27-يناير-2019

أصبحت كلمة "الجبل" وثيقة الصلة بالإرهاب عند التونسيين في السنوات الأخيرة (حاتم الصالحي/وكالة الأناضول)

 

تُساهم الوقائع الكبرى كالاكتشافات والحروب والثورات في إحداث تغييرات عديدة ومتنوّعة وعميقة في الأمم والأوطان والشعوب، وتتباين هذه التغييرات خطورة، إذ يمكن أن تشمل مجالات شتّى جغرافيّة وسياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة ولغويّة. نقول لغوية لأن اللغة يمكن أن يصيبها ما يصيب سائر الظواهر الفيزيائيّة والإنسانيّة من تقلّب وتبدّل، ذلك أنّ الكلمات تحافظ في الغالب على معانيها، غير أنّها تُشحن عبر الزمن والحوادث بإيحاءات ورموز متجدّدة، قس على ذلك مثلًا كلمة "الجبل" في الثقافة التونسيّة، فقد باتت منذ سبع سنوات تقريبًا وثيقة الصلة بدلالات الإرهاب.

المعطى الموضوعي الذي يؤكّد هذه الصلة يتجلّى من خلال تحوّل الجبل بالنسبة إلى الإرهابيين في البلاد التونسيّة إلى قاعدة للاجتماع والتدرّب والتخطيط، وأمست تلاله وثناياه منافذ للإفلات من الملاحقة، وباتت بعض غاباته ومغاوره حصونًا للتخفّي، وأصبحت مرتفعاته وروابيه محطّات رصد وانطلاقٍ لتنفيذ أعمال إجراميّة تستهدف القوّات العسكريّة والأمنيّة ولا تستثني المدنيين جماعات وفرادى.

باتت كلمة "الجبل" في تونس وثيقة الصلة منذ سبع سنوات بدلالات الإرهاب إذ تُشحن الكلمات عبر الزمن والحوادث بإيحاءات ورموز متجدّدة

لا شكّ أنّ العمليّات الإرهابيّة قد استهدفت من الجمهورية التونسية مناطق مختلفة متباينة جغرافيًا وجهويًا وتنمويًا وإداريًا وتحصينًا أمنيًا، فلم تنج منه العاصمة ولا المدن الداخلية أو الحدوديّة أو الساحليّة ولا المعتمديّات ولا الأرياف، غير أنّ أعظم الخسائر وأكثرها تواترًا وأخطرها عددًا وأسلوبًا حصلت في الجبال. ففي السادس عشر من شهر أفريل/ نيسان سنة 2014، سجّل الجيش التونسي أعلى الخسائر البشريّة، إذ وقع بسبب هجومين إرهابيين متزامنين أربعة عشر قتيلًا وثمانية عشر جريحًا.

اقرأ/ي أيضًا: بسبب الإرهاب.. سكان الحدود يهجرون مهنًا جبلية

وكان هذا الجبل نفسه قد شهد قبل حوالي سنة وثلاثة أشهر من هذه الحادثة الدمويّة أي في 29 جويلية /يوليو 2018 عملية إرهابية قتل فيها ثمانية عسكريين وتمّ التمثيل بجثثهم. تمثل هاتان الحادثتان عيّنتين من العمليّات الوحشيّة التي جرت في جبال الشعانبي وسمّامة والسلّوم بالقصرين وجبلي وَرغة وقصر قلاّل بالكاف وجبل المغيلة (بين سبيطلة وسيدي بورزيد).

هذه المعطيات ومثيلاتها ساهمت في تغيير رمزيّة الجبل ودلالاته ووظائفه، إذ لم يعد هذا المكان مجرّد "وتد من أوتاد الأرض إذا عظم وطال" كما حدّد ابن منظور القفصي في "لسان العرب"، وما عاد مجرّد لون من ألوان التضاريس يختلف عن البحار والهضاب والسهول.

ويمكن الإبانة عن ذلك من خلال محاور دلاليّة أربعة:

صَمَمُ التضاريس وفورة الأحاسيس

كانت الجبال المذكورة في ثقافة جلّ التونسيين مجرّد عنصر من عناصر درس جغرافيّ جافّ يحفظه تلامذة التعليم الأساسيّ والإعداديّ، وقد يُوظّف في اختبار ثقافي في البرامج الإذاعيّة أو التلفزيّة، فيُسأل المشارك على سبيل المثال عن أعلى مرتفع في تونس، فيجيب منشطًا ذاكرته تنشيطًا أليًا يكاد يخلو من المشاعر والانفعالات بأنّه جبل الشعانبي الذي يبلغ ارتفاعه 1544 مترًا.

يكفي أن تذكر في حضرة التونسيين كلمة "جبل" حتّى تتزاحم في أذهانهم صور الجنود الذين سقطوا قتلى أو جرحى أثناء تمشيط الجبال 

هذا الجبل أعرضَ بسبب الإرهاب عن تلك الصورة المألوفة وتحوّل إلى عنوان معلن عن أخطر العمليّات الإرهابيّة، فبات المكان محيلًا في الأذهان إلى الحدث التاريخيّ أكثر من إحالته إلى المساحة أو الجهة والحيّز. فيكفي أن تذكر في حضرة التونسيين كلمة "جبل" حتّى تتزاحم في أذهانهم صور الجنود الذين سقطوا قتلى أو جرحى أثناء تمشيط الجبال أو تعقّب الإرهابيين ومطاردتهم أو مواجهة المسلحين والتصدّي لهم.

هكذا يتّضح أن الحديث عن الجبل في الثقافة التونسيّة وفي مدارسها لن يكون بعد تلك الوقائع الدمويّة عرضًا بيانيًا لمساحات جغرافيّة ومواقع باهتة وأرقام جوفاء محايدة بل أصبح مساحة خصبة دلاليًا وفنيًا وشعوريًا معطّرة بدماء الشهداء شاهدة على حقبة تاريخيّة راهنة من عناوينها الكبرى الحرب على الإرهاب.

بذلك بُعثت في لفظ "الجبل" فورة من الانفعالات والأحاسيس تشكّلت حبًا وانتماءً وحسرةً وألمًا، فتخّلصت تلك المرتفعات رغم المشهد الدمويّ المأسويّ من وجوم التضاريس وسكونها وصممها.

الأرزاق وقطع الأعناق

تغيّر تصوّر التونسيين للجبل في بعده المادّي الاقتصاديّ وتحوّل في أذهانهم من مساحة جغرافيّة غنيّة بالثروات الطبيعيّة مباحة قريبةَ المأخذ إلى منطقة شبه عسكريّة محجّرة عزيزة المنال والاستغلال.

يهتدي الباحث إلى خطورة هذا التحوّل حينما يراجع السجلّ الجغرافي لأكثر الجهات تعرّضًا للعمليات الإرهابية، فولاية القصرين على سبيل المثال، تمتدّ الغابات فيها على حوالي العشرين في المائة من المساحة الجمليّة للولاية، هذه المساحة لا تكتسي منزلتها من شساعتها فحسب، إنّما تكتسي هذه الأهميّة لما حازته من عناصر طبيعيّة تعدّ فضلًا عن وظيفتها البيئيّة مصدر رزق متنوّع وفير لسكّان الأرياف المتاخمة للجبل، ففيه ترعى مواشيهم من أغنام ودوابّ ومنه يجنون الصنوبر والحلفاء والإكليل والبلوط.

تغيّر تصوّر التونسيين للجبل في بعده المادي الاقتصادي (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

اقرأ/ي أيضًا: تستور.. قطب واعد للسياحة الجبلية في تونس

ترسّبت في الثقافة التونسيّة الفصيحة والعاميّة شعرًا ونثرًا وغناءً صورة الجبل وغاباته التي تمثّل مصدر رزق حلال طيّب. ففي حكايات عبد العزيز العروي، يتكرّر مشهد الفلاح الجادّ القنوع الذي يكسب قوت عياله من خيرات الجبل في العديد من النصوص السرديّة الوجيزة التي صاغها صاحبها باللهجة العاميّة، إذ يقول القروي في فاتحة حكاية "عز نفسك تصيبها": "يحكيوْ على واحد حطّاب مكسبوُ فرد وليد، كيف كبر طلعه للكتاب وكل صباح يهز فاسه ويطلع بيه للجبل، النهار الكل وهو يخدم، في العشية يْهبّط هاك الحمل حطب للبلاد يبيعه ويصرف على عشاه والبقيه يعطيه للمدّب"، (العروي عبد العزيز، حكايات العروي، الجزء الثالث، الدار التونسيّة للنشر، ط2، 1989).

فقد الجبل بسبب الإرهاب كلّ تلك المزايا فأفرغ من دلالة الامتداد وشُحن بدلالة الضيق والانحسار، إذ تبلغ المساحات المغلقة عسكريًا في غابات سمامة والشعانبي والسلوم والمغيلة أكثر من خمسين ألف هكتار.

وتبعًا لذلك، سُلبت من الجبل معاني الخير والغضارة والخصب، إذ لم يسلم الرعاة من عسف الإرهابيين وقصفهم وغدرهم، ففي 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 تمّ اختطاف الراعي نجيب القاسمي وتمّت تصفيته في مرتفعات جبل سمامة، وعثِر عليه ميتًا مصابًا بطلقات ناريّة جثّته فيها آثار كدمات، وفي 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 أعدمت كتيبة عقبة بن نافع الراعي مبروك المنّاعي في مرتفعات المغيلة بسيدي بوزيد.

الأنغام والألغام

تغنّى الشعراء والمطربون التونسيّون بالجبال والغابات والمرتفعات وعُدّت بالنسبة إليهم فسحة تأمّل ومنبع جمال ومصدر إلهام. من آيات ذلك إحدى الأغاني التراثيّة المشهورة مطلعها "ريت الجبل والعين والأميّه" (رأيت الجبل والعين والماء) وغيرها من الأعمال الفنيّة التي تحفل بها المدوّنة الموسيقيّة التونسيّة.

أمّا شعرًا، فقد ناجى أبو القاسم الشابي الغاب وبحث فيه عن الأنس والسعادة المنشودة فأنشد في قصيدة "أحلام شاعر":

ليت لي أن أعيش في هذه الدنيا  *** سعيدا بوحدتي وانفرادي

أصرف العمر بين الجبال وفي الغابات *** بين الصنوبر الميّــــــــاد

(أبو القاسم الشابّيّ، أغاني الحياة، الدار التونسيّة للنشر، ط2، 1970، ص171)     

حوّل الإرهاب وجهة الذائقة التونسيّة في علاقتها بالجبل، وقامت كتب التكفير والتفجير مقام المؤلفات الفكريّة والنقديّة والجماليّة. فقد سقط عشرات الجنود قتلى وجرحى بسبب الألغام المزروعة خاصّة في جبال القصرين، ففيها قُتل وَكيل أوّل بالجيش بتاريخ 23 ماي/أيار 2014، وأصيب معه خمسة أعوان آخرين، وسقط ضحيّة لغم أربعة عسكريين بجبل ورغة في أول جويلية/يوليو 2014، وقتل عسكريّ وجرح أخر بجبل سمامة يوم 1 ديسمبر/كانون الأول 2014. هكذا حلّت الألغام محلّ الأنغام وتنمّر الإرهابيون محلّ تأمّل المبدعين.

اقرأ/ي أيضًا: هل سقط هواة الصّيد في تونس ضحيّة التهور والإرهاب؟

العنف الحقّ والعنف الباطل

الناظر في السينما والدراما التونسيّة التاريخيّة واجد لا محالة أعمالًا فنيّة صوّرت الجبل مقصدًا للأبطال لمقاومة الاحتلال الفرنسي، ومحطّة لقاء للمقاومة المسلحة في كل من تونس والجزائر.

ولعلّ أعلق الإبداعات بالوجدان التونسيّ فيلم "الفلاقة" الذي أخرجه عمّار الخليفي سنة 1970 وفيه عرض قصّة المناضل مصباح الجربوع. أما دراميًا، فقد جسّد المخرج الحبيب المسلماني فنيًا وجوه التضامن والتنسيق بين المقاومة التونسيّة والجزائرية في العديد من المعارك في المناطق الحدوديّة الجبليّة، هذه المناطق نفسها باتت مساحة للتنسيق بين الجماعات الإرهابيّة الناشطة في تونس والجزائر، وتبعًا لذلك حُقّ الحديث من منطلق وطنيّ عن تحوّل الجبل من احتضان العنف الحقّ المتطلّع إلى تحرير الوطن من الاستعمار إلى الوقوع تحت طائلة العنف الباطل الداعي إلى إكراه الناس على تبنّي تصوّرات دينيّة متشدّدة.

يمكن للجبل في ثقافتنا أن يستعيد رمزيّته الأصليّة غير أنّ السبيل إلى ذلك يقتضي فضلًا عن الملاحم الأمنية والعسكرية وعيًا فنيًا وثقافيًا وخططًا تربوية وتنموية

هكذا يتبيّن من خلال ما تقدّم أن الإرهاب قد أفقر الجبل من دلالات الخير والحقّ والجمال وألبسه معاني الشرّ والقبح والباطل، غير أنّ هذا الاستنتاج يحتاج إلى التنسيب في مستويين على الأقلّ رفعًا لبعض الالتباسات في الفهم وخشية من "عقدة التعميم".

المستوى الأوّل مفاده أنّ القصرين والكاف وجندوبة وغيرها من المناطق الجبليّة لم تصبها المحن بسبب الإرهاب فحسب بل كانت ومازالت ترزح تحت الخصاصة منذ عقود بسبب الحيف في البرامج التنمويّة وهو ما حرص دستور الثورة على تلافيه من خلال اعتماد مبدأ التمييز الإيجابيّ بين المدن والجهات.

المستوى الثاني مداره أنّ تحوّل رمزيّة الجبل تتصدّى له منذ سنوات مقاومة فنيّة دلاليّة من خلال العديد من التظاهرات الثقافيّة آخرها عرض عنوانه "وقت الجبال تغنّي" لعدنان الهلالي جسّده رعاة هواة موهوبون ينحدرون من جبال القصرين، وقد نُظّم هذا العرض أمام بلديّة المنيهلة بولاية أريانة بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثامنة لثورة الحريّة والكرامة.

ختامًا، يمكن للجبل في ثقافتنا أن يستعيد رمزيّته الأصليّة من صفاء وجمال وخير وغيرها من المعاني الطاهرة العطرة، غير أنّ السبيل إلى ذلك يقتضي فضلًا عن الملاحم الأمنية والعسكرية وعيًا فنيًا وثقافيًا وخططًا تربوية وتنموية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن تاكفاريناس.. جدّ الثورة التونسية المنسيّ

"دوّار السلاطنيّة".. حياة في قفص الموت