18-ديسمبر-2019

النفة كانت منتشرة بكثافة في تونس في النصف الأوّل من القرن العشرين (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

في ذاك الصباح الجنوبي من أيام شهر ديسمبر/ كانون الأول، كان الهواء طريًا والسماء بزرقة فسيحة مغرية للروح تغازل الباسقات من النخل في فسيح البوادي التي تطرب لها العين ويجذل لها البال الذي طوّحت به المدن.

كانت سيّارة الأجرة ذات التسعة مقاعد تقلّني مع ركّاب أغلبهم من فئة الشباب، وذلك من مدينة جرجيس إلى مدينة بنقردان بالجنوب الشرقي التونسي حيث العاصمة تبعد أكثر من سبعمائة كيلومتر. وكان أثير إذاعة تطاوين يملأ صمت الطريق، وفجأة دبّت حركة داخل سيارة الأجرة لم آلفها من قبل، إذ استلّ أحد الرّكاب كيسًا بلاستيكيًا بحجم اليد ودسّ إصبعين ليجذب فيما بعد قبضة صغيرة من دقيق بنّي وضعه مباشرة على ورقة بيضاء أسيلة ومستطيلة ليلفّها بسرعة فائقة فتتحول إلى قطعة مربعة الشكل وضعها بعناية بين الشّفة والفكّ العلوي لفمه.

العملية لم تدم سوى بضع ثوان ليلتفت لجليسه ويدعوه قائلًا "تحبّ دير كالا"، فسرت عدوى "الكالا " داخل سيّارة الأجرة فنشط بقية الركاب بما فيهم السائق، وسحبوا أكياسهم الصغيرة التي كانت مخبأة في جيوب ثيابهم وبسطوا أوراقهم البيضاء الصغيرة ونثروا فوقها المطحون البني وتبادل بعضهم الأنواع لتستقر جميع "الكالات" في أفواههم. وعاد الهدوء مجددًا إلى سيارة الأجرة وتواصلت الرحلة بمزاج رائق زادتها أغنية "يا مسافر وحدك وفايتني" لمحمد عبد الوهاب المنطلقة من أستوديوهات إذاعة تطاوين زهاء ونقاء وإحساسًا خفيفًا "بالتقليع".

اقرأ/ي أيضًا: التدخين في تونس: من السّبسي إلى الشيشة الإلكترونية

هذه الحادثة البسيطة جعلتني أنتبه إلى ظاهرة غريبة منتشرة في أغلب مدن الجنوب التونسي وهى الإقبال على تبّغ "النفّة" من قبل جميع الفئات العمريّة وخاصة الشباب.

والنفة كانت منتشرة بكثافة في تونس في النصف الأوّل من القرن العشرين وكانت دخّان الفقراء والمسحوقين فهم يقبلون عليها لأنهم لا يقدرون على شراء السجائر. وكما هو معلوم فإنه ومنذ القرن التاسع عشر وإلى اليوم والدولة التونسية هي التي تحتكر صناعة السجائر والنفة وتوزيعها عبر الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد التي توزع سنويًا 600 مليون علبة من السجائر بأنواعها وأكياس النفة عبر 13 ألف نقطة بيع "قمرق" منشرة على طول البلاد التونسية، لكن الإقبال على استعمال تبّغ النفّة تراجع منذ السبعينيات حتى أنها اندثرت تمامًا من بعض المدن التونسية.

النفة كانت منتشرة بكثافة في تونس في النصف الأوّل من القرن العشرين وكانت دخّان الفقراء والمسحوقين فهم يقبلون عليها لأنهم لا يقدرون على شراء السجائر

ومقابل ذلك، لم تكف المسالك الموازية المتعلقة بجميع أنواع التّبغ والدّخان عن النشاط بما فيها أنشطة مسحوق النفّة التي نجد لها مصانع صغيرة تنتصب عشوائيًا بالعديد من مناطق الجمهورية وأغلبها بالجنوب التونسي وخاصة بتطاوين ومدنين وجرجيس وقفصة.

 أغلب الأوراق المستعملة في الجنوب التونسي هي أوراق فاخرة (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

مصانع النفّة العشوائية تلك، وإضافة إلى أنشطتها داخل تونس، فهي توزع في ليبيا وفي جنوب الجزائر عبر مسالك صحراوية وحدودية معروفة للغرض وأيضًا ببعض الدول الأوروبية وتحديدًا بالبلدان التي توجد بها كثافة من المهاجرين التونسيين مثل فرنسا وبلجيكا والمانيا وإيطاليا، حيث يتمّ إنتاج مئات الاطنان من النفّة سنويًا لتتلقّفها الأفواه فيما بعد بحثًا عن تعديل المزاج أمام قسوة الأيام غير عابئين بمضارّها الصحية التي تؤدي إلى الأمراض الخبيثة بأنواعها.

 لكن اللافت للانتباه هو سريان النفة في الأوساط الشبابية وحتى لدى الأطفال وداخل العائلات وفي أوساط العمل، فالنفة المنتجة خارج المسلك الرسمي للدولة تباع علنًا لدى "الحمّاصة" وأمام المدارس والمعاهد وبالجملة في الأسواق الأسبوعية بمدن الجنوب وبالقيروان وقلة قليلة من مدن الشمال، حتى أن هناك شارعًا في مدينة تطاوين معروف ببيعه للنفّة يسمى لدى قاصديه بـ"شارع النفّة".

اللافت للانتباه هو سريان النفة في الأوساط الشبابية وحتى الأطفال وداخل العائلات وفي أوساط العمل فالنفة المنتجة خارج المسلك الرسمي للدولة تباع علنًا لدى "الحمّاصة" وأمام المدارس والأسواق بمدن الجنوب وبالقيروان

"ألترا تونس" حاول فهم ظاهرة النفّة العائدة بقوّة في السنوات الأخيرة، فالتقى بإحدى مدن الجنوب أحد المزودين للأسواق بمادة النفّة، وكان شابًا جاوز الثلاثين بقليل يمتطي سيارة تجارية صغيرة مليئة بصناديق كرتونية تحتوي أكياسًا بلاستيكية مليئة بمادّة النفّة.

وقال محدثنا في البداية إنه يشتغل في مشروع عائلي وهم يملكون "بابور"، والبابور بلغة أهل الجنوب هو المطحنة ويتزودون من نبتة الدّخان المجففّة (نوع الصوفي الموجهة للنفّة) من عند مجموعة من الفلاحين المرخص لهم تعاطي هذه الزراعة. كما يشترون من أهل الصحراء وخاصة رعاة الإبل نبتة "الرّمث" التي تنكّه طحين النفة وتجعله ذا جدوى للمزاج. وأضاف أن بعض المطاحن الأخرى تزيد بعض النباتات الغابية الأخرى حتى يتميز هذا المنتوج عن ذاك.

وبسؤالي إياه عن إضافة "روث الدّواب" لدقيق النفّة، ابتسم محدثنا قائلًا إنها عادات قديمة متروكة لكن هذا لا ينفي أن بعض الطلبيّات يضاف لها كميّة قليلة من الروث المجفف أو رماد الحطب بطلب من أصحابها وعادة ما يكون هؤلاء من كبار السن الذين يتعاطون النفّة منذ زمن طويل.

وعن مدى قانونية عمليات الإنتاج والتوزيع التي يقومون بها لمادة النفّة التي تحتكرها الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد، بيّن أن مطحنتهم تعمل منذ عقود وتعدّ الطلبيات ثم تقوم بتوزيعها علنًا لأنّ المسألة حسب اعتقاده عادية وتدخل ضمن الأعراف السارية في الجنوب.

وعن "الأوراق الماصّة" التي تستعمل في لفّ مسحوق النفّة لتتحول إلى ما يعرف في الأوساط الشبابية بـ"الكالا"، أسوة بالشباب المغربي الذي يستعمل نفس المصطلح، أوضح محدثنا أن الأوراق تصنع في تونس لكنها رديئة ولا تدوم في الفم مضيفًا أن أغلب الأوراق المستعملة في الجنوب التونسي هي أوراق فاخرة تأتي أساسًا من الجزائر ثم هناك أنواع أخرى تأتي من مصر وليبيا والسودان عبر مسالك التهريب المعروفة. أما ثمنها فيفوق أحيانًا الخمسة دنانير للكنش الواحد من فئة مائة ورقة وتعرف أنواع الورق الجيدة من لونها ومكان صنعها.

أحد مزودي الأسواق بمادة "النفة" لـ"الترا تونس": بعض الطلبيّات يضاف لها كميّة قليلة من الروث المجفف أو رماد الحطب بطلب من أصحابها وعادة ما يكون هؤلاء من كبار السن الذين يتعاطون النفّة منذ زمن طويل

اقرأ/ي أيضًا: سيجارة البين (Pine).. سيّدة شفاه الفقراء والكادحين

هذا والتقى "ألترا تونس" عددًا من شباب وأطفال "الكالا" الذين يتعاطون مادة النفّة بلا هوادة فكانت هذه آراؤهم:

عبد المنعم من مدينة جرجيس، وهو طالب في اختصاص السياحة، يعتبر أن النفة أرحم من السّجائر فهي لا تترك رائحة في الملابس والأصابع وأخفض ثمنًا فسعر الكيلوغرام الواحد يتراوح بين 14 و18 دينارًا تونسيًا ويمكن لهذه الكميّة أن تدوم لما يقارب الثلاثة أشهر بمعدّل استهلاك ثماني "كلالات" يوميًا. ويضيف عبد المنعم أن "الكالا " لا يتجاوز دوامها في الفم أكثر من 12 دقيقة وفي أقصى الحالات 15 دقيقة.

وعن تأثير "كالة النفّة" على صورته كطالب للسياحة، أكّد أنه يستعملها سرًّا لأنّها تبدو غريبة لدى بقيّة الطلبة. وذهب محدثنا إلى أنه روّجها لدى الدائرة الضيّقة لأصدقائه حيث استهجنوها في البداية لكنها راقت لهم بعد أن عدّلت لهم مزاجهم، فهي تزيل التوتّر الذي يحدثه إيقاع الدراسة والامتحانات، وفق تقديره.

أما عبد المجيد، وهو تلميذ بالسنة الثالثة ثانوي، بأحد معاهد تطاوين، وقد التقاه "ألترا تونس" بأحد مقاهي مدنين،  فقد أكّد أنه منذ طفولته وجد النفّة بمنزل العائلة الكبرى وهي توضع على ذمّة جميع أهل الدّار وخاصة الشيوخ والعجائز الذين يعتبرونها دواء للزكام والتهابات الحلق والجروح.

توضع "الكالا" بعد لفها داخل الفم (رمزي العياري/ الترا تونس)

وأضاف أنه جرّب أولى "الكالات" منذ المرحلة الإعدادية فقد وجد أنها تمنحه حالة من الاسترخاء والراحة فاستمرّ في استعمالها خلسة في البداية إلى أن أصبح يستعملها علنًا، موضحًا أن أغلب تلاميذ معهده إناثًا وذكورًا يدمنون النفّة ويتبادلونها فيما بينهم ويقتنوها من "الحمّاصة" المنتشرين في محيط المعهد. وأشار ضاحكًا " إيجا لساحة اللّيسي بعد كل راحة وشوف كيفاش مغرّسة بالكالات".

وبتنقّل "ألترا تونس" إلى محيط أحد معاهد مدينة جرجيس من ولاية مدنين، والتحدّث إلى مجموعة من التلاميذ، لاحظنا أن العديد منهم يضعون في جيوب ميداعاتهم ومحافظهم المدرسية أدوات النفة والمتكونة أساسًا من الأكياس الصغيرة والشفافة والتي تحتوى مسحوق النفة والأوراق الصغيرة التي تستعمل في صنع "الكالا ".

وقد طلب مني أحدهم مازحًا أن أجرّبها حتى أفهم سرّ متعتها. كما ذكر تلميذ آخر أنّه أقبل على النفة منذ سنوات الدراسة بالابتدائي بتشجيع من أترابه وعدم اعتراض من والديه. وأوضح تلميذ ثالث أن المعهد حاول الحد من هذه الظاهرة بالعقاب تارة والنصح تارة أخرى لكن دون جدوى فالتلاميذ "ينفّون" غير مبالين بالتوجيهات والنصائح الصحية. وتدخّل تلميذ رابع قائلًا إن والده عندما يجلس في السهرة وسط العائلة ليعد بعض " كالات النفّة " دائمًا ما يردد قولته الشهيرة " راس بلا كيف يلزمو سيف".

سفيان الفراحتي (مختص في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": حالة الإحباط لدى الشباب تؤدي الى الإدمان على النفّة وغيرها  

حملنا التفاصيل التي التقطناها من الحوارات التي أجرينها مع "شباب الكالا " ببعض مدن الجنوب التونسي  للمختص في علم الاجتماع والباحث بالجامعة التونسية الأستاذ سفيان الفراحتي الذي بيّن أن استعمال التّبغ قديم على الأرض التونسية بحكم موقعها الجغرافي الذي يتقاطع مع المسالك التجارية البحرية والبرية وخاصة الصحراوية، ممّا خلق بعض العادات التي ترسخت في المجتمع وبقيت تتوارث الى اليوم ومنها تبغ النفّة الذي كان متداولًا في الجنوب الصحراوي والبدوي بحكم أنها مجتمعات قبلية محافظة تتوخى التقية الاجتماعية والمحاذير الدينية، لكن مع التغيرات الطارئة على المجتمع التونسي بحكم حركة التاريخ فإن العادات التبغية تغيرت وحلّ محلّ النفّة تبغ السجائر بأنواعها.

وأوضح المختص في علم الاجتماع أنّ استعمال تبّغ النفّة في الجنوب التونسي لم ينقطع وظلّت هذه المادة منتجة محليًّا لدى الصحراويين لعدة أسباب منها بعد المسافات عن المناطق الحضرية فتحوّلت إلى سلوك اجتماعي اقتصادي منصهر في حياتهم اليومية.

 وعن ظاهرة إقبال الشباب والأطفال بالعديد من مدن الجنوب التونسي على مادة النفّة وتحويلها الى " كالات" منعشة ومعدّلة للمزاج، بيّن الفراحتي أن ذلك يندرج في إطار عام من التردّي الاقتصادي حيث يصعب الآن على الشباب وغير الشباب من الأجراء شراء سجائر جيدة سواء تلك المنتجة محليًا أو الماركات المستوردة، فعاد إلى العادات القديمة ووجد ظالته فيها وانكفأ عليها لأنها غير مكلفة، وبذلك تبقى تونس الأولى عربيًا في استهلاك التبغ بأنواعه والأولى أيضًا في نسب التشغيل في قطاع التبغ والدخان حيث يسهم هذا القطاع سنويًا بنسبة 8 في المائة في الميزانية العامّة للدولة.

لا يزال المجتمع التونسي ينتج مسحوق النفة بآلاف الأطنان سنويًا بإرادة مغلوطة من الدولة عبر تدعيم فلاحة التبغ

ومن وجهة نظر نفسية اجتماعية، أكّد المختص في علم الاجتماع أن حالة الإحباط البادية لدى الشباب التونسي اليوم وضيق الأفق وغموض المستقبل تجعلهم فريسة سهلة للتبغ بأنواعه وخاصة النفّة وحتى غير النفّة من  الآفات المنشرة والمستعادة مثل الخمور المصنّعة محليًّا على غرار ما يسمي في الجنوب التونسي "بالّاقمي" أو"القيشم".

إنّ المطّلع على الأرقام والمؤشرات المتعلّقة باستعمال التّبغ والدخّان بتونس يقف مذهولًا أمام ما يحدث من انفلات واستهانة بصحّة أبناء الشعب وخاصة الشباب. ففي الوقت الذي تضع فيه المجتمعات المتقدمة استراتيجيات دقيقة للحدّ من التدخين وسريانه في المجتمع، مازال المجتمع التونسي ينتج مسحوق النفة بآلاف الأطنان سنويًا بإرادة مغلوطة من الدولة عبر تدعيم فلاحة التبغ على مساحة 1900 هكتار لتنتج سنويًا 2540 طنًّا من أوراق التبغ بجميع أصنافه وعبر مصانع الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد أو خارج المسالك الرسمية والتي تروّج علنًا على مرأى من وزارات الصحة والتعليم والمرأة والعدل.

ولعلّ المنطق يفترض أنّ تعديل مزاج المجتمع والشباب والأطفال على وجه الخصوص لا يكون قطعًا بتوفير مناخات إعداد "كالات النفّة" وإنّما عبر زراعة الأمل وفتح الآفاق أمام أحلامهم الصغيرة. فمن المسؤول؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

تاكسي فردي مقابل "تاكسي سكوتر"... من يحسم الجدل؟

"الزهايمر" أو علّة الذاكرة.. حالات وحلّ