًا" و"نصّابًا" في هذه الأنهج المليئة بالبؤس والمهانة.

يضيف محدثنا بحسرة: "ما لقيتش شكون ينصحني ويوجهني للصحيح"، لكنه وعد نفسه أنه سيعدّل الأمر قريبًا بعد أن اتضحت أمامه العديد من المسائل، كما يقول.

سفيان الفراحتي (مختص في علم الاجتماع): الدولة الزجريّة أهملت أبناءها 

حمل "ألترا تونس" هذه القصص التي يختلط فيها النفسي بالاجتماعي الى الباحث في علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية سفيان الفراحتي الذي أفادنا، بداية، أن "مجتمع "النّصابة" قد يبدو في ظاهره هامشًا اجتماعيًا واقتصاديًا لكنه وبالمفاهيم السوسيولوجية هو جماعة في مواجهة مجتمع يروم التنظيم والتعايش والقابلية للحياة".

يدعو سفيان الفراحتي إلى الرصد الاجتماعي داخل جماعة "النصّابة" لفهم الحالات في مستواها النفسي والاجتماعي وتدبر الحلول في الجهات والقرى الداخلية التي توفد شبابها لعالم التجارة الموازية

ويضيف أن هذه الجماعة خلقت داخلها آليات تضامنها رغم تنافرها وهشاشة البنى النفسية والاجتماعية الأصلية لأنها جمعت فيما بينهم غايات ومصالح وأخطار مشتركة وفق قوله، موضحًا أن هذه الجماعة لم يتم دراستها علميًا إلى اليوم وهو ما جعل التعاطي معها أمنيًا صرفًا.

وكي تكون جماعة "النصّابة" عنصر قوة في الاقتصاد الوطني وفق محدثنا، لابد من تطبيق ما يسمّيه عالم الاجتماع "لازازسفيلد" بـ"مبدأ الوئام والمساهمة" الذي يقتضي الاعتراف والتماثل الرمزي والليونة في الحوار والتضحية.

كما يدعو الفراحتي إلى الرصد الاجتماعي داخل هذه الجماعة لفهم الحالات في مستواها النفسي والاجتماعي وتدبر الحلول في الجهات والقرى الداخلية التي توفد شبابها لعالم التجارة الموازية بالمدن الكبرى وبالعاصمة تحديدًا. ووجه الباحث في علم الاجتماع أصابع الاتهام للدولة "التي أهملت أبنائها وكانت زجرية معهم ولم تتعاطى مع هذا الموضوع وما شابهه بالأساليب العلمية المتوخاة".

في نهاية المطاف، قد تبدو قصص "النصّابة" في مستواها السرّدي روائية أو سينمائية ومليئة بالشعرية، لكنها تظل هامشًا مرًّا لابد للمجتمع من استساغته وخلق الحلول العميقة من حولها بعيدًا عن المعالجة الترقيعية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شباب "الكالا".. عن سوسيولوجيا "النفّة" في تونس

آخر سكّان "الوكايل"... انتظار الموت تحت سقف متداعي؟!