17-فبراير-2019

سيجارة قاتلة ولكنها بخسة يقتنيها ضعاف الحال (صورة توضيحية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

"البين (Pine) ولا مدّان اليدين"، عبارة رددها أحد ممّن التقيناهم أثناء إعداد هذا التحقيق، عبارة ظلت عالقة في الذهن أعود إليها كما يعود الشاعر إلى رويّه عند نظمه للقصيدة. قالها صاحبها في هيئة ساخرة، وقد خرجت من حنجرته بريق مرّ لتعكس خطب ما يحدق بالناس في وطن منهك تآكلت أسواره فتهافت عليه أمراء التهريب وغزته السلع المهربة المدمرة من كل فج عميق.

سيجارة البين (Pine) هي واحدة من أكثر المواد المهربة إلى تونس عبر الحدود الشرقية والغربية ضمن أكثر من 80 نوعًا من السجائر الصينية التي تقطع آلاف الكيلومترات بحرًا وبرًا ضمن مسالك وعرة لا تعترف بحدود البلدان وقوانينها، لتصل في نهاية الأمر إلى شفاه الفقراء والكادحين والعاطلين وتتسلل إلى أبدانهم لتفرّخ سرطانات قاتلة.

سيجارة البين (Pine) هي واحدة من أكثر المواد المهربة إلى تونس عبر الحدود الشرقية والغربية ضمن أكثر من 80 نوعًا من السجائر الصينية

تسكن "الزرقاء"، بخسة الثمن، أرصفة المدن وزواياها ومنعطفاتها ويتغير سعرها مع توغّل الليل في ضواحي المدن التونسية وخاصة الأحياء الشعبية والفقيرة بالعاصمة والتي يسميها الجامعي التونسي أحمد شبشوب بـ"أحزمة العنف"، ويجعلها الليل تتمنع على طالبيها فيهيمون في الأرض بحثًا عنها.

كان سعر علبة سيجارتنا إلى حدود 2016 لا يتجاوز الدينار الواحد لكنها تُباع اليوم بأكثر من دينار ونصف، وإن تبقى السيجارة الأقل ثمنًا في تونس ولا ينافسها أي نوع آخر من السجائر الصينية المهربة.

"البين" سيجارة الفقراء والكادحين وعمال المصانع والتلاميذ والطلبة، تحول حضورها داخل مجتمع المدخنين إلى ظاهرة تشكل خطرًا كبيرًا على صحة مستهلكيها حتى أن أحد المستجوبين قال لنا مازحًا: "على الدولة أن تحدث قسمًا خاصًا بمتعاطي سيجارة "البين" بمستشفى محمود الماطري بأريانة (مستشفى متخصص في الأمراض الصدرية ويوجه إليه تحديدًا مرضى سرطان الرئة).

يغوص "الترا تونس" في عالم سجائر "البين"، أماكن بيعها، ومستهلكوها، كيفية تهريبها وأيضًا مخاطرها على الصحة.

البين (Pine).. كورية مقلّدة صينيًا لكن الأهم أنها رخيصة!

توجد في شارع الحرية بالعاصمة نقاط تكاد تكون لا مرئية لبيع السجائر المهربة يشرف عليها شباب متمرّس في مهنته، يحسن محاورة الزبائن ويبسط بين أيديهم السجائر المنكّهة وجميع أنواع المعسّل الخاص بالشيشة (النرجيلة)، ويعدهم بأنواع بعينها تصل في مواعيد قادمة. وقد أطلتُ الفرجة على "نصْبة" جذابة لتوفر أنواع عديدة من الدخان والسجائر تخاتل العين بحسن ترصيف العلب.

اقرأ/ي أيضًا: التدخين في تونس: من السّبسي إلى الشيشة الإلكترونية

بعد أن أفصحت عن صفتي والالتزام بعدم ذكر اسمه الحقيقي، أخبرنا عبد الباسط (اسم مستعار)، البائع في "النصبة"، أنه مختص في بيع أنواع السجائر الصينية وأنه لا يعدو أن يكون سوى "صانع" يعمل لصالح أحد التجار الصغار والذي بدوره يشترى السلعة من تاجر آخر بـ"سوق بومنديل"، يقول: "عرفي عندو عشرة نصب في وسط البلاد، ثلاثة منهم يبيعو بالديتاي (بالتفصيل) والفراك... المهم السلعة ما تباتش".

عبد الباسط (اسم مستعار): سجائر "البين" مطلوبة في تونس بسبب سعرها البخس ويقتنيها التلاميذ والشباب العاطل وعملة الحضائر

أخذت علبة "بين" قلّبتها وقد كُتب عليها أنها مصنوعة في كوريا الجنوبية. سألت عبد الباسط عن هذه الكورية الشهيرة في تونس فردّ ضاحكًا بأنه فعلًا "البين" سيجارة كورية ولكنها "ضُربت" في الصين ككل ماركات السجائر في العالم "فكل شيء يأتي من الصين ولا حصانة هناك لأي منتوج أو مادة".

يضيف محدثنا أن "البين" مطلوبة في تونس بسبب سعرها البخس مبينًا أن طالبيها هم من التلاميذ والشباب العاطل وعملة الحضائر والمطاعم وبعض الموظفين. وقال إنها مطلوبة من النساء والرجال على حدّ السواء مشيرًا بأن هناك سيجارة أخرى أصبحت تنافس "البين" منافسة شديدة وهي سيجارة "لوريس" التي يصفها بالبيضاء النحيفة وهي منافسة تمس الجودة والسعر، حسب تأكيد عبد الباسط.

تقبل الفئات الضعيفة على شراء سجائر "البين" لبخس ثمنها (صورة تقريبية/الشاذلي بن ابراهيم/Getty)

سألت، في الأثناء، المنجي (اسم مستعار)، وهو يشتغل بمكتب محاماة بشارع الحرية وقد جاء طالبًا سيجارة "البين" الزرقاء اللجيّة من "نصبة" عبد الباسط، عن اختياره لهذه السيجارة "الخطيرة"، فأوضح أنّ صعوبة الحياة في تونس هي التي دفعته دفعًا لهذا النوع المجهول من السجائر وفق تعبيره.

وحمّل محدثّنا الدولة مسؤولية ما يحصل من فوضى عارمة في قطاع التدخين متهمًا إياها بالتواطؤ مع بارونات تهريب السجائر. وأضاف أنّ "البين" سعرها مغر للعديد من الشرائح العمالية لذلك هي الأشهر لديهم مؤكدًا أن الجميع يعلم مضارها وعواقب تدخينها "لكن ما باليد حيلة أمام صعوبة الحياة في تونس. وختم مازحًا: "على الدولة أن تسارع بإحداث قسم خاص بمدخني هذه السيجارة بمستشفى محمود الماطري بأريانة وتطلق عليه قسم البين".

أمّا الطالب أسامة العكرمي، فبيّن منذ بدء حديثه لـ"ألترا تونس"، أن أغلب الطلبة اللذين يعرفهم هم من هواة هذه السيجارة ترافقهم أينما حلّوا وخاصة خلال ليالي الاستعداد للامتحانات.

المنجي (اسم مستعار): الدولة مسؤولة عما ما يحصل من فوضى عارمة في قطاع التدخين وهي متواطئة مع بارونات تهريب السجائر

وروى محدثنا طرفة تمثلت في أنه تعرّف على إحدى الطالبات الجميلات الميسورات، وخلال اللقاء الأول بينهما في إحدى المقاهي الفاخرة، أخفى سجائر "البين" في علبة "مارلبورو "الأمريكية، لكن رفيقته طلبت منه سيجارة لأنها نسيت علبتها بالمنزل فاضطرّ لتقديمه إياها. وقضى طيلة الجلسة يعدد مزايا سيجارة "البين" الكورية المقلدة في الصين وأن سعرها البخس لا يعنى أنها ضارّة، لكنها كانت الجلسة الأولى والأخيرة ويعتقد أسامة أن تلك السيجارة جعلته يخسر طالبة جميلة.

عم صالح، عامل حضيرة بناء تجاوز الخمسين عامًا، مدّ يده الخشنة والتقط علبة "البين" وفتحها مباشرة ومن ثمّة أشعل واحدة ودفع بها باتجاه شفتيه المتيّبستين جرّاء التعب ثم قام بنقد البائع ثمن العلبة. سألناه عن "البين"، فأجاب حرفيًا: "البين ولا مدّان اليدين"، لخّص عم صالح بجملته المكثّفة والمعبّرة كل شيء.

حمّاص: نضطرّ للتعامل مع المهربين

التقى "ألترا تونس" بواسطة أحدهم "حمّاصًا" (صاحب محل لبيع السجائر والفواكه الجافة) بساحة "الباساج" بوسط البلد الذي أكّد لنا أن التونسيين في السنوات التي تلت الثورة أصبحوا أكثر شراهة إزاء التدخين فهم يطلبون جميع الأنواع: الأصلي والمقلد، المحلّي والأجنبي، الفاخر والرديء "لكن ما أصبح لافتًا للانتباه هو الاقبال على السجائر الصينية البخسة الثمن وهو يعود إلى غلاء المعيشة الذي بات يهدد الشعب التونسي بأسره خلال هذه السنوات الأخيرة"، وفق محدثنا.

اقرأ/ي أيضًا: "أنا أسكر.. إذًا أنا موجود": من الدوام إلى الحانة

وعن مصدر السلع من السجائر التي تملأ المحل، قال "الحمّاص" إن مصادرها متعددة منها ما هو يأتي عبر التزوّد القانوني وخاصة السلع التونسية المنشأ، أما الفاخر المستورد من أوروبا فمنه ما هو قانوني ومنه ما هو مهرب. وبخصوص السجائر المصنوعة في الصين، يشير بأنها ممنوعة في تونس "لكنها موجودة في كل مكان والزبائن يطلبونها بإلحاح فنضطر هنا للتعامل مع شبكات تهريبها"، مشيرًا إلى أنّ محلّه كان في البداية يبيع هذه السجائر خلسة لكنه في ظل غياب الرقابة أصبح يبيعها في العلن وعلى مرأى الجميع، كما يقول.

وبحكم موقع محل "حمّاص" وسط البلد، ذكر محدثنا أنه يبيع أكثر من ألفي علبة سجائر صينية مهربة يوميًا هذا إلى جانب نصيبه من السجائر المحلية وعلى رأسها سيجارة "الأنتار" (20 مارس الدولية)، مبينًا أن العديد من باعة الرصيف يتزوّدون من عنده. ويقول إن الإقبال الكبير على السجائر المهربة يأتي لتدني سعرها، أما الشرائح التي تقبل على السجائر المهرّبة من الصين تحديدًا فهي، على حدّ تعبيره، فئة "الزواولة" (بسطاء الحال).

عميد بالديوانة التونسية: 300 مليون علبة سجائر تُهرّب إلى تونس شهريًا

لمزيد الإيضاح بخصوص هذا الموضوع، اتصلنا بالعميد بالإدارة العامة للديوانة التونسية (ش.ل) الذي فضل عدم ذكر اسمه، وهو من المسؤولين الذين باشروا ملفات التهريب ومنها ملف تهريب السجائر. أكد في بداية حديثه أن ظاهرة السجائر المهربة هي ظاهرة تهم تقريبًا كل بلدان العالم، مشيرًا أن تونس تشتغل على هذا الملف ضمن معالجاتها لظاهرة التهريب بشكل عام وهي تقوم بعملية تشبيك إقليمي في مستوى تبادل المعلومات والخبرات.

ش.ل (عميد في الديوانة): 300 مليون علبة سجائر تُهرب إلى تونس شهريًا عبر الحدود الغربية مع الجزائر والحدود الشرقية مع ليبيا

وأكد العميد أن أكثر من 300 مليون علبة سجائر تُهرب الى تونس شهريًا عبر مسلكين أساسيين، الأول من الجهة الغربية على الحدود الجزائرية ومنه تهرب السجائر الجزائرية والأجنبية، والثاني على الحدود الجنوبية الشرقية المفتوحة على ليبيا ومنه تتأتى جميع انواع السجائر الصينية والكورية المقلدة في الصين إضافة للسجائر التونسية المقلدة في اليونان.

اقرأ/ي أيضًا: حينما تصبح الديوانة التونسية ممرًا آمنًا للتهريب!

وأضاف أن طرق السجائر سواء عبر البحر أو البر هي طرق موازية لها أباطرتها ومموليها ولها حماتها في العديد من دول العبور ومنها تونس التي تنامى فيها عدد مهربي السجائر بشكل ملحوظ، و"جراء ذلك يدفع المجتمع والدولة الضريبة كاملة ما يؤدي لانعكاسات سيئة على الاقتصاد الوطني وعلى صحة المواطنين".

وذكّر العميد في الديوانة التونسية أن الدولة تحتكر حصرًا قطاع السجائر وتديره منذ 1891 ما يدرّ على ميزانيتها إيرادات هامة، لكنه يؤكد أن هذه العائدات المالية تراجعت في السنوات الأخيرة إلى حدود 40 في المائة بما قدره 3.1 مليار دينار جراء أنشطة التهريب المكثفة التي عرفت أوجها خلال السنوات الأخيرة.

وختم محدثنا أن الفرق المختصة في الديوانة التونسية تداهم المخازن وتسجل المخالفات بالتنسيق مع وزارة الداخلية من أجل إحالة المهربين المتورطين على القضاء، مؤكدًا أنها تحجز سنويًا ملايين علب السجائر وتقوم بإتلافها بصفة فورية.

وزارة الصحة: 100 مليون دينار سنويًا للعلاج من أمراض السجائر المهربة

الدكتور محمد الرابحي، مدير إدارة حفظ الصحة والمحيط بوزارة الصحة يؤكد لـ"ألترا تونس" أن جميع أنواع السجائر الصينية المهربة إلى تونس تحتوى على مركبات خطيرة مثل "نافتالين بروبانول" و"دي كاربوكمايل" و"ثاني هايدروكسبتراميد"، وهي كلها تستهدف الـ "ADN" وتتسبب في سرطانات غريبة بشكل سريع مثل سرطان الأنسجة والمثانة. وأضاف، في هذا الجانب، أن الدولة التونسية تصرف ما قدره 100 مليون دينار سنويًا للعلاج والاقامة في المستشفيات جراء تدخين السجائر المهربة.

محمد الرابحي (وزارة الصحة): جميع أنواع السجائر الصينية المهربة إلى تونس تحتوى على مركبات خطيرة تسبب سرطانات غريبة بشكل سريع

بالنهاية رغم المحاذير الصحية التي تجمع على خطورة التدخين وخاصة تلك المصنعة في الصين، تظل السجائر عنصرًا محددًا للمكانة في المشهد الاجتماعي إذ تدل أحيانًا على الفخامة وأحيانًا أخرى على الفقر المدقع. والسيجارة لها أخواتها أيضًا مثل الجريدة والقهوة وصفحات الأنترنت على هاتف ذكي، هي جزء من المعنى الذي يبحث عنه الإنسان وطريق نقطعه بشراهة نحو الموت الحتمي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع

 "موهّر فرار".. ما معنى أن تكون "فرار" في تونس